والد يضحي بطفله من أجل قطعة أرض

ليس له أي علاقة بالقضية.. لكن القدر يجبر البريء على تحمل نتائج وأخطاء المجرم.. يجبر الطفل على تحمل مشاكل الكبار.. ودائماٍ ما يكون الصغار ضحايا للراشدين فأنت وحياتك في يد من يعولك خاصة في وطن انتشرت فيه البطالة والفقر والأيادي العاطلة عن العمل وارتفعت نسبة انتشارها بمقدار سرعة الضوء.
ما يزال في الخامسة عشرة من العمر.. يتلقى التعليم في الصف الثامن.. لكنه وقع ضحية لمشاكل والده.. وحين يقع المرء فريسة أبيه ماذا يصنع¿! لا شيء سيفعله.. سوى البحث عن أعذار تبرئ والده.. وتحمل نفسه نتائج ما لحق بحاله ومستقبله وحاضره.

ترك المدرسة وصفوفها ومناهجها.. تنازل إجبارياٍ عن أصدقائه وطابور الصباح.. فارق أمه وأشقاءه.. واتجه نحو مستقبل مجهول.. نحو مدينة ممتلئة بالمجرمين.. ومحاطة بسور كسور الصين العظيم.. في الشبه فقط.. وأما الجودة مثل جدار كرتوني خفيف يتحول إلى حطام مجرد حدوث أي انفجار صوتي.. مدينة لا يحب صاحب عقل وطموحات دخولها ولا يألفها مجنون أيضاٍ.. لأن المجانين أكثر تحرراٍ وحرية من بعض مدعي العقلانية.. بل تجد أن البعض عشق الجنون حتى أصبح الرصيف منزله والأشجار والأحجار أسرته.. وما أجمل أن تكون لديك أسرة مسالمة لا تضرك ولا تجرح حياتك ولا تخدش مستقبلك ولا تقودك إلى التهلكة.
كان يتحدث معي وعيناه تشرقان بالدموع التي تصارع عدم تدفقها على خديه.. فتذعن صاغرة صابرة في انتظار الفرج أو الإفراج.. كان يثني على والده تارة ويعتب عليه تارة أخرى.. يحمل أباه مسؤولية ما لحق به.. ثم سرعان ما يتراجع عن تلك الحقيقة.
لا يمر عليه صباح يوم دون أن تعود به عجلة ذاكرته إلى الوراء.. تذكره بزملائه المجاورين لمنزلهم واللحظات الجميلة التي كان يعيشها معهم في طابور وصفوف المدرسة وفي طريق الذهاب والإياب إليها.. لا يمر عليه مساء دون أن يبحث عن أيدُ حنونةُ وحديثُ محشوُ بالحب الإلهي والأبدي.. وليس هناك من هو في غنى عن حب وحنان الأم.. تلك التي تسهر كي تنام أنت وتبتسم في وجهك كي تدفئك بالسعادة رغم ما بقلبها من حزن وهم وألم.
القدر يكتب في صفحات حياتنا كل الأفراح والأحزان التي ستواجهنا.. بقلم لم نستطع أن نقرأ حبره إلا بعد أن تتحول السطور وتتحقق على أرض الواقع.. ولو تمكن الإنسان من الاطلاع على تلك الصفحات لحذف كل شر.. وشطب كل محزن.. ومحا كل مؤلم.. واستغنى عن كل ما سيعكر حياته من خلافات وشجارات وغيرها مما يجلب الحزن والكدر.. لكن ليس لدينا أي قدرة في ذلك.. ولو كان بإمكاننا تصفح كتاب حياتنا لكنا وكان وطننا وعالمنا بأحسن حال.
القدر وضع أحمد محسن صالح عايض في مشكلة ليس له بها أدنى صلة لا من بعيد أو قريب.. ولم يفكر هو أيضاٍ في التساؤل عن أسبابها أو كيفية معالجتها.
المشكلة تتمحور حول خلاف نشب بين والد أحمد وآخرين على قطعة أرض تقع بمنطقة الروضة.. كل يزعم أنها ملكه وليس للآخر شيء فيها.. وهنا يأتي موعد دخول الشيطان فيكون له الدور الأكبر في تسيير الأحداث وتواليها.. وذلك حين يأبى إلا أن يكون سيداٍ للموقف بين الطرفين.. لا أحد يحب أن يسمع أو يرى ما بحوزة الآخر من وثائق ومستندات تثبت صحة امتلاكه للأرض.. كل ما يقدرون على فعله هو حمل السلاح وجمع أكبر قدر من المرافقين والمسلحين… وهذا ما يزيد الطين بلة وما يدعم ويساعد الشيطان على تحقيق هدفه.. وقد يكون الشيطان أحد البشر المناصرين والداعمين والواقفين في الجوار.
الخلاف وصل الذروة والشيطان نجح ببراعته المعهودة في قيادة الطرفين إلى استخدام السلاح الآلي والاشتباك بالرصاص الحي.. ولكن إلى هنا وبلطف من الله تعالى- انتهت الجولة الأولى دون وقوع أضرار أو خسائر من أي نوع عدا قيمة الطلقات النارية التي آثرت هذه المرة أن تتطاير بعيداٍ.. لكن كان هناك خسائر أخرى لم يتنبه لها طرفا الخصام.. وإن حدث وتنبهوا لها فلن يهتموا بها بقدر ما سيعتبرونها إحدى طرق وأساليب إثبات الذات بقوة السلاح… الخسارة التي لم يعترف بها هؤلاء هي فقدان احترام الآخرين لهم لا سيما المجاورين للحادثة, والذين لم يتجاوزوا النظر إليهم بعين العاجز الفاشل المتسلبط.. لأن أولئك المواطنين سينزعجون ويقلقون حين يجدون أنفسهم في ساحة معركة وحرب مخالفة لسمات وأخلاقيات المحاربين والمعارك.
سلم الطرف الأول ابنه أحمد وصهره إلى الأمن كرهينة لضبط القضية وحلها.. لكن النزاع تطور حتى قتل ما يقارب أربعة أشخاص من الطرف الآخر وإصابة آخرين من الجبهتين.. ليتطور مع ذلك وضع أحمد وخاله في السجن من مجرد رهائن إلى طرف في قضية جسيمة هي قتل.. إذ تمت إحالتهم إلى النيابة مع القضية ومن ثم إلى إصلاحية صنعاء.. ليس هناك أي غريب.. فهكذا تتعامل أجهزة الأمن والقضاء حين يكون الانفلات الأمني الصورة الرسمية للبلد والموضوع الأكثر تداولاٍ ونقاشاٍ سواء أكان في وسائل الإعلام أو الشارع.
كل ما يتمناه أحمد أن تصل رسالته إلى والده الذي قال عنه: “لم يزرني منذ أن تم إيداعي بالسجن.. رغم اشتياقي إليه ولإخواني ولمدرستي” وبمعنى أشمل وأصح للحرية لفك القضبان وكسر القيود.
يتمنى أحمد أمنية الأسد للحم وهو في قفص الحديقة.. أن يتذكر والده والجهات المعنية وضعه وما قد يؤول إليه بسبب إهمالهم للقضية التي أقحم على تحمل وتجرع نتائجها.

تصوير/ محمد حويس

قد يعجبك ايضا