شروط السلام قد تقلل فرص الخروج الآمن: أي دولة ينتظرها السودانيون بعد حرب الجنرالات؟

 

بينما تكافح الوساطات الأفريقية والإقليمية والدولية من أجل تثبت هدنة في السودان تقود إلى وقف الحرب المستعرة بين الجيش وقوات الدعم السريع وتعيد الأطراف إلى طاولة المفاوضات، إلا أن تعقيدات الأزمة تكبر كل يوم، لتلوح بانزلاق السودان نحو حرب أهلية قد لا يجد السودانيون اثرا لدولتهم بعدها.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله

في كل مرة تفشل فيها اتفاقيات الهدنة في السودان تعود أطراف الصراع لخوض معارك الحسم بصورة أعنف من سابقاتها، ولعل فشل الهدن الـ 10 المعلنة خلال الفترة الماضية يقدم دليلا على ذلك، ففي كل مرة كانت المعارك تتجدد بين الجانبين، بصورة أعنف وبكلفة بشرية ومالية أكبر.
وبعد مضي 55 يوما على اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع بدا أن الجهود الافريقية والإقليمية والدولية لم تقدم شيئا، لكبح الدوامة مع نقل الأطراف المتحاربة دوامة الصراع إلى مراحل متقدمة تتجاوز ترتيبات التسوية السلمية.
ليس بعيدا عن ذلك الهجمات التي شنتها قوات الدعم السريع مؤخرا وأدت الى إحراق واحد من أهم مصانع الأسلحة التابعة للجيش السوداني وتاليا إقدام كل من قوات الجيش وقوات الدعم السريع على جلب المزيد من قوتها إلى داخل العاصمة الخرطوم في ظل محاولات الدعم السريع إخراج المعارك من الأزقة الضيقة في العاصمة إلى كل الولايات السودانية.
والمستقبل القريب يبدو قاتما بالنظر إلى تداعيات الحرب التي حصدت في 55 يوما خسائر كبيرة.
في عدد الضحايا المدنيين الذي تجاوز 1800 قتيل وآلاف الجرحى، وسط تقارير تشير إلى أن الأعداد الفعلية للضحايا قد تكون أعلى بكثير، بينما تجاوز عدد النازحين الفارين من جحيم الحرب، وفقا المنظمة الدولية للهجرة، عتبة المليون مدني بينهم 476 ألفا فروا إلى دول مجاورة.
وعجلة الخسائر لم تقف عند هذا الحد، فالتقارير المحلية والدولية تشير إلى أن كلفة الحرب المندلعة منذ منتصف ابريل الماضي، تجاوزت عتبة 5 مليارات دولار، وهي مرشحة للتزايد في ظل التدهور المريع للاقتصاد السوداني وارتفاع الكلفة اليومية للمعارك والتي قدرتها دوائر اقتصادية بنحو 100 مليون دولار يوميا، باحتساب خسائر معوّقات النمو الاقتصادي وكلفة تعطيل الخدمات والمرافق الحيوية في البلاد في ظل خروج ثلاثة أرباع المستشفيات عن الخدمة.
تزيد من ذلك خسائر المعاناة الإنسانية بفعل المشكلات التي تواجه جهود الإغاثة في غياب الممرات الآمنة وعرقلة وصول المساعدات واستمرار اعمال النهب والسلب للمؤسسات الحكومية وشحنات برامج الإغاثة الدولية التي نُهب منها مؤخرا مساعدات تخص نحو 4.4 مليون مدني، في مشهد شديد القتامة عبر عنه المدير القطري للمجلس النرويجي للاجئين وليام كارتر الذي تحدث عن الحاجة إلى “قيادة إقليمية وقارية لمواجهة التداعيات الإنسانية لهذه الحرب”.

