المتحف الوطني بصنعاء مؤسسة علمية تاريخية أثرية تحوي كنوز عشرة آلاف سنة

أول متحف وطني تم إنشاؤه وافتتاحه في اليمن كان في العام 1939م بمدينة عدن:

 

الثورة / خليل المعلمي
المتاحف هي الواجهة الحضارية للأمم الحية التي تمتلك تاريخاً وحضارة لعشرات الآلاف من السنين، ولها دور ملموس في تنشيط الحس الوطني لدى المواطنين، لأنها تسهم في التعريف بحضارة البلاد، وإسهاماتها الكبرى في بناء الحضارة الإنسانية، الأمر الذي يؤدِّي إلى تنمية مشاعر الاعتزاز والفخر والانتماء لديهم، والمتاحف أيضاً هي الخزانة والبنك الذي يحفظ ذاكرة الأوطان وتاريخها وكنوزها الثمينة من قطع أثرية كالتماثيل والنقوش والأواني وغيرها مما حفظه لنا الزمان لآلاف السنين من إبداعات وانجازات أجدادنا الأوائل.
إنَّ المتاحف لم تعد مجرَّد أماكن لحفظ الموروث الأثري والثَّقافي، بل أضحت بمثابة معاهد للعلوم، ومراکز للثقافة، ومؤسَّسات عِلمية وثقافية تقدِّم المعلومات في شكل جذاب وشائق، وتستعرض ما تملكه البلاد من ثَراء أثري وتاريخي وثقافي.
رابع دولة عربية
إن أول متحف وطني تم إنشاؤه وافتتاحه في اليمن كان في العام 1939م وذلك في مدينة عدن أيام الحكم البريطاني فأصبحت اليمن بهذا رابع دولة عربية بعد مصر والعراق وسوريا يتم تأسيس متحف وطني فيها لعرض القطع الأثرية القديمة.
وبعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة تم إنشاء المتحف الوطني بصنعاء في العام 1971م، في مبنى “دار الشكر” الواقع خلف البنك اليمني للإنشاء والتعمير، وهو مبنى تاريخي قديم يتكون من خمسة طوابق وقد ضم الكثير من القطع الأثرية التي تم جمعها من مختلف المناطق اليمنية التي قامت عليها الدول اليمنية القديمة.
وخلال عقد ونصف من التنقيب والبحث عن الآثار واكتشاف الكثير منها كان لابد من إجراءات في عملية التوسع في المتحف الوطني فتم ضم عدد من المباني المجاورة لـ”دار الشكر” ليصبح المتحف بحالته الحالية وتم إعادة افتتاحه بعد التوسعة في العام 1987م.
مبان تاريخية
يتكون المتحف الوطني حالياً من عدة مبان تاريخية متواجدة داخل ساحة كبيرة بالقرب من ميدان التحرير وسط العاصمة صنعاء، وله سور عريض يتكون من طابقين ويمتد لعشرات الأمتار تتوسطه بوابة تاريخية ترتفع لعدة أمتار، “دار السعادة” هو المبنى الرئيسي يتكون من خمسة طوابق وهذا هو اسمه قبل قيام الثورة في العام 1962م، وعلى اليسار منه مبنى آخر كان يطلق عليه “دار المالية” يتكون من ثلاثة طوابق ويمتد من شمال المبنى الرئيسي حتى سور المتحف، وعلى اليمين منه مبنى آخر يتكون من طابقين ويعود بناءه إلى فترة الوجود التركي في اليمن حيث قام ببنائه الوالي العثماني أحمد أيوب باشا عام ١٢٩٠هجرية، والذي قام ببناء عدة مبان أميرية أجلها هذا المبنى وهو مستشفى عسكري يسمى “البيمارستان” وقد تم اختيار مكان هذا المستشفى في منطقة تحيط بها البساتين وتم تشييده بجانب بستان المتوكل، وكانت بعض هذه المباني مصالح حكومية كمصلحتي الواجبات والأحوال المدنية.
ويضم المتحف الوطني كذلك مبنى “دار الشكر” الذي يوجد في الناحية الجنوبية وقد تم تخصيصه كمتحف للموروث الشعبي يحتوي على مكونات التراث الشعبي من ملبوسات وأزياء ومجسمات للعادات والتقاليد في بلادنا.
إعادة افتتاح المتحف
يحتوي المتحف على مجموعة من القطع الأثرية التي يبلغ عددها 150 ألف قطعة أثرية تم عرض منها 1600 قطعة أثرية من القطع المختارة والمميزة في المتحف فيما بقية القطع مخزنة في أماكن آمنة، بحسب نائب مدير عام المتحف الوطني عبدالله إسحاق، الذي أكد أنه تم توثيق وتسجيل أكثر من 30 ألف قطعة أثرية يدوياً ورقمياً خلال الفترات السابقة من خلال مشروع توثيق وتسجيل القطع الأثرية بدعم من الصندوق الاجتماعي للتنمية والهيئة العامة للآثار والمتاحف.
