ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها الأمة العربية والإسلامية للاحتلال والاستعمار فقد جاء الرومان والفرس والتتار والصليبيون والبرتغاليون والفرنسيون والبريطانيون والسوفيت وغيرهم من أمم الأرض في فترات القوة لهم والضعف والتفرق للأمة العربية والإسلامية، وفي كل مرة يأتون يكون الحل هو الجهاد، فهو ثقافة التحرر والنهوض واسترداد العزة والكرامة، فالجهاد كفرض لا يعترف بالكثرة، ولا بالكم بل إنه يعتمد في الأساس على القدرات الذاتية وعلى تنفيذ توجيهات القرآن الكريم وقبل ذلك على توثيق الصلة بالله، واتباع نهج خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الأبطال العظماء من آل البيت والصحابة والتابعين، فالله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين بقوله: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ”، وحث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الرباط في سبيل الله فقال: ” رباط يوم في سبيل الله أفضل من قيام رجل وصيامه في أهله شهراً”، وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وآله وسلم “فعليكم بالجهاد وأن أفضل جهادكم الرباط، وأن أفضل رباطكم عقلان”، وهما حديثان صحيحان وحديث ثالث” رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولروحة يروحها العبد في سبيل الله ولغدوة خير من الدنيا وما فيها”، ووصل التفضيل في حديث صحيح آخر إلى ألف يوم في ما سواه من المنازل، بل إنه يتعدى أجره عبادة مائة سنة، قال صلى الله عليه وآله وسلم “لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أعظم أجر من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها، ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا أراه، قال: من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها، فإن رده الله إلى أهله سالما، لم تكتب عليه سيئة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة”.
ولأن الجهاد أعظم الأعمال وسنام الإسلام به يعز الله الدين، ويدفع الظلم والإجرام ولذلك أوصى رسولنا الكريم بالجهاد وحذر من التقاعس عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم “إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم”.
والذل والهوان اليوم ناتج عن التقاعس وعدم الجهاد ضد أعداء الأمة وخاصة اليهود والنصارى الذين يسعون لتدارك الإخفاقات السابقة في حربهم وإجرامهم ضد المسلمين خلال الحملات الاستعمارية والحملات الصليبية، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القدوة والأسوة الحسنة، في سلمه وحربه، وجهاده للأعداء، وكذلك صحابته الكرام عليهم رضوان الله، وآل بيته الطاهرين الذين خلد التاريخ بطولاتهم وشهادتهم، منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وحمزة والحسين والحسن –عليهم السلام- وزيد بن علي -عليه السلام- الذي أحيا فقه الجهاد ومثل القدوة الحسنة في أفعاله وأقواله، حيث نظر إلى التقاعس فوجد أن حب الدنيا أساس في العيش الذليل قال -عليه السلام-: “من أحب الحياة عاش ذليلا” وأكد على أهمية إخلاص النية في الجهاد فقال: “لا تقولوا خرجنا غضبا لكم ولكن قولوا خرجنا غضبا لله ودينه”، ويطلق صيحته المدوية في مواجهة المتقاعسين عن الجهاد والمتخاذلين فيقول: “والله ما كره قوم قط حر السيف إلا ذلوا”، ولذلك فقد كان المقدام الذي يواجه الباطل ويقيم الحق وحينما أصيب -سلام الله عليه- ردد كلمة جده الكرار أمير المؤمنين “الحمد لله الذي رزقني الشهادة”.