منعطف خطير
يوم السبت الماضي تمكنت أول هدنة من الصمود لـ 24 ساعة بناء على اتفاق للتهدئة تمّ التوصل إليه بوساطة سعودية-أمريكية، لكن المواجهات سرعان ما تجدد بعد انقضاء الساعات الـ 24 لتكشف أن استجابة الطرفين للهدنة المؤقتة، لم تكن سوى محاولة لتلافي ضغوط دولية محتملة، خصوصا بعد العقوبات السريعة التي فرضتها واشنطن على طرفي الصراع بعد انهيار الهدنة الأولى المعلنة برعاية أميركية سعودية.
والواضح أن الطرفين كانا عازمين على استمرار القتال، فالجيش السوداني كان قد أعلن قبلها بأيام عن تعليق المشاركة في مفاوضات جدة، وشرع بعدها بتعزيز مواقعه بقوات إضافية في العاصمة للمشاركة في عمليات منطقة الخرطوم المركزية بالتوازي مع خطوات مشابهة لقوات الدعم السريع فيما اعتبر إشارة من الجانبين لتصعيد محتمل في المواجهات.
ولم يكن غريبا أن تفشل الجهود الإقليمية التي قادتها السعودية والولايات المتحدة الأمريكية لوقف النار، فالتقديرات كانت تشير إلى أن الاستجابة لذلك تعني بالنسبة للجيش والدعم السريع عدم تحقيق انتصار عسكري أو حسم للمواجهة، بما يعنيه ذلك من فشل للجيش في اخماد ما يسميه تمردا مسلحا من قبل قوات الدعم السريع، وبالمقابل فشل الدعم السريع في وقف ما تعتبره محاولات من الجيش إعادة فلول النظام السابق للحكم والتنصل عن المسار الانتقالي الديموقراطي.
وحتى اليوم لا يزال الجيش يعتقد أنه في طريقه إلى حسم الموقف العسكري مع قوات الدعم السريع بعدما تمكن من امتصاص الصدمة، وحافظ على تماسكه طوال الأسابيع الماضية في ظل تأييد شعبي وقبلي واسع للجيش وانحسار رقعة الانتشار لقوات الدعم السريع قياسا بما كان عليه حالها في بداية الأزمة.
وفي المقابل تراهن قوات الدعم السريع على العديد من الأوراق، منها احتمال ان يقود الضغط الداخلي والخارجي في ظل طول أمد الصراع إلى انقسام الجيش، أو الحصول على دعم خارجي يمكنه إحداث تغيير جوهري في المعادلة العسكرية أو نقل المعارك إلى مناطق الحاضنة الشعبية للدعم السريع التي ستمكنها من مواصلة القتال لسنوات.

فرص الحرب الأهلية
لفترة تقترب من الشهرين أُعلنت 10 هُدن لوقف النار في السودان كلها فشلت بما في ذلك الهدن التي تم إعلانها بناء على مفاوضات جدة برعاية أمربكية سعودية وصاحبتها إجراءات رقابة من الأرض وعبر الأقمار الصناعية، ما عزز إصرار طرفي الصراع على الاستمرار في القتال إلا أن يقوم أحدهما بإبادة الآخر.
هذا الأمر قلل إلى حد كبير التوقعات بالعودة للمسار التفاوضي الذي صار مستحيلا في ظل تمسك أطراف الصراع بمواقفها ورفضها أي أفكار لمفاوضات ندية ورهانها على الحسم العسكري.
بالمقابل فإن اخفاق الجيش السوداني في حسم المواجهات مع قوات الدعم السريع خلال شهرين، عزز فرص انزلاق السودان إلى الحرب الأهلية، خصوصا في ظل السيناريوهات التي تتوقع عدم استمرار قوات الدعم السريع بالتحصن في ازقة العاصمة الخرطوم لفترة طويلة، في ظل احتمالات لجوئها إلى نقل المعارك إلى خارج العاصمة لتخفيف الضغط على قواتها هناك.
والمؤكد أن اشتعال الحرب خارج العاصمة كفيل بتوسيع رقعة الحرب ولا سيما في ولاية دارفور التي رزحت تحت وطأة عقود من العنف والنزوح ودفعت الحرب الأخيرة بالعديد من بالمجتمعات المحلية إلى حمل السلاح بمبرر الدفاع عن النفس.
وبالإضافة إلى المشكلات العميقة في ولاية الجنوب، فإن احتمالات غرق السودان في حرب أهلية تتزايد مع وجود كميات هائلة من السلاح والآليات العسكرية المكدسة من سنوات سابقة لدى الحركات المسلحة والميليشيات غير النظامية والمرتزقة وحتى المواطنين المنتشرين في طول وعرض الجغرافيا السودانية.
والترنح في الجهود السعودية والأمريكية لوقف النار، قد يتحول عاملا إضافيا، خصوصا في ظل التقديرات التي تشير إلى أن هذا الفشل سيفضي في النهاية إلى تدخل أطراف إقليمية في معادلة الحرب وتوسعها إلى مناطق مترامية سيكون الجيش عاجزا عن احتوائها، وهو ما عبر عنه مساعد الأمين العام للأمم المتحدة ستيفن جوداريك عندما أكد أن الصراع في السودان قد تكون له تأثيرات إقليمية خطيرة إن لم يتم إيقافه الآن.
ويزداد المشهد قتامة عند النظر إلى العلاقة المتدهورة بين الجيش السوداني والمجتمع الإقليمي والدولي والتي تبدو اليوم في أسوأ احالاتها، بعد رفض الحكومة السودانية التعامل مع المبعوث الأممي واعتباره شخصا غير مرغوب، بالتزامن مع تدهورت علاقات الجيش مع الولايات المتحدة بعد فرض الإدارة الأمريكية عقوبات على كلا طرفي الصراع دون الالتفاف للجيش بوصفة مؤسسة شرعية.

