من سذاجة العمل السياسي استغباء الآخرين، ثم التوهُم بأن الآخرين قد انطلت عليهم الألعوبة أو الخديعة.
على هذا النحو تعمل أمريكا، بعقلية القرن الماضي، وعلى هذا النحو يتمثل اجتهادها في ما تسميه مبادرات سلام في اليمن، ويبرز ذلك في الاجتهاد والمساعي لتمرير إجراءات، لها في المحصلة هدف فرض رؤية أحادية لإحلال هذا السلام، وهكذا تظهر السذاجة في سلوك أمريكا السياسي.
تطرح أمريكا أحيانا المرتبات كمعضلة وأحيانا تخوض في مسألة إجراء مفاوضات يمنية يمنية، وتتوزع الأدوار مع السعودية والمبعوث الأممي، حينا آخر، كما وتفعّل من أبواقها الإعلامية لتسويق حالة حراك وحرص على السلام، ثم من موقف عابر تتكشف الخفايا.
هذا ما تتحدث عنه المواقف الأخيرة للسعودية عبر ذبابها الإلكتروني القريبة من مراكز السلطة، وأمريكا عبر مبعوثها الشؤم ليندركينج، فالرياض في آخر تحججاتها تزعم أن صنعاء تُعَقِد عملية صرف المرتبات لأنها تصرّ على أن يكون ذلك من عائدات النفط والغاز اليمني، كما عبر عن ذلك صراحة الأمين العام المساعد لمجلس التعاون الخليجي عبدالعزيز العويشق، والذي نقلت عنه صحيفة عكاظ حديثه عن رفض السعودية صرف المرتبات من عائدات النفط والغاز، وإصرارها على صرفها من عائدات الجمارك في مناطق المجلس السياسي الأعلى.
لا أتصور في مثل هذه الجرأة أكثر من استفزاز، فهل كانت صنعاء مثلا تفاوض وتفاوض من أجل أخذ الإذن بصرف المرتبات من عائدات الجمارك؟
ثم كيف للسعودية أن ترفض صرف المرتبات من عائدات النفط والغاز؟!
مثل هذا السلوك إنما يقدم دليلا وحُجة أخرى تبرر إصرار صنعاء على التفاوض مع السعودية التي تنسى في لحظة ما مساعيها لتسويق نفسها كوسيط، ثم إذا بها تبرز كمحرك ومقرر متفرّد لما يمكن وما لا يمكن، في استخفاف مقزز لمن منحوها شرعية الحديث باسمهم في أمور مصيرية كهذه.
أما بالنسبة لمبعوث الشؤم الأمريكي، فلا يزال يلوك نفس العبارات وإن حاول الإيحاء أحيانا باختراق موانعه الواهية لصرف المرتبات، ليرسل في آخر تقوّلاته عبارات تنطوي على هدف يكشف مستوى المرض والحقد على اليمنيين، وهو ذاك الساعي منذ البداية إلى تبرئة ساحة السعودية من مسؤولية ارتكاب فعل العدوان ومن قيادة التحالف وتمويله بالمال والسلاح وتصديرها كوسيط، كما والغاية تنسحب على أمريكا التي تريد تقديم نفسها كوسيط آخر لسلام بين اليمنيين، لا بل وتريده سلاما وفق أجندتها، تبقى فيها اليمن رهينة بيت الطاعة لأمريكا.
بخُبث، تتحدث أمريكا عن ما بعد الحرب، وتؤكد صنعاء أن الملف الإنساني يحمل اشتراطات هدنة، أما استحقاقات ما بعد العدوان وتثبيت سلام دائم فإن مضامينها مختلفة، فالملف الإنساني يهدف إلى تمكين اليمنيين بصورة عاجلة من حقوقهم في ثروتهم وخروج الاحتلال وتحرير الموانئ والمطارات من حالة الحصار غير الأخلاقية، أما استحقاقات ما بعد الحرب فإنها بطبيعة الحال تقوم – إضافة إلى ما سبق – على تحميل قادة التحالف كامل المسؤولية في العدوان، وعلى الالتزام بإعادة الإعمار وجبر الضرر، كما ومعالجة كل التداعيات التي تسبب بها العدوان والحصار، وهذا أمر طبيعي وتكفله كافة المواثيق.
تدرك صنعاء أنها لم تخرج عن إطار الممكن، بل وحتى عن إطار المساحة التي تضمنها لها القوانين والأعراف الدولية المتفق عليها، وعلى هذا الأساس تتحرك، ولا يبدو أنها في وارد القبول – وهي التي تتحمل المسؤولية أمام اليمنيين – بأن تقع في موقع الضحية من ازدواج معايير الحكم على قضايا التوترات، ثم يتم تحميلها تباعات كل هذا الخراب والدمار وكل هذه الدماء التي سالت والحياة التي توقفت.