تنومة المسيرة القرآنية تقتص لقافلة الخلود

ريدان السيد

 

من كل فج عميق، خرجت قوافل العشاق يحدوهم الشوق إلى كعبة طالما ولوا وجوههم شطرها دون أن يعرفوا شكلها، لكن قلوب المتقين تعرف تعظيم شعائر رب العالمين.
تشق القافلة طريقها بين أفواج تطلب الدعاءَ والسلامَ على نبي السلام..
دموعُ الغبطة تملأ الأحداق، وصدور الأحبة تطرقها دقات الفراق..
يُقرِّب لنا تلك الصورة عاشق النبي (صلوات الله عليه وآله وسلم) عبد الرحيم البرعي (رحمه الله) بقوله:
لبسوا ثياب البيض شارات الرضا *** وأنا الملوع قد لبست سوادي
يا ربُّ أنت وصلتهم صلني بهم *** وبحقهم يا رب فك قيادي
غربت شمس السادس من شوال عام 1341هـ وغربت معها قافلة العاشقين إلى الأبد..
كلما اتجهت القافلة شمالاً زاد عدد الملبين، وارتفعت أصواتهم، وزاد جمر الشوق استعاراً.
ترقُب الأعين آباءً وأمهاتٍ وأبناءَ يغادرون.. تظل تلك الأعين ترمقهم حتى تنتهي النقطة السوداء في أفق اللاعودة.
لقد أمضت القافلة 13 يوماً منذ غادرت أخر نقطة تسيطر عليها القوات اليمنية شمال صعدة، دخلوا منطقة عسير التي انفرطت من العقد اليماني عن قريب.
وفي عسيرَ تخوض الكلاب البريطانية معركة التوسع والتمدد، فتتمزق عسير بين أنياب آل سعود ومخالب الأدارسة كمنطقة “فوضى تحت السيطرة”، وهي اللُعبة التي طالما أتقنها البريطانيون للحفاظ على حجم العميل وضمان ولائه وطاعته.
شقت تلبيات الحجيج أصوات نباح كلاب الإنجليز، سمع آل سعود أصواتَ التلبية فأوحت الشياطين إلى أوليائها أن بإسكات هذا الصوت وبارتكاب جريمة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، سيظهرون أمام البريطانيين عارين عن الدين والقيم، مستهينين بالمقدسات والشعائر، وبهذا فقط سيحظون بثقة البريطاني، إذ يبدو أن بني سعود لم يؤمنوا بما في القرآن إلا بآيةِ (ولن ترضى..) فسعوا لاتباع ملة اليهود والنصارى استرضاء لهم.
انسلخت أفاعي بني سعود عن جاهليتها لتُدشُنِ عصر جاهلية أشد، حذّر منها المبعوث رحمة للعالمين، ولهذه الأسباب وبتلك الدوافع صدر القرار بتنفيذ الجريمة، وجاهروا بنبذ كتاب الله وراءهم ظهريا حين قال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا).
ظهيرة يوم الأحد 17/ ذي القعدة / 1341هـ الموافق 1/ يوليو/1923م كان الموعد المحدد لتقديم طقوس الولاء في المذبح البريطاني الممتد على طول وعرض البلاد الإسلامية.
انهمر الرصاص على تلك النفوس التي آمنت بأمان الله، وانهمرت معها دموع اللاحقين على السابقين، وما تُغني دموع ضحية على ضحية.
انهمكت الأقدار تُصبِّر الضحايا، وتقلل من قدر الفاجعة تناجيهم وتناديهم..
أيتها المرأة لا تبكي على فراق رجالك الذين تركوك ولا تخشي على أطفالك الذين قد تتركينهم، فهؤلاء الوحوش لا يتحاشون من قتل الأطفال والنساء.
أيها الطفل لا تنهك نفسك بدموع الاستعطاف، فهؤلاء لا يفهمون معنى دموعك، ولا يشبعون إلا برؤية الدماء المسفوحة.
أيها العالم الجليل طلبت منهم أن يأتوا بالهدي والقلائد لينحروها قرباناً إلى ربكم، لكن يبدو أنكم ستُنحرون هنا قرباناً لربهم.
أيها التاجر لا تقلق على بضاعتك فزبيبك سيرتقي ليكون خمراً في كأس ابن سعود، وماشيتك ستدسم بها موائد الأمراء، وأموالك ستُستخدم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادة الإنجليز!
أيتها الجوارح والنسور رفقاً بتلك الأجساد فقد أعياها السفر، أيتها السيول استريهم بين الصخور فقد أبكوا سكان السماء، وأفجعوا قلوب أهل الأرض.
ثلاثة آلاف شهيد هم حصيلة تلك الوحشية، لم يكونوا في ساحة نزال، ولم يكن لهم جُرمٌ سوى أنهم يمنيون، وهذه جريمة تحول بينهم وبين حصولهم حتى على قبور تواري جثامينهم المنهكة.
ولا تزال الأقدار منهمكة منذ 99 عاماً في نداءاتها لليمنيين تحاول عبثاً تخفيف آلام ثقال، لكنها اليوم في حضور المسيرة القرآنية بقائدها ومنهجها وأمتها تقول لنا بالله عليكم خذوهم نكال الآخرة والأولى.
اليوم بعد 99 عاماً عوضاً عن قوافل الحجيج تحلق أسراب المسيرات والمجنحات فوق أودية تنومة وسدوان تناجي قافلة الخلود أننا لم ننساكم ولن يفلت الجناة، وتمضي البالستيات معاهدة لتلك الأوجاع أن الجناة سيألمون كما تألمنا، وأنه لا هوادة مع عدو قضى على نفسه ألا يبتسم إلا بألمنا ولقد طالت الابتسامة وجار الألم، واليوم يفتك به غضب الحليم فتضربه الزلازل وتعصف به البراكين وتسير به المسيرات إلى مزبلة التاريخ.. وإلى الأبد.

قد يعجبك ايضا