ويقول أسحاق: لقد تم إعادة افتتاح المتحف الوطني أمام الزوار في يوم 25 ابريل 2024م، وذلك استعداداً للاحتفال باليوم العالمي للمتاحف الذي يصادف يوم 18 مايو من كل عام، بعد أن ظل مغلقاً خلال التسع السنوات الماضية بسبب العدوان السعودي الأمريكي الغاشم على بلادنا.
وأضاف أن المتحف مفتوح أمام المواطنين وأمام الجمهور مجاناً خلال الفترتين الصباحية والمسائية للزيارة والاطلاع على تاريخ اليمن والاستفادة من المعلومات والمعارف التي يقدمها المتحف من خلال محتوياته المتنوعة الأثرية من قطع أثرية لملوك الدول اليمنية القديمة وكذلك قطع لنقوش اللغة اليمنية القديمة “المسند”.
وحالياً بعد عملية الاستقرار خلال العامين الماضيين أعدنا ترتيب محتويات المتحف وتم إعادة افتتاحه أمام الزوار، حيث بدأنا بإعادة بعض القطع الأثرية وافتتاح طابقين في مبنى “دار السعادة” وكذا مبنى “البيمارستان” حيث تعرض فيه عدد من القطع الأثرية من العصر الإسلامي.
مؤكدا أن المتحف الوطني قد أصبح مفتوحاً أمام الزوار فاليمن تمتلك حضارة عريقة وآثاراً تمتد إلى عشرة آلاف سنة، لا تمتلكها أي دولة في الجزيرة العربية وهي تنافس الحضارات القديمة مثل حضارة بلاد الرافدين وبلاد النيل وغيرها من الحضارات القديمة.
مشاريع ترميم لم تكتمل
وتحدث نائب مدير عام المتحف الوطني عن أعمال الترميم التي تمت خلال الفترة القصيرة الماضية، حيث تم التوقيع مع الصندوق الاجتماعي للتنمية لترميم المتحف بشكل كامل ولكن توقف المشروع بعد أن توقف التمويل من منظمة اليونسكو.
وفي العام 2017م كان هناك اتفاقية بين المشروع الألماني واليمن لإعداد وتخزين القطع الأثرية بشكل منظم ومرتب للحفاظ عليها بمواصفات عالمية فكان المتوقع ان يستمر المشروع حتى العام 2023م عبر ثلاث مراحل، ولكنه توقف نهائياً بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث اتجهت التمويلات الأوروبية لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا.
وأضاف أنه كان قد تم الشروع في مشروع توثيق وتسجيل القطع الأثرية يدويا وإلكترونيا في العام 2005م بدعم من الصندوق الاجتماعي للتنمية ومن قبل الهيئة العامة للآثار والمتاحف بواقع مليونين ريال كل ثلاثة أشهر، ولكن حالياً توقف هذا المشروع وتوقفت الميزانية، كما أدى انقطاع المرتبات إلى تغيب الموظفين للبحث عن مصادر دخل أخرى.
ويؤكد أن عدم اكتمال الترميم في مبنى “المالية” المجاور لمبنى “دار السعادة” من الجهة الشمالية يعتبر خسارة كبيرة فالمبنى مهجور منذ سنين وهذا سيؤدي إلى تهدم في جدران المبنى وتشرخات في السقوف بسبب ظواهر الأحوال الجوية من أمطار وحرارة وغيرها، وكل هذا سيؤدي إلى تضاعف عملية الترميم مستقبلاً.
تهديدات
وعن سبب إغلاق المتحف الوطني منذ بداية العدوان يقول عبدالله اسحاق: نتيجة للتهديدات التي واجهت قطاع الآثار من قبل قوى العدوان فقد تم إغلاق المتحف الوطني بصنعاء وتخزين القطع الأثرية في أماكن آمنة وخاصة، كي لا تتعرض للقصف من قبل قوى العدوان الذي عمل على استهداف المواقع الأثرية كما حصل لمتحف ذمار وقلعة القاهرة بتعز وكذا معبد “نكراح” في الجوف وغيرها من المواقع والمعالم الأثرية والتاريخية، وقد عملت وزارة الثقافة مع الهيئة العامة للآثار والمتاحف على توثيق هذه الجرائم وتم إصدارها في كتاب يضم كل التفاصيل مع الصور قبل الاستهداف وبعد الاستهداف، لتوضح للعالم أن أهداف العدوان على اليمن يكمن في استهداف الهوية اليمنية من خلال قصف المواقع والمعالم الأثرية والتاريخية.
تاريخ عريق
ويأخذنا أسحاق إلى الحديث عن الحقبة التي تلت خروج الأتراك من اليمن حيث تولى الحكم الإمام يحيى حميد الدين الذي حول المباني الثلاثة إلى دار للحكم فقام بتغيير اتجاه مبنى “دار السعادة” قليلاً وكان لايزال في مرحلة إنشاء القواعد باتجاه القبلة، وشغلت المباني الثلاثة دار القضاء والمالية ومخزن للنقود ومخزن للحبوب والتموين، فيما اتخذ الإمام من الأدوار العليا لـ”دار السعادة” سكناً لعائلته، والدور الأخير لاستقبال الضيوف.