لا فرص للسلام
حتى الآن يمكن التأكيد على عدم وجود أي فرض لعودة أطراف الصراع لطاولة المفاوضات وإنها دوامة الحرب، فالطرفان المتصارعان لم يصلا بعد إلى حالة إنهاك تجبرهما على الانصياع لخيار السلام، وما يتم إعلانه من موافقات على الهدن المؤقتة ليس سوى دعاية سياسية تقدم الطرفين على انهما حريصان على التخفيف من معاناة المدنيين.
كما أن الهُدن في وضع معقد كالذي تعيشه السودان اليوم ليست سوى محاولات للرهان على الوقت في محاولات إعادة ترتيب الأولويات وإعادة التموضع، وفي أحسن الأحوال استغلال سيئ من كل طرف لتحسين وضعه التفاوضي إذا ما دعت الحاجة لذلك.
بالمقابل شهد العالم مؤخرا قائد الجيش السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان وهو يرتدي بزته العسكرية وينزل إلى الميدان لمواجهة تمرد قوات الدعم السريع، وقد أكد مرارا أنه عازم على مواصلة القتال حتى إنهاء التمرد، وهو ذات الموقف الذي أعلنه قادة قوات الدعم السريع الذيي أعادوا التأكيد على الاستمرار في القتال حتى القضاء على البرهان أو اعتقاله.
وطول أمد الصراع في ظل حرب الاستقطاب العاتية التي تعصف حاليا بالشارع السوداني، لها مخاطرها الكبيرة، وأقلها إنها قد تسرع من انزلاق السودان في نفق الحرب الأهلية، خصوصا وأن كافة شروطها موجودة في الساحة السودانية، سواء بمشكلات التركيبة القبلية الأثنية التي تعتبر بيئة ملائمة لاشتعال حرب أهلية، أو بالتدخل الخارجي المحتمل والتي قد تذهب بالسودان نحو المجهول.
وحتى في حال تمكن قوات الجيش السوداني هزيمة قوات الدعم السريع وطردها من العاصمة، فإن ذلك لن يعني انتهاء الحرب، فلدى هذه القوات حاضنة شعبية في إقليم دارفور والمناطق المجاورة له، حيث القبائل العربية المساندة التي يمكنه تعبئتها لقتال طويل الأمد مع الجيش.

تصورات واقعية للحل
ليست هناك حلول أكثر من التي طرحتها جهود الوساطة الدولية والأفريقية، وعلى رأسها الوقف الفوري لاطلاق النار والعودة إلى مائدة المفاوضات، على قواعد تحفظ للجيش مكانته وشرعيته وتبقيه موحدا ومتماسكا، وتقدم لقوات الدعم السريع ضمانات الخروج الآمن من طريق الاندماج مع قوات الجيش بصورة نظامية.
ولا يبدو أن ثمة فرصاً للجهود الأممية والدولية التي تسعى إلى وقف النار على أساس تقاسم السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع والقوى المدنية باعتبار أنه قد يوقف النار مؤقتا، لكنه سيبقي متفاعله تحت الرماد ويلوح بكارثة كبيرة، حيث سيسعى كل طرف إلى تدعيم مركزه العسكري، ما يعني دخول السودان في نفق مظلم من الصراع المسلح.
ولعل الموقف الرسمي السوداني من الجهود التي قادها مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرتس الذي أعلنت الخرطوم رسميا عدم التعامل معه بل واعتباره غير مرغوب فيه، يكفي لفهم الموقف الرسمي برفض الأفكار التي تدعو لإنهاء الصراع من خلال إعطاء كل طرف ما يريده.
هذا يعني ضرورة أن يأخذ أي تدخّل سياسي دولي لتسوية الأزمة السودانية في الاعتبار الحاجة إلى إعادة إرساء التوازن العسكري والساسي بحفظ وحدة الجيش وتماسكه وإنتاج آليات من شأنها التسريع بعملية انتقالية يشارك فيها الجميع وتطوى فيها كل ملفات الصراع.
وهذا الامر قد يحظى بفرص النجاح في حال انخرطت القوى الإقليمية في عملية التسوية بطريقة بنّاءة، تساهم في إرساء أسس واقعية وأكثر ديمومة للسلام، كون البديل لذلك يعني استمرار حالة انعدام الاستقرار في السودان، والتي قد تمتدّ آثارها سريعا لتطال دولاً مجاورة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى الحاجة أيضا لمواقف دولية صارمة تحد من غطرسة الطرف العسكري المنتصر وتفتح الطريق لحلول أمام الجنرالات الذين قد يشكلون خطراً على أمن السودان في المرحلة القادمة.

قد يعجبك ايضا