في شهر محرم من كل عام، تستوقفنا ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء كربلاء، بما تحمله هذه الذكرى من آلام وأوجاع، وبما تتضمنه الثورة الحسينية من معان نهضوية حملها الإمام الحسين بن علي عليهما السلام ، ولأنها مناسبة تذكر باستشهاد إمام بحجم الإمام الحسين عليه السلام، سبط رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم، وسيد شباب أهل الجنة، صاحب الفضل والشرف والعظمة، جمع الفضائل والمكارم والأخلاق والمحاسن من القيم والأعمال، الذي بلغ منتهى الشجاعة وأقصى غايات الجود والقوة في نصرة الحق والنهي عن المنكر، وفي جهاد الظالمين والطغاة، وفي التصدي للانحراف والانعواج، إمام الثائرين الإمام الحسين عليه السلام الذي اختار مصارع الكرام على مجاورة اللئام.
ولهذا فإن استشهاد الإمام الحسين لم يكن حادثة عابرة انتهت في حينه، فقد كانت ثورته ضرورة تاريخية ملحة، ليس لتغيير الواقع القائم حينها فحسب، بل ولتكريس مبدأ إنساني إسلامي في مواجهة الظلم والثورة على الطغيان ليس لعصره ذاك بل لكل عصر حتى نهاية التاريخ.
ولهذا يقول الأستاذ الشاعر الكبير عبدالله البردوني – رحمه الله “يذكر الوقت بأشباهه من الأوقات لتحتشد الأحداث التي وضعت بإعادة ذكرى أوقاتها فتتبدى تربية العهد وكأن القرون المتوالية لم تقطع صلة الحدث القديم بزمنه الموغل في القدم، ومن هذه المواقيت شهر محرم من كل سنة هجرية، فهذا الشهر مقرون بثورة (الحسين واستشهاده برغم ما وقعت فيه من أحداث سوى الأحداث الحسينية, ولعلنا اليوم أكثر تمثلاً لكوارث “كربلاء” التي وقعت عام 60 للهجرة, لأن الأسى يبعث الأسى والأشباه تذكر بأشباهها، كما تلفت النقائض إلى نقيضاتها, ولعل هذه الفترة أقوى شبهاً بفترة ثورة الحسين واستشهاد بطلها”.
وكما تُذكَّرنا هذه المناسبة بعظمة الإمام الحسين عليه السلام وتشدنا إلى ما حمل الإمام الحسين من قيم ومبادئ كرسها بدمائه الطاهرة، فإنها تذكرنا في المقابل ببشاعة الطغاة المجرمين من الأمويين وأعوانهم وجلاوزتهم، وتجذر فينا جذوة الثورة في مواجهة كل الطغاة المجرمين والمنحرفين وألا نعطيهم إعطاء الذليل، وبما يجعلنا على استعداد دائم للتضحية في سبيل الله وفي مواجهة الظالمين الطغاة والجبابرة في كل زمان ومكان.
وحين خرج الإمام الحسين عليه السلام ثائرا ضد يزيد – الذي استباح الحرمات واستحل المحرمات – فإنه عبر عن الكرامة البشرية التي ترفض أن يحكمها سكير عربيد يجاهر بانتهاك شرع الله والارتداد عن دينه، وعبر عن الإيمان الحقيقي الذي يأبى الخنوع والرضوخ للظلم والطغيان، والتاريخ يعلم ما كان عليه يزيد وبني أمية وقتذاك من فجور وانحلال وارتداد وطغيان، ولهذا فإن إحياء هذه المناسبة لا يعد استجرارا لتاريخ مضى وانقضى، بل إحياء للثورة الحسينية بما تحمله من معان شاملة في ضمائرنا وفي أجيالنا، وفي ثورة الحسين عليه السلام ما فيها من الدروس العظيمة.
لقد جاء الإمام الحسين عليه السلام بعد أن ارتاب الناس وتفرقوا وتاهوا في عشرين عاما حكمها معاوية بحكم العضوض، فرّق الناس عن كتاب الله وعن سنة رسوله محمد صلوات الله عليه وآله وسلم، فأحيا البدع وأمات السنن وختمها بتنصيب ابنه يزيد.
وقد خرج الإمام الحسين عليه السلام بثورته، وقد رأى أن هناك شكلاً جديداً للإسلام بثوبه الأموي، إسلام لم يبق منه إلا شكليات مجيرة بما يخدم الظلم ويمجده، حتى صار سوط الملك الأموي العضوض، صارت المساجد في خدمته والمنابر في تبجيله والمال العام هبرا لذويه من بني أمية، أما الإسلام الحقيقي فقد أفرغ من مضمونه.
وقد عبر الإمام الحسين عليه السلام عن هذا الواقع المر والمنحرف بقوله: “ألا تَرَون أن الحقَّ لا يُعمَلُ به وأن الباطل لا يُتناهى عنه”، وبالفعل فقد أزيح الحق من واقع الحياة وبقي الإسلام عنوانا بدون حق، وليس ذلك من الإسلام المحمدي في شيء، ولهذا ثار الإمام الحسين وكانت ثورته ضرورة تاريخية حتى يبين معالم الحق من الباطل والزيف من الحقيقة، وحتى لا تصبح الأموية هي الدين والإسلام، فآثر مصارع الكرام على مجاورة اللئام.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فواقعنا اليوم يعيش الظروف تلك التي عاشها الإمام الحسين عليه السلام، فشعبنا اليوم يواجه الطغيان اليزيدي المتمثل في العدوان على اليمن الذي تحالف فيه النظام السعودي والإدارة الأمريكية والمتحالفون معهما أيضا، عدوان لا مبرر ولا شرعية له إلا لأنهم قرروا أن يسلبونا حريتنا واستقلالنا وحقنا وثرواتنا، وأرادوا استعبادنا وإذلالنا وقهرنا، وأن نُخضِعَ أنفسَنا بالمطلق لإرادتهم وتوجهاتهم وسياساتهم وإملاءاتهم وأن نجعلَ من أنفسنا عبيداً كما استعبد يزيد الأُمَّـةَ آنذاك، وفي الروايات أنه أمر جيوشه باجتياح المدينة، مدينة الرَّسُـوْل مُحَمَّـد صلوات الله عليه وعلى آله، لترغم كل المسلمين من صحابة وتابعين وأنصار ومهاجرين أن يبايع كل واحد منهم على أنه عبد قن ليزيد بن معاوية، وهو ما يريده ابن سلمان ومن خلفه الأمريكيون اليوم من الشعب اليمني.
ولهذا فإننا حينما نحيي مناسبة عاشوراء فإنما نجذر ثورة الإمام الحسين فينا ونحمل معانيها، حتى لا يتكرر ذلك التاريخ والأحداث، وعاشوراء لم تكن حدثا مقطوعا انتهى، بل ثورة ممتدة إلى آخر أيام الدنيا.