جبهات الإسناد.. عمق التأثير والسيناريوهات المحتملة

 

الثورة / وكالات

برغم الغارات الإسرائيلية التي أشعلت لبنان، وبرغم عدد الضحايا الكبير للحرب على لبنان، لم تخرج بيانات جبهة الإسناد اللبنانية عن أدبياتها، القائمة على “وحدة الساحات” وربط جبهة مصير لبنان بوقف حرب الإبادة على غزة وذلك هو الخطاب نفسه الذي يتبناه اليمن.
فمنذ 8 أكتوبر تشهد الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة توترا شديدا وتبادلا يومياً للنيران الصاروخية بين جيش الاحتلال، وحزب الله الذي حافظ على مستوى مواجهة لا تقود بلاده إلى حرب شاملة مع الاحتلال، مركزاً في تهديفه العسكري على المواقع العسكرية الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة.
غير أن المواجهة المحسوبة تحولت بمرور الوقت إلى معركة “حساب مفتوح” غداة اتساع رقعة الهجمات الإسرائيلية لمحاولة تحييد حزب الله، وذلك بتفجير أجهزة النداء الخاصة بعناصره، واغتيال قادته العسكريين، بدءا من فؤاد شكر، وإبراهيم عقيل، وأحمد وهبي، وانتهاء بإبراهيم قبيسي، وشنّ غارات جوية كبيرة أسفرت عن مئات الشهداء وآلاف الجرحى من لبنان جنوبا إلى بقاعه، مروراً بالضاحية الجنوبية لبيروت، دون أن يغير ذلك من لهجة حزب الله بأن كل ما يجرى أثمان مقبولة “على طريق القدس”.
أما جبهة اليمن بحسب المركز الفلسطيني للإعلام فقد عملت على محاصرة إسرائيل اقتصادياً، نتيجة التأثير المتتالي لضربات القوات المسلحة اليمنية في ممرات الملاحة بالبحر الأحمر وخليج عدن، التي تستهدف السفن الإسرائيلية التجارية أو التي تتعامل شركاتها مع الاحتلال، فانعدم النشاط التجاري في ميناء إيلات الاستراتيجي، وتوقف استقبال السفن والحاويات، مما دفعه نحو واجهة الإفلاس.
تأثير هجمات اليمن بالأرقام
وفق الرئيس التنفيذي لميناء إيلات غدعون غولبر، بلغت خسائر الميناء 50 مليون شيكل (14 مليون دولار)، قابلة للزيادة، كما امتد تأثير الضربات اليمنية إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث أكدت أكثر من 22 شركة عالمية متخصصة بالنقل البحري في أوروبا وآسيا ارتفاع أجور الشحن بين آسيا وأوروبا بأكثر من 173%، وفق بيانات رسمية.
ويأتي هذا الارتفاع نتيجة تحويل السفن إلى طرق بديلة حول إفريقيا وهو ما يضيف أكثر من 11 ألف ميل بحري لكل رحلة، وهو ما يعني بلغة الأرقام زيادة تقدر بنحو مليون دولار في تكاليف الوقود لكل رحلة.
وتوضح دراسة نشرها معهد أبحاث الأمن القومي بعنوان: “تحليل جيو – اقتصادي لتداعيات هجمات الحوثيين على التجارة الخارجية الإسرائيلية”، أن حصة التجارة الإسرائيلية المعرضة للهجمات اليمنية في عام 2022م بلغت نحو 9.2% من إجمالي التجارة الإسرائيلية (15.7% من إجمالي الواردات و2.9% من إجمالي الصادرات)، وهو ما يمثل نحو 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، وهذا هو احتمال الضرر الذي تتعرض له التجارة الإسرائيلية وليس الضرر الفعلي.
وتتناول الدراسة تأثير الهجمات اليمنية على التجارة الخارجية الإسرائيلية من وجهة نظر جغرافية اقتصادية، وتحاول قياس تأثير الضرر المباشر على التجارة الخارجية الإسرائيلية.
وعلى صعيد التصدير، شهد عام 2022م تصدير نحو 455 ألف حاوية إسرائيلية، منها نحو 30 ألف حاوية ذهبت إلى آسيا، ووفقاً لحسابات الدراسة، فإن التكلفة الإجمالية التي يتحملها الاقتصاد الإسرائيلي لتصدير نفس الكمية تبلغ نحو 75 مليون دولار في الحساب السنوي، بالإضافة إلى تأثر تصدير الفوسفات من ميناء إيلات، حيث يتم التصدير إلى الأسواق الآسيوية حالياً عن طريق نقل الفوسفات في شاحنات خاصة من مصانع البحر الميت في منطقة سدوم إلى ميناء إيلات.
وتقدر الدراسة إجمالي التكاليف التي يتحملها الاقتصاد الإسرائيلي من تصدير الحاويات والفوسفات على الطريق حول أفريقيا ما بين 100-150 مليون دولار في الحساب السنوي، ويبلغ إجمالي التكاليف التي يتحملها الاقتصاد (الصادرات والواردات) تقريباً في حدود حجم نحو 350 إلى 400 مليون دولار سنوياً.