لقد عمل اليهود والصليبيون الجدد على إبعاد المسلمين عن مصادر عزهم ونصرهم وتوحدهم واستفاقتهم، مستخدمين أكثر الأساليب خبثا وإجراما بمحاربة العقيدة الصحيحة والإيمان السليم وزرع العقائد الفاسدة ودعمها وإفساح كل الوسائل لتصل إلى الجماهير بكل حرية وسهولة، وفي الجانب الآخر نجد التشويه المتعمد لحقائق الدين والنماذج التي تمثله، وحتى إذا وضعت فإنه يتم اختزالها في جانب دون بقية الجوانب، فمثلا تم تجاهل تدريس النماذج والقدوات من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإسهاماتهم في الجهاد والعلم ونشر دعوة الإسلام ومواجهة الظلم والطغيان، وتم في مقابل ذلك تدريس ما ورد عن علماء الغرب والشرق والمشهورين، وجعلهم هم القدوات، وحتى في مناهج التدريس اليمنية ورسائل الماجستير والدكتوراه غيبت النماذج الإسلامية وتم تجاهل كل التراث الإسلامي في كافة المجالات مع وجود جهود علماء لحضارة قادت العالم لأكثر من ألف وأربعمائة عام وكان لها الفضل والريادة في إخراج الغرب من عصور التخلف والجهل والظلام إلى مصاف الحضارة، والإنسانية، ويكفي الإشارة إلى أن حضارة المسلمين في الأندلس استمرت لأكثر من ثمانية وخمسين عاماً، وما زالت آثارها شاهدة على عظمة ورقي الحضارة الإسلامية بشكل عام في كافة المجالات، وعنها أخذ الغرب علومه وحضارته التي يفتخر بها اليوم، مع أن الفارق في الأخلاق والقيم لن يصل إليها الغرب ولا الشرق؛ لأنها نتاج اجتهادات بشرية بخلاف المنهج السماوي والإلهي الذي اختاره الله، واختار أمته لتكون هي القائمة على آخر الرسالات السماوية.
حاربوا الإسلام كعقيدة وشريعة، ونصبوا علماء اختاروهم لهذه المهمة، يجيدون إحياء الخلافات المذهبية والفقهية كمقدمة لتحطيم أواصر الالتقاء بين المسلمين، وبذلك يتم تقديم القرابين للقتلة والمجرمين الطامعين في السيطرة والاستعمار، فقد انهارت الخلافة الإسلامية العباسية تحت ضربات المغول والتتار بعد أن وصل الخلاف بين المذاهب الإسلامية إلى أوجه على مسائل فقهية لا طائل من الاختلاف فيها، وفي تعدد الآراء سعة ورحمة، ومثل ذلك حدث عند استيلاء الصلبيين على القدس.
واليوم يعمل الصهاينة والحلف الصليبي المساند لهم على تشويه فريضة الجهاد في سبيل الله، سواء بوصف الجهاد وتصنيفه على أنه إرهاب، أو بنشر التخاذل عن نصرة المستضعفين من المسلمين وغيرهم، أو بتبني الجماعات الإرهابية والتكفيرية المستحلة لدماء المسلمين، أو بتوظيف المجرمين كمرتزقة يعملون تحت رايات إسلامية ليمارسوا أبشع وأقذر الجرائم على أنها جماعات إسلامية، مع أنها جماعات تم إنشاؤها بواسطة المخابرات الأمريكية والأوروبية عموماً (فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا وغيرها) من الدول التي تدعم الكيان الصهيوني، وتريد استمرار بقائه جاثماً على أرض فلسطين ليؤدي مهمة تمزيق الوطن العربي والوحدة الإسلامية، نيابة عن الغرب وبأسلوب استعماري يتفوق في إجرامه على جرائم الاستعمار القديم، وهي مهمة أوكلت لليهود لأنهم يمتلكون من الإجرام والطغيان والاستعداد لسفك الدماء وقتل الأحياء ما يفوق الخيال، ويعزز إجرامهم تضافر جهود الحلف الصليبي الذي يتماثل معهم في إجرامه وظلمه، وفلسطين كأرض محتلة شاهد على ذلك، وغزة وغيرها من ساحات المواجهة (جنوب لبنان، والجولان السوري، وسيناء المصرية) لا زالت شواهد حية وماثلة على عقليات الإجرام والإبادة التي تريد إهلاك الحرث والنسل، وقد بين الله ذلك فقال: (ويَسْعَوْنَ فِيْ الأَرْضِ فَسَادَاً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِيْن).