أي مشكلات تنتظر الليبيين بعد تمديد تركيا مهمة قواتها في ليبيا ؟

حسابات الأطراف الخارجية تبقى المعضلة الأساسية

 

مع اقتراب أطراف الصراع الليبي من حسم خلافاتهم حول التشريعات الانتخابية، اخذت تفاعلات الأزمة مسارا جديدا، بعد اعلان تركيا تمديد تواجد قواتها في الغرب الليبي عامين إضافيين في الخطوة التي يرى ليبيون كثر أنها نقلت مفاعيل الأزمة من أيدي وكلاء الداخل إلى الأطراف الدولية التي صارت تتسابق في العلن للحصول على نصيب كعكة الموارد الليبية.

الثورة/ ابو بكر عبدالله

لم يكن غريبا الخطوة التي باشرتها انقرة بمصادقة البرلمان التركي على قرار الرئيس أردوغان تمديد مهمة القوات التركية في ليبيا عامين إضافيين تنتهي مطلع العام 2026 فتركيا التي كانت من أوائل الدول التي أرسلت قوات عسكرية إلى ليبيا جاءت لحماية مصالحها الاقتصادية في هذا البلد المضطرب الغني بالموارد الطبيعية.
وعلى أن أطراف عدة اعتبرت الخطوة التركية تعزيزا إضافيا لحالة الانقسام في المشهد السياسي الليبي ستعرقل الجهود الرامية إلى تنظيم الانتخابات فقد حصلت تركيا على ما تريده سريعا من حكومة الغرب الليبي الحليفة التي اعلنت موافقتها على قرار تمديد مهام القوات التركية دون الاكتراث لمواقف القوى الأخرى التي أعلنت رفضها القرار ورفضها التواجد التركي بصورة عامة.
سعت الخطوة التركية إلى الاستفادة القصوى من وجودها العسكري في الغرب الليبي بتأمين مصالحها الاقتصادية أولا وثانيا دعم حكومة الوحدة الوطنية المقالة التي تمارس مهام الحكم في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة بدعم تركي مباشر، في ظل رفض البرلمان الاعتراف بها وانقسام بين أعضاء المجلس الأعلى للدولة بين مؤيد ومعارض.
هذا الأمر عبرت عنه مذكرة الرئيس أردوغان التي بررت الوجود العسكري التركي في ليبيا بأنه جاء استجابة لطلب حكومة الوفاق الوطني وبالحاجة إلى حماية المصالح الوطنية التركية والتحوط من المخاطر الأمنية التي مصدرها جماعات مسلحة غير شرعية في ليبيا.
هذه الرؤية اثارت القلق في الداخل الليبي، خصوصا وهي ستقود إلى مزيد من الانقسام وتوسع من احتمالات عودة الصراع المسلح في بلد يعاني من تواجد القوات الأجنبية والمرتزقة، كما يعاني من حالة فوضى وانقسام بين حكومتين في شرق البلاد وغربها.
ورغم الرفض الداخلي والدولي الواسع لتواجد القوات الأجنبية والمرتزقة في ليبيا ومن ضمنهم القوات التركية إلا أن تركيا تجاهلت ذلك، ونشرت قرار البرلمان حول تمديد مهمة قواتها في الجريدة الرسمية، فيما اعتبر رسالة إلى أن القرار صار نافذا، ولا يمكن الرجوع عنه، وأن تركيا ماضية في عدم الاستجابة للمطالب الدولية والمحلية بإنهاء وجود القوات الأجنبية على الأراضي الليبية.
هذه التداعيات اثارت موجة تساؤلات بشأن الأهداف التي تسعى تركيا اليها بعد أن تسببت قواتها المتواجدة في الأراضي الليبية خلال السنوات الماضية بتعميق حدة الانقسام بين الأطراف السياسية المتصارعة كما اثارت أسئلة حول ما يمكن أن تختلقه من عراقيل تجاه أي تسويات يتوافق عليها الليبيون بشأن انتخابات يتوقع أن تكون نتائجها في غير صالح حلفاء تركيا في الغرب الليبي.
وتوقيت القرار كان كافيا لأثارة أسئلة بشأن نيات تركيا ومساعيها لدعم حليفها الأول المتمثل بحكومة الوحدة الوطنية المقالة برئاسة عبد الحميد الدبيبة المتربعة على الحكم في طرابلس، والتي صارت على وشك الخروج من المشهد الليبي بعد تجاوز الفرقاء الليبيين معضلة القاعدة الدستورية في ظل تزايد حظوظ مجلس النواب في طبرق وغريمها المشير خليفة حفتر على مفاصل المشهد السياسي الليبي خلال المرحلة المقبلة.
مصالح ثنائية
