أي مآلات منتظرة لاتفاق بكين بين فصائل الانقسام الفلسطيني

الاتفاق على المبادئ لم يتجاوز شيطان التفاصيل:

 

على مائدة الوسيط الصيني اجتمعت الفصائل الفلسطينية بمحادثات افضت إلى «إعلان بكين» للمصالحة وإنهاء الانقسام حدد مبادئ وأسس إعادة توحيد الصف الفلسطيني غير أن خلوه من الآليات التنفيذية التفصيلية ابقاه بعيدا عن واقع الانقسام العاصف بالشارع الفلسطيني منذ 17 عاما لتظهر ملامح تشييع الاتفاق مبكرا في الاشتباكات المسلحة والتظاهرات وحالة التوتر التي شهدتها العديد من مدن الضفة الغربية بعد التوقيع على «اتفاق بكين» الذي اضيف إلى سلسلة اتفاقات فلسطينية مماثلة لم تجد طريقها للتنفيذ.

الثورة  / أبو بكر عبدالله

لم يكن مفاجئا توقيع الفصائل الفلسطينية الـ 14 المشاركة في محادثات بكين الثانية على «إعلان بكين للمصالحة وإنهاء الانقسام» فالجميع وقعوا هذه المرة بما التزموا به في اتفاقيات سابقة بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة طبقا لقرارات الأمم المتحدة وحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وإنهائه وفق القوانين الدولية وتشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة بقرار من الرئيس وتفعيل وانتظام الإطار القيادي المؤقت والموحد للشراكة في صنع القرار السياسي لحين انتخاب المجلس الوطني الجديد.
مع ذلك انتظر الشارع الفلسطيني خطوات عملية على الأرض بتشكيل حكومة توافق وطني تنهي حالة الانقسام وتوحد المؤسسات وتمهد الطريق لانتخابات عامة من شأنها دعم نضالات الشعب الفلسطيني في قيام دولة فلسطينية مستقلة، والتصدي للاحتلال الاسرائيلي ومشاريعه في تهجير الفلسطينيين وتوسيع سرطان المستوطنات.
كما انتظر الشارع الفلسطيني أن تمضي الفصائل بعد عودتها من بكين قدما بخطوات عملية تنفيذية للمصالحة وتحقيق الوحدة الوطنية بحكومة توافق تتولى إدارة الشأن الفلسطيني ولا سيما جهود إعادة اعمار غزة والعمل مع كل دول العالم لتفعيل قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والقرارات والآراء القانونية الصادرة عن محكمة العدل الدولية.
وقد اشاع الاتفاق من الساعات الأولى لتوقيعه حالة تفاؤل بكونه تجاوز العقبات الخلافية الكبيرة حول اتفاق أوسلو الذي ترفض بعض الفصائل لاعتراف به، واخرى طالما عرقلت جهود قيام الدولة الفلسطينية المستقلة من طريق الذهاب لتشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة تسبق الانتخابات التشريعية، وانخراط سائر الفصائل تحت مظلة منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، غير أن حالة التفاؤل سرعان ما تلاشت مع عودة الوفود إلى الداخل الفلسطيني في ظل تظاهرات ومواجهات وحالة توتر غير مسبوقة انتجتها التجاذبات السياسية والإعلامية بين السلطة الفلسطينية وحركتي «حماس والجهاد».
والمشهد الذي رسمته المواجهات الأخيرة في رام الله وبيت لحم ومناطق أخرى قدم رسالة بليغة للشارع الفلسطيني والعربي، بأن ما جرى في بكين لن يختلف عما سبقه من تفاهمات واتفاقات في مكة والقاهرة وصنعاء والجزائر وروسيا وبكين، وأن الظروف الداخلية والخارجية لم تنضج بعد ولا يزال أمام الفلسطينيين الكثير من الجولات لتحقيق هدف المصالحة والوحدة الوطنية.
حالة احباط
على ان الاشتباكات وحالة الاحتقان لم تكن جديدة على المشهد الفلسطيني المحتقن منذ سنوات إلا أن تصاعده في اعقاب توقيع «اعلان بكين» كان مخيبا لأمال الشارع الفلسطيني الذي كان ينتظر انفراجة وشيكة لأزمة الانقسام العاصفة به منذ 17 عاما.
