من سخرية القدر أن يصف إنسان إنساناً آخر بالنفاق لأنه يخالفه الرأي أو يعارضه في موضع يجب فيه مخالفته، فالنفاق جريمة أخلاقية ترتبط بمصلحة المنافق غير المشروعة يستخدمه تبعاً موالاة لمن له سلطة جلباً لمنفعة أو درءا لضرر، فالحكام الظلمة والمستبدون في البلدان التي يمتلك فيها الحاكم الفرد صلاحيات مطلقة يعتمدون على المنافقين بمختلف مشاربهم وألوانهم ولهذا فإن أقصر الطرق لتجفيف منابع النفاق هو تكثيف الجهود باتجاه تحويل نظام الحكم الفردي إلى نظام المؤسسة الحاكمة لتقل مبررات النفاق أو تنعدم، فالحاكم الفرد يرعى المنافقين ويغدق عليهم ويمول جوقة الذباب الالكتروني وجيشهم الجرار من خزينة الدولة ووظائفها أي مما ليس من حقه، والمجتمع غير مهتم بنزع الصلاحيات المطلقة التي يمارسها الحكام بل ويصفق لمن يتصرف بالوظيفة العامة والمال العام تصرف الملاك وليس تصرف المسؤول المؤتمن، وأحياناً أو غالبا تصرف السفهاء ومن المعلوم أن من له مصلحة مهددة من تصرفات السفيه المضرة بالمصلحة الخاصة اتخاذ الإجراءات القضائية اللازمة للحجر عليه، أما في تصرفات المسؤول السفيه بالوظيفة العامة والمال العام فإن الصفة في دعوى الحجر أو في رفع دعوى فساد التصرف فقهاً وقضاءً يفترض أنها ثابتة للكافة أي أن لكل مواطن في هذه الدعوى صفة ومصلحة في رفع دعاوى الفساد بل إن القانون اعتبر الكتابة عن قضية فساد تعد بمثابة البلاغ للنائب العام أي أنها ليست من القضايا التي يلزم فيها شكوى لعمومية آثارها.
ولا أعتقد أن هناك أعم خطراً من تصرفات السفهاء من الحكام، فهي آثار تعم المجتمع بأسره صاحب الحق والمصلحة في الوظيفة العامة والمال العام المتضرر ومن تصرفات هذا السفيه أو ذاك من إهدار المال العام بكل مفرداته واستباحة توزيع الرتب والدرجات الوظيفية بعيداً عن المعايير سوى الولاء الشخصي فهذه كارثة على الجميع، ولأن الحاكم السفيه لا يوجد من يردعه عن أفعاله وتصرفاته ولا من يسائله عن تبعات تصرفاته وأفعاله فإن سفاهته تبقى بلا حدود وآثارها يصعب حصرها إن لم يستحيل، لذلك فإن الطريق إلى الإصلاح الإداري والسياسي والقضائي وصولاً إلى قطع دابر النفاق والمنافقين يمر عبر بوابة تقليص صلاحيات الرؤساء وكبار المسؤولين، ومن الأنظمة التي وصلت إلى النظام المؤسسي في ما يتعلق بنظامها الداخلي على الأقل نظام الولايات المتحدة الأمريكية وعدد كبير من الأنظمة الغربية رغم كل التحفظات على السياسات الخارجية المتوحشة للإدارة الأمريكية في ما يخص موقفها من القضية الفلسطينية بالذات واعتمادها على مد نفوذها بما يستبيح المصالح غير المشروعة من الدول الأخرى وخاصة دول العالم الثالث، إلا أنها على المستوى الداخلي قد قطعت شوطاً كبيراً في بناء المؤسسات بما يحد أو يمنع الرئيس من تجاوز صلاحياته والتلاعب بالوظيفة العامة والمال العام وفق أمزجته وأهوائه، ومعلوم أن الصلاحيات المطلقة لبعض الرؤساء في دول العالم الثالث زادت من شره حكامها وعبثهم بالمال العام والوظيفة العامة بكل هذا القدر من السفه وعزز من اندفاعهم للاستيلاء على السلطة والحرص على طول البقاء فيها.
ومن أبرز علامات التخلف بقاء الحكام في السلطة لأكثر من فترتين انتخابيتين في البلدان التي يقوم نظامها السياسي على الانتخاب والتعددية الحزبية والسياسية وبدون محاسبة أو مساءلة، أما في البلدان الوراثية أو التي تسعى إلى توريث الحكم فحدث ولا حرج، وتختلف الأنظمة الوراثية باختلاف مستوى الوعي والثقافة فقد بات للإمبراطوريات والملكيات في بعض الدول مدلول رمزي فقط لاعتمادها النظام البرلماني الذي يتولى بموجبه الحزب الفائز في الانتخابات رئاسة الحكومة ويشكلها دون تدخل من الملك أو الامبراطور مثل بريطانيا واليابان وهولندا، بل وقد بلغ الحال بملك بريطانيا الحالي تشارلز الثالث (74عاماً) إلى التفكير في طرح موضوع انتقال بريطانيا إلى النظام الجمهوري للنقاش في مجلس العموم لوصوله إلى قناعة بأن النظام الملكي لم يعد مقبولاً في هذا العصر!، ولا يتمشى مع حقوق الإنسان وبالذات حق الإنسان في الحرية والكرامة رغم ما وصلت إليه المملكة المتحدة من ديمقراطية في اختيار الحكومة وفي تقليص صلاحيات الملك أو الملكة إلى أدنى الحدود ، وكذلك الأمر في هولندا واليابان وغيرها التي أصبحت فيها الملكية والامبراطورية ملكية وامبراطورية شكلاً جمهورية مضموناً إن لم يكن 100% فعلى الأقل 95% وما تبقى إنما هو بعض البروتوكولات والمراسيم، أما جمهوريات الموز وملكيات البلدان المتخلفة وأغلبها ممن يتلون الآية الكريمة (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖوَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) فالوطن عندهم هو الملك أو الرئيس أو السلطان وما سواهم هباء.
لقد أسمعت قالوا من تنادي؟ * فقلت لهم أنادي من أنادي
Prev Post