الاطماع الاقتصادية التركية في ليبيا كانت حاضر منذ اليوم الأول للإطاحة بنظام القذافي، ففي ذلك الوقت شهدت الاستثمارات الليبية في قطاع الانشاءات تراجعا حادا، دفع تركيا لاستثمار الفوضى الليبية للتوغل كثيرا في القطاع النفطي الذي يشكل نحو 72% من الناتج المحلي.
خلال فترة حكم القذافي اقتصر التواجد التُركي في هذا القطاع على شركة واحدة هي شركة البترول التُركية العالمية المملوكة للدولة (TPIC) غير أن المشهد تغير كليا منذ العام 2019 بعد أن دخلت تركيا بقوة في مسرح الاستثمارات الليبية مستغلة تعطش حلفائها في الغرب الليبي للسلطة.
وعلى أن تركيا تقول اليوم إن تواجدها العسكري في ليبيا يسعى لاستعادة الق التحول الديموقراطي الذي افتقده الليبيون منذ الإطاحة بنظام القذافي عام 2011، إلا أن المقايضات والمصالح المتبادلة كانت الدافع الأول لذلك حيث وقعت حكومة فايز السراج سابقا، اتفاقات امنية مع تركيا اتاحت لها إقامة قواعد عسكرية في الغرب مقابل ما توفره انقرة من عتاد عسكري ومُرتزقة، سهلت لحكومة السراج السابقة السيطرة على اقتصاد البلاد.
تاليا وقعت حكومة الوحدة المقالة برئاسة عبد الحميد الدبيبة مع تركيا مذكرات تفاهم منحت الشركات التركية امتيازات التنقيب عن النفط والغاز مقابل دعم عسكري وتكنلوجي تركي للقوات التي تحميها.
ولم تتردد حكومة الغرب منذ العام 2021 في تقديم امتيازات استراتيجية كبيرة للشركات التركية النفطية، وهي الامتيازات التي اتاحت لها معاملة تفضيلية مكنتها من تجاوز الهوة التكنولوجية والمالية بينها وبين شركات النفط الدولية وهي الامتيازات التي تخشى تركيا ان تفقدها في حال فقدت حكومة الغرب نفوذها السياسي.
خلال سنوات قليلة تمكنت تركيا من ترسيخ هذا الدور باستمرارها بدعم حكومة الغرب عسكريا حيث نقلت الكثير من المرتزقة السوريين لدعم المليشيا المسلحة التابعة لحكومات الغرب الليبي، كما حصلت منها على دعم استخباراتي، فضلا عن مشاركة القوات التركية عبر سلاح الطائرات المسيرة في العديد من الهجمات التي شنتها المليشيا على المواقع العسكرية التابعة للمشير حفتر في الشرق.
واتاح تواجد القوات التركية في الغرب الليبي فرصا كبيرة لحكومة الوحدة الوطنية المقالة في الحصول على ما تحتاجه من الأسلحة وتجاوز القرار الأممي بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا في حين ترفض انقرة الالتزام بالقرارات الأممية الداعية إلى خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا كما تدعم التوجهات التي تتبناها حكومة الوحدة الوطنية المقالة في عرقلة مسار التسوية السياسية النهائية.
حسابات تركية
يمكن الإشارة إلى دوافع سياسية واقتصادية وأمنية عدة تقف وراء قرار أنقرة تمديد فترة تواجد قواتها عامين إضافيين في ليبيا، فالقرار حمل اعترافا ضمنيا من تركيا بشرعية حكومة الوحدة الوطنية المقالة ودعم توجهاتها في ممارسة دور سياسي لحين تشكيل حكومة عبر برلمان منتخب ومواجهة كل التصورات التي تخطط لإبعادها عن المشهد خلال الفترة القادمة.
والحسابات التركية لا تقتصر على الخارطة الليبية وحسب، فلدى انقرة اليوم مساع للعب دور عسكري وأمني في منطقة غرب افريقيا يوازي الدور الروسي والصيني، خصوصا بعد التحولات العاصفة التي شهدتها المنطقة بالانقلابات العسكرية التي أطاحت النفوذ الفرنسي الأمريكي لصالح النفوذ الروسي الصيني من خلال توظيف قدراتها العسكرية الموجودة في ليبيا، والاستفادة منها في تأمين تحركاتها الراهنة لتعزيز حضورها في منطقة الساحل والصحراء.
هذا الدور تماهى إلى حد كبير مع التوجهات التي ابدتها الحكومات الجديدة في كل من مالي والنيجر والجابون وغينيا للانخراط في علاقات جديدة مع روسيا وتركيا والصين على حساب علاقاتها القديمة مع الغرب.