ذلك أن الخطوة التالية التي كانت منتظرة من اعلان بكين هو تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في مشاركة الفصائل الموقعة على وضع آلية جماعية لتنفيذ بنود الاتفاق ووضع أجندة زمنية لتطبيقه وهو البند الذي اعتبره البعض خارطة عمل سياسية يمكن ان تساهم في تطبيق الاتفاق بإنهاء الانقسام وتوحيد الصف الفلسطيني من خلال حكومة وحدة وطنية جديد تتولى مهمة توحيد المؤسسات في كافة في أراضي الدولة الفلسطينية والاشراف على جهود إعادة الإعمار، وتهيئة الظروف للانتخابات.
وأكثر من ذلك أن «إعلان» بكين لبى مطالب حركة «فتح» التي كانت استبقت المحادثات بمطالبتها بانضواء جميع الفصائل الفلسطينية تحت راية منظمة التحرير والموافقة على ما وقعت عليه المنظمة من التزامات المتوافقة مع القانون الدولي والاتفاقيات التي وقعتها، كما لبى بالمقابل مطالب حركة «حماس» بإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية والمشاركة في السلطة من خلال حكومة وحدة وطنية تتولى الاشراف على إعادة الاعمار في غزة وبناء إطار وطني لمواجهة مخططات الاحتلال بمصادرة القرار الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية.
والمؤكد أن صفحة الخلافات بين الفرقاء الفلسطينيين لم تطو عند التوقيع على هذا الاتفاق، فالأمر كان يحتاج إلى توافق بشأن الجدول الزمني والآليات التنفيذية لإنهاء الانقسام ولا سيما في قضية انضواء جميع الفصائل ولا سميا حركتي «حماس والجهاد «تحت راية منظمة التحرير والالتزام بميثاقها واتفاقياتها كما كان يحتاج إلى تهيئة الظروف بحشد دعم دولي أكثر فعالية لدعم عملية سياسية شاملة تنهي الحرب الإسرائيلية الوحشية في قطاع غزة وتمكن السلطة الفلسطينية من القيام بمهامها الوطنية على كامل التراب الفلسطيني.
وعلى أن القضايا التي حددها اعلان بكين» للمصالحة كانت بالغة الأهمية إلا أنها تُركت فريسة للشيطان الكامن في التفاصيل، في ظل غياب الآليات التنفيذية بشأنها وفي المقدمة أسس العلاقات بين الفصائل الفلسطينية وآليات معالجة الانفصال الجغرافي والديمغرافي وتوحيد المؤسسات وأسس إعادة تشكيلها.
يضاف إلى ذلك المبادئ السياسية التوافقية لإدارة قطاع غزة بعد الحرب وآليات انتقال السلطة ومدى وكيفية وشكل المشاركة فيها فضلا عن القضايا الداخلية المثارة على شاكلة التعاطي الضبابي للاتفاق مع قضية المقاومة المسلحة التي تتبناها حركتي «حماس والجهاد» وترفضها حركة «فتح» وفصائل أخرى، وممارسات السلطة في الضفة وملفات الحريات والاعتقال السياسي ومهام الأجهزة والمؤسسة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية وغيرها من القضايا التي اثبتت التجربة أن كل واحد منها يكفي لنسف أي اتفاقات سياسية للمصالحة وانهاء الانقسام.
وفي أحسن الأحوال فإن «إعلان بكين» لم يتضمن أي خطط وآليات للتنفيذ على الأرض وترك بل أنه ترك هذا الامر لجولات تفاوضية غير محددة السقف، وقد تمتد لسنوات تماما كما حدث في جولات حوار سابقة افضت إلى قواسم مشتركة لكنها فشلت كليا عند التنفيذ.
عقبات خارجية
كان اللافت أن «اعلان بكين» لم يأخذ بعين الاعتبار تأثير العوامل الخارجية في ملف المصالحة الفلسطينية رغم ادراك الجميع بأن واقع الانقسام الفلسطيني تعمق أكثر في السنوات الماضية بفعل العوامل الخارجية ذات الصلة بمواقف الولايات المتحدة وإسرائيل.
يشار في ذلك أن اتفاق بكين لم يأخذ بعين الاعتبار أن لدى السلطة الفلسطينية التزامات دولية حاسمة فرضتها اتفاقيات أوسلو كما لديها تعهدات دولية ومنها على سبيل المثال تعهداتها للاتحاد الأوروبي بتبني إصلاحات مرحلية للحصول على تمويل مشروط، وهي الالتزامات لم تحظ يوما بتوافق جميع الفصائل الفلسطينية وكانت تكفي لنسف كل ما تم في بكين من جهود لإنهاء الانقسام.
حتى «إعلان بكين» نفسه، لم يكن في معزل عن التغيرات الداخلية والخارجية الداهمة التي دفعت كل الفصائل لتوقيع عليه في ظل استمرار الحرب الوحشية الاسرائيلية في قطاع غزة والتوجهات المعلنة لحكومة اليمين المتطرف والمدعومة اميركيا بأنهاء حكم منظمة التحرير الفلسطينية وتغيير النظام أمريكياً الفلسطيني بتحويله إلى حكم شكلي للحفاظ على مصالح دولة الكيان.