وفي هذا السياق، يشير الباحث في مركز مدى الكرمل، د. إمطانس شحادة، إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي في وضع مأزوم، وهناك توقعات مستقبلية متشائمة.
ويوضح شحادة أن 90% من التجارة الخارجية الإسرائيلية تأتي عبر الموانئ، حيث يأتي 50% من الناتج المحلي من التجارة الخارجية التي تؤثر تعطيلها على الاقتصاد الإسرائيلي وعلى ارتفاع الأسعار، كما يضغط ذلك على الموانئ الأخرى في حيفا ويزيد من انتظار السفن في الموانئ، مما يرفع تكاليف الشحن ويؤدي إلى زيادة أسعار المواد الاستهلاكية.
وبحسب شحادة، أدى إغلاق البحر الأحمر أمام السفن إلى نقص في السلع في إسرائيل، خاصة وأن العديد من المواد الخام تأتي من شرق آسيا، مما يسبب تعطيلًا في الدورة الاقتصادية وزيادة التضخم والبطالة، مما يؤدي إلى تراجع الاقتصاد الإسرائيلي دون وجود جهود لحل الأزمة.
وإزاء مشهد جبهات الإسناد الأكثر تأثير في مسار حرب الإبادة على غزة، واحتمالات تحولها إلى حرب شاملة، تؤكد ورقة نشرها مركز الجزيرة للدراسات، أن اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر أخرج قواعد الاشتباك الإسرائيلية اللبنانية عن مسارها، إذ هزت هذه التطورات الأسس الحاكمة لتلك القواعد.
وتقول ورقة تحليل السياسات “إسرائيل وجبهات الإسناد: الصراع على توازن ردع جديد” المنشورة بتاريخ 2 أغسطس 2024م، إن هذه التطورات تبين أن الطرف الذي يريد أن تغيير قواعد الاشتباك القائمة هو نتنياهو، لأنه يقدِّر أن استقرار الوضع الحالي واستمراره لن يحقق أهدافه؛ ذلك أن التوازن الحالي يفرض عليه خيار التسوية السياسية بعد إخفاق الخيار العسكري، حتى يستعيد المعتقلين من غزة، وتتوقف عمليات الإسناد العسكرية التي يشنها محور المقاومة، “إلا أن نتنياهو لا يريد دفع أثمان هذه التسوية السياسية أو القبول بالترتيبات الناتجة عنها”.
وتضيف أن نتنياهو سيضطر إلى تقديم الحساب على إخفاقه في منع هجوم 7 أكتوبر، وإلى الإجابة عن اتهامات بالفساد قد تفضي إلى سجنه وإنهاء حياته السياسية بالكامل، “أما عن وضع دولة الاحتلال، فإن حماس ستظل تقاومها في غزة، وسيظل حزب الله يقاتلها في جنوب لبنان وفي شمال فلسطين المحتلة، وسيظل اليمنيون يمنعون الملاحة القادمة إلى دولة الاحتلال عبر البحر الأحمر”.
الضغط عسكرياً لفك ارتباط الجبهات
وتوضح الورقة أنه وعلى المدى البعيد، يوقع خيار التسوية السياسية إسرائيل في مأزق استراتيجي غير مسبوق. فهي لم تعد تملك خيارات تضمن أمنها، فلا هي قادرة على إخضاع أعدائها بالقوة، ولا بالمكافآت الاقتصادية مقابل قبولهم وضع الأبارتايد، وهي ترفض حقهم في دولة مستقلة، كما نصَّت اتفاقية أوسلو، بعد أن صوَّت الكنيست بأغلبية ساحقة على رفض قيام دولة فلسطينية.
وإذ يراهن الاحتلال الإسرائيلي على خيار استعمال القوة الساحقة لإرغام الفلسطينيين على الهجرة أو القبول بالعيش تحت نظام فصل عنصري، تؤكد الورقة أن قوة حماس المسلحة تقف عائقا أمام ذلك، إلى جانب انخراط فصائل إسناد المقاومة الفلسطينية مع تنامي قوتها جميعًا بمرور الوقت، “فإذا حصلت هذه الفصائل على وقف إطلاق نار دائم أو طويل الأمد، ستعزز من قدراتها القتالية بما يشكل تهديدًا جديًّا لأمن إسرائيل يردعها إن هي فكرت مستقبلًا في شن حرب أخرى بهدف إخضاع الفلسطينيين”.
ولهذه الحسابات، قدَّر نتنياهو أن إنجاح الرهان العسكري يقضي بفك الارتباط بين جبهة غزة وباقي جبهات الإسناد، سواء القتالية أو الداعمة بالمال والعتاد؛ فشرع في شن ضربات عسكرية على حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن واستهداف الداخل الإيراني، لدفع هذه الجبهات إلى الاختيار بين وقف إسناد المقاومة في غزة أو المخاطرة بخوض حرب شاملة قد تردعهم تكاليفها المرتفعة عن مواصلة الإسناد، وفقاً للورقة نفسها.