ومن ناحية اقتصادية فإن أنقرة تسعى لترسيخ دورها في الملف الليبي وتعزيز علاقاتها مع الشركاء المحليين الموالين لها وهي علاقات استثمرت فيها تركيا الكثير خلال السنوات الماضية وتعتقد أنها صارت مهددة في ظل المساعي المحلية والأممية لإجراء الانتخابات خلال الفترة المقبلة.
ومعروف أن تركيا أسست خلال السنوات القليلة الماضية مع ليبيا شبكة مصالح اقتصادية كبيرة على صلة بصفقات النفط والغاز ومشاريع التنقيب التي تنفذها الشركات التركية في المنطقة الاقتصادية الليبية وقبالة السواحل الليبية استنادا إلى اتفاقيات رسمية وقعتها مع حكومة الوحدة الوطنية المقالة وتسعى انقرة لذلك إلى تعزيز حضورها العسكري لتأمين هذه المصالح على المدى المتوسط والطويل، وإحباط أي محاولات قد تستهدف تعطيل قاطرة التعاون النفطي مع ليبيا، خصوصا وان الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة تمت مع حكومة الوفاق المقالة ولم تحظ بموافقة البرلمان.
واستنادا إلى الدور الذي لعبته قواتها العسكرية على الأراضي الليبية خلال الفترة الماضية في تعزيز مصالحها الاقتصادية بهذا البلد فهي ترى أن الأهمية الجيوستراتيجية لهذا الدور ازدادت اليوم بشكل كبير، في ظل أزمة الطاقة العالمية التي خلفها طول أمد الحرب في أوكرانيا في ظل التسابق الدولي الواسع على الظفر بحصة من هذه الموارد.
ابعاد استراتيجية
على المستوى الجيوستراتيجي تراهن انقرة على الثروات النفطية الليبية لتعزيز استراتيجية “الوطن الأزرق” التي تتبناها بهدف فرض السيطرة التركية على بحر إيجة وشرق البحر المتوسط والبحر الأسود، وهو المشروع الذي يواجه عقبات بسبب الخلافات القائمة بين تركيا ودول إقليم شرق المتوسط حول ترسيم حدود المياه الاقتصادية الإقليمية لدول شرق المتوسط.
وقد استغلت تركيا هشاشة البنية السياسية لحكومات الغرب الليبي وعقدت معها اتفاقيات اقتصادية عملاقة تمكنها من الحصول على قوة اقتصادية كبيرة استنادا إلى ما تختزنه ليبيا من ثروات نفطية هائلة لكنها لم تحظ حتى اليوم بموافقة البرلمان.
ولا تزال تركيا تسعى من خلال علاقتها القوية مع حكومة الغرب المقالة، إلى توقيع اتفاقية إنشاء قاعدة عسكرية للجيش التركي في ميناء الخمس وهي الاتفاقية التي اثارت جدلا واسعا دفع حكومة الوحدة الوطنية المقالة إلى نفيها واعتبارها محاولة غير بريئة لتأجيج التوتر مع تصاعد الرفض الداخلي والأممي لتواجد القوات الأجنبية والمرتزقة.
وتركيا تدرك تماما أن العديد من الدول الغربية المؤثرة في المشهد الليبي وفي المقدمة الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وكذلك روسيا والصين تسعى في أطار السباق الدولي على النفوذ إلى أن يكون لها موطئ قدم في ليبيا يمكنها من الحصول على حصة من الكعكة النفطية.
هذه المشاريع لم تعد أمنيات فقد بدأت بالظهور على السطح مؤخرا مع شروع باريس بإرسال المبعوث الخاص للرئيس بول سولير، إلى ليبيا ولقائه بمسؤولين من شرق ليبيا وغربها، فضلا عن الزيارات المتبادلة بين المسؤولين الروس والليبيين والتي اثار قلق انقرة من احتمالات التأثير على نفوذها العسكري هناك.
وتشعر تركيا أن اتفاقيات التعاون النفطي التي وقعتها مع حكومات الغرب الليبي معرضة للانهيار بسبب وجود معظم حقول النفط والغاز خارج مناطق سيطرة حكومة عبد الحميد الدبيبة وغياب هذه الحكومة عن المشهد الليبي مستقبلا سيعني بالضرورة انتهاء العمل بهذه الاتفاقيات.
ومن جانب آخر تحاول تركيا اليوم من خلال حضورها العسكري في المشهد الليبي مواجهة منافستها مصر التي انخرطت مؤخرا في مباحثات مشتركة مع كل من اليونان ومالطا وإيطاليا لدراسة الإجراءات اللازمة لحفظ الحقوق الاقتصادية في البحر الأبيض المتوسط التي تعتقد هذه الدول أنها تتعرض للتعدي بسبب الاتفاقيات الموقعة بين حكومة الغرب والحكومة التركية.

قد يعجبك ايضا