إضافة إلى المبنى المطل على الشارع الرئيسي والذي يتكون من دورين وتظهر البوابة الرئيسية للمتحف في منتصفه وهي بوابة مكوناتها قديمة سواء الباب أو غرف الحراسة المجاورة لها، وبالتالي فالزائر للمتحف يشعر وكأنه قد انتقل إلى حقبة تاريخية عظيمة من تاريخ اليمن العريق من خلال تعدد المباني التاريخية وأيضاً من خلال التنوع في محتويات المتحف الأثرية، ويتأكد له أن اسهامات اليمني القديم كان لها حضور بين الأمم، بل وكان له السبق في اختراع الكتابة والنقوش وتطوير الرموز وصولاً إلى خط “المسند” الذي تفرعت منه معظم اللغات القديمة.
ويؤكد إسحاق أن الاهتمام بالإنسان أولاً سيؤدي إلى الحفاظ على هذه الآثار والحفاظ على الهوية اليمنية وما أنجزته من تاريخ عريق ممتد إلى عشرات الآلاف من السنين بل ويزيد، وعلى الدولة الاهتمام بقطاع الآثار الذي يعتبر بنكاً وذا أهمية كبيرة مثل بنوك الأموال التي تحتوي على الأوراق النقدية.
معوقات
وتطرق نائب مدير عام المتحف الوطني عبدالله إسحاق إلى المعوقات التي تواجه إدارة المتحف ومنها الجانب المادي فالمتحف لا يحصل على دعم مادي خاص ولا توجد له ميزانية تشغيلية كمؤسسة علمية تاريخية أثرية من جانب، وكونه متحفاً يحتوي على آثار قديمة ولديه كادر وظيفي وحراسة والتزامات وغير ذلك، مشيراً إلى أن المتحف كان لديه ميزانية تشغيلية لكنها توقفت بسبب العدوان الغاشم على بلادنا.
مبادرة فردية
أثناء تجوالنا أنا وعدد من الزوار الذين جذبهم للدخول الإعلان المعلق على بوابة المتحف بأنه قد تم إعادة افتتاح المتحف وأن الزيارة مجانية، تنقلنا بين أروقة المتحف وقاعاته المختلفة، وبمبادرة فردية وجدنا الخبير في الآثار سعيد قاسم -أحد موظفي الهيئة العامة للآثار والمتاحف- متطوعاً وهو يقدم للزائرين شرحاً وافياً عن محتويات المتحف المتواجدة داخل الصناديق الزجاجية، وتحدث قائلاً: إن اليمن غنية بالقطع الأثرية المتنوعة التي تحكي تاريخ وحضارة اليمني القديم عبر معاصرته للدول اليمنية القديمة.
وأوضح أن الدور الثاني في مبنى “دار السعادة” قد تم تقسيمه إلى أروقة تحوي أسماء الدويلات اليمنية القديمة “سبأ، معين، حمير، حضرموت، قتبان، وغيرها”، وقدم شرحاً عن القطع الأثرية لملوك هذه الدويلات والتي تتكون من البرونز والمرمر والرخام، واستعرض تصنيف النقوش المسندية بحسب نوعيتها فهناك الدينية والحربية والسياسية والاجتماعية التي تنظم حياة المجتمع وأنشطة السوق ووضع اللوائح والقوانين، كما أن هناك مسلات كتبت عليها الأسعار، وأن هذه النقوش متواجدة في جميع الدول اليمنية القديمة وهناك نقوش خشبية بالخط المسند وخط الزبور..
واستعرض الخبير في الآثار سعيد قاسم مشاركته في الكشف والتنقيب عن معبد “نكراح” الموجود في محافظة الجوف وكان ضمن فريق التنقيب الذين استمروا لعدة شهور مستخدمين ملعقة البناء والفرشاة فظهر المعبد بشكله الكامل كتحفة معمارية أثرية فريدة.. وقد تم عمل مجسم له في المتحف الوطني وتحيط به صور حقيقية له، ولكن للأسف تم قصف هذا المعبد من قبل قوى العدوان، والذي يدل عن حقد ووقاحة هذا العدوان الغاشم في استهداف المعالم والمواقع الأثرية التي تحميها المواثيق الدولية.
الدعم والرعاية
القائمون على المتحف الوطني ينتظرون الدعم والرعاية وإعادة الميزانية التشغيلية كي لا يغلق المتحف أبوابه مرة أخرى أمام الزوار، ولكي يعود كادره الوظيفي إلى مكانهم الطبيعي في إنجاز وإدارة أهم مؤسسة علمية تاريخية أثرية في هذه البلاد، ليحافظوا على شواهد تاريخ هذه الأمة وحضارتها.
ونحن بدورنا نؤكد ضرورة دعم ورعاية هذا القطاع الهام، وقد أحسنت الهيئة العامة للآثار والمتاحف وإدارة المتحف في الشروع بفتح المتحف أمام الجمهور من المواطنين والطلاب والقطاعات المختلفة، ودعوتها لهم في تنظيم رحلات جماعية إلى المتحف وخاصة الرحلات المدرسية ليتعرف الجيل الجديد عن تاريخ بلاده وأجداده، والجميع ينتظر المزيد.

قد يعجبك ايضا