مسار مشترك وطوق إنقاذ
وفي هذا الإطار يقول الباحث في الإعلام الدولي عماد عنان، إن الاحتلال الإسرائيلي ينطلق من تصعيده مع المقاومة الإسلامية في لبنان من قاعدة أن استمرار حزب الله كجبهة إسناد سيعقّد المشهد جنوبًا في القطاع، كما سيزيد من إرهاق الجيش واستنزاف إمكانياته وقدراته العسكرية التي تأثرت بشكل كبير بسبب المناوشات مع الحزب.
ويلفت إلى ما يراه جنرالات جيش الاحتلال من ملائمة الظرف الحالي لتصفية حسابات قديمة مع الحزب، وفرض قواعد اشتباكات جديدة غير التي فرضتها حرب تموز 2006م، في ظل حالة الخذلان الإقليمي والدولي.
ويضيف عنان: “ترى القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية أن الجبهة الشمالية مع حزب الله، وما يحدث في قطاع غزة هو مسار مشترك لمعركة واحدة ذات جبهتَين، لا سيما بعد انخراط الحزب في خط المواجهة، ليتحول مع الوقت من جبهة إسناد إلى طرف في الحرب وإن كان بشكل غير معلن رسميًا”، مشيرا إلى أن ما أحدثته جبهة لبنان من حرج سياسي وعسكري بإبقاء مناطق الشمال ساخنة وفي مرمى نيران الحزب، ما يُفشل المساعي المستمرة لعودة مستوطني الشمال الذين باتوا عبئًا ثقيلًا على الكيان، اقتصاديًا واجتماعيًا.
ويرى عنان أن تجرأ نتنياهو على فتح جبهة لبنان، بالتزامن مع التعثر في قطاع غزة، اعتماداً على استغلال مقاربات الحزب وطهران في عدم الرغبة بحرب مفتوحة قد تطيح بالمكتسبات التي تحققت على مدار عقدين كاملين، وعليه صعّد من العمليات العسكرية ضد لبنان.
وفي السياق نفسه، ترى ورقة تحليل السياسات، أن من شأن رفع احتمالات المواجهة الشاملة أن يطيل في أمد الحرب، فيظل التحالف الإسرائيلي الحكومي متماسكًا ليبقى نتنياهو رئيسًا ويضمن الإفلات من المحاسبة والمحاكمة، وهو ما يعني الدفع بقضية الأسرى الإسرائيليين في غزة إلى أدنى الأولويات، والحصول على المزيد من الدعم العسكري الأمريكي، والإجماع الذي فقده داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري الأمريكي، وتذهب إلى أبعد من ذلك بتمكنه من تجميد إجراءات العزلة التي شرعت فيها عدة دول تنفيذًا لقرارات محكمة العدل الدولية، مثل وقف الأسلحة إلى إسرائيل، أو قد يعكسها إلى دعم جديد.
وأمام هذا الترقب، وفي خضم الحسابات المعقدة لمختلف الأطراف، ترسم الورقة 3 سيناريوهات محتملة، يعد سيناريو “الصفقة المتأخرة” الأكثر ضعفاً من بينها، إذ يقدر استسلام إسرائيل لحرب الاستنزاف، نتيجة الأضرار البالغة التي تسببها هجمات حزب الله وتعجز منظومات الدفاع عن وقفها، وهو ما قد يقود إلى إسرائيل التوقف والقبول بصفقة مع المقاومة الفلسطينية، وتكون نتيجتها خسارة نتنياهو لمنصبه وتردي وضع إسرائيل الاستراتيجي.
أما السيناريو الثاني فهو الحرب الإقليمية الشاملة، حيث قد يتدحرج الوضع إلى هذا السيناريو إذا ردت جبهات الإسناد بهجمات واسعة توقع خسائر فادحة تصدم الرأي العام الإسرائيلي والأمريكي وتوقع القيادة الإسرائيلية في حرج شديد، حينها سترد إسرائيل بشن هجمات مدمرة بدعم أمريكي وغربي تقابلها جبهات الإسناد بالمثل، ليتصاعد الوضع إلى حرب شاملة تخرج عن السيطرة وتُحدث خرابًا هائلًا في مناطق واسعة.
أما السيناريو الثالث فيتمثل في حرب استنزاف واسعة النطاق، حيث يستميت نتنياهو في شن الهجمات بعد كل رد من جبهات الإسناد، لكن ردوده ستكون على الأغلب متباعدة ومحصورة في الزمان والمكان ومحدودة التكلفة، وسيدفع هذا التطور إلى تشكل نمط جديد من حرب الاستنزاف، وهو منطقة رمادية بين الهدوء التام والحرب الشاملة.
وترى الورقة أن هذا السيناريو هو الأكثر احتمالًا، “فهو يخدم أجندة نتنياهو، لأنه يخلق أجواء الحرب التي يريدها لتبرير استمراره في السلطة وفك الارتباط بين المقاومة الفلسطينية وجبهات الإسناد، ويضمن له، من ناحية أخرى، استمرار تدفق الدعم الأمريكي على جميع المستويات”.

قد يعجبك ايضا