هذا الامر أعلنه بوضوح وزير الخارجية الصيني عندما أكد أن اهم ما خلصت اليه محادثات بكين بين الفصائل الفلسطينية هو تشكيل حكومة توافق وطني تنهي الانقسام، في حين أعتبر أن «المصالحة شأن داخلي بالنسبة الفصائل الفلسطينية، لا يمكن أن تتحقق من دون دعم المجتمع الدولي».
كل التقديرات اليوم تؤكد أن اتفاق بكين» سيظل مرهونا بتطورات الداخل الإسرائيلي في ظل التقارير التي تتحدث عن انتخابات مبكرة، وكذلك الداخل الأميركي مع تحسن فرص المرشح الجمهوري دونالد ترامب للفوز بالانتخابات الرئاسية، في ظل التوقعات التي ترجح أن تذهب إدارته إلى عدم السماح بتحقيق المصالحة الفلسطينية بل وتذهب إلى عرقلة الوصول إلى هذا الهدف.
وقد أعلنت حكومة الكيان التي عملت ما بوسعها خلال السنوات الماضية لتعزيز الانقسام الفلسطيني إنها ستعمل من أجل إحباط مشروع المصالحة الفلسطينية، كما أعلنت رفضها التعامل مع أي حكومة تنتج عن المصالحة، في ظل المخاوف من تحول «حماس» إلى قوة موازية لحكومة الوحدة الوطنية بقيادة الوطنية الفلسطينية، في حين استبقت واشنطن «إعلان بكين» وأكدت أنها «لا تدعم أن يكون لمنظمة ارهابية أي دور في حكم غزة في نهاية الصراع» في إشارة إلى حركة «حماس» وذهبت إلى أبعد من ذلك باعتبار أن الاتفاق الموقع في بكين سيكون له تأثير على الجهود الجارية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة.
يزيد المشهد الدولي تعقيدا عند النظر إلى تأثير الرؤى والمواقف العربية والأوروبية، والتي يصعب معها الإقرار بأن ملف المصالحة الفلسطينية قرارا فلسطينيا خالصا في ظل التأثير القوي لهذه المواقف والتي يمكن أن تحول دون الوصول إلى وحدة فلسطينية حتى لو أفلح الفلسطينيون بتشكيلها بتوافق داخلي في ظل التقديرات التي تشير إلى أن أي حكومة فلسطينية موحدة تنخرط فيها «حماس» لن تحصل على التأييد العربي بدليل ما حصل للحكومة الفلسطينية المشكلة حديثا والتي فقدت من اليوم الأول المساعدات العربية بسبب التحفظات التي ابدتها بعض الدول العربية عليها.
عقبات داخلية
لم يكن غريبا أن الشارع الفلسطيني لم يبد هذه المرة اهتماما بمحادثات بكين والاتفاق الناتج عنها، فهي جاءت وسط حالة احباط كبيرة بسبب فشل جميع اتفاقيات المصالحة التي جرت خلال السنوات الماضية من القاهرة إلى مكّة والدوحة وصنعاء، وصولاً إلى موسكو.
وأكثر الفلسطينيين يدركون أن المشهد السياسي الداخلي الفلسطيني على درجة عالية من التعقيد، فالخلافات لا تزال قائمة بل أنها زادت تعقيدا ولا سيما الخلاف حول التزامات أوسلو وقرارات الشرعية الدولية، وإصلاح منظمة التحرير ما القى بالكثير من الشكوك حيال جهود الخروج من نفق الانقسام.
وخلال وقائع التوقيع على اتفاق بكين رأى الجميع كيف أن حركة «الجهاد» أعلنت رفضها أي صيغة تتضمن الاعتراف بـإسرائيل صراحة أو ضمنا، وتأكيدها أنها «لم توافق على إدراج صيغة تنص على القرارات الدولية التي تؤدي إلى الاعتراف بشرعية كيان الاحتلال».
مع ذلك يمكن القول إنه رغم كل العقبات الداخلية والخارجية التي قد تحول دون تنفيذ مقررات «اعلان بكين» إلا أن فرص انهاء الانقسام تبدو اليوم أفضل من السابق وتحتاج فقط إلى ارادة سياسية وتقديم المزيد من التنازلات، التي يمكن أن تجعل بنود الاتفاق قابلة للتنفيذ، في ظل الدور القوي للصين وروسيا بما وفره من فرص للفصائل لاستثمار الوضع الدولي في ظل فشل جيش الاحتلال في حربة الوحشية في غزة وما اثمرت عنه من تأييد دولي واسع للدولة الفلسطينية المستقلة وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

قد يعجبك ايضا