بادئ ذي بدء فإننا وفي مثل هذه الأيام، أي صبيحة يوم الوحدة اليمنية المباركة في ذكراها السنوية الـ 33، فإننا نتذكر وعبر أرشيف ووثائق جميع وسائل الإعلام اليمنية والعربية والأجنبية التي رصدت ووثقت لذلك الحدث اليماني الاستثنائي الوحدوي يومذاك كم إن الجماهير اليمنية في شطري اليمن قد هاجت وزغردت ورقصت في مسيرات عفوية إنسانية مرحبة بذلك الحدث، بل إننا شاهدنا معظم اليمانيين يغنون ويرقصون ويرددون الأهازيج الشعبية فرحاً بالحدث الذي انتظروه لقرون من الزمان، قرون من الفرقة والتمزق والتشطير بسبب من تنافس المصالح الداخلية للنظم السياسية المتصارعة، كالنظام الإمامي الملكي في شمال الوطن، والنظم السلاطينية والأميرية والمشيخية في جنوب اليمن وما تلاها من نظم سياسية وطنية في شطري الوطن.
تلك كانت لحظات استثنائية مهيبة عاشها الشعب اليمني، ممزوجة بالفرح الشعبي العارم، متكئة بتفضيل المصلحة الوطنية اليمنية العليا في الوحدة، وبمرجعية كبرياء وعظمة التاريخ اليماني الأصيل الذي يزهو به كل عربي يماني محترم.
لكن السؤال الكبير الذي يفرض نفسه منذ تلك اللحظات المهيبة وحتى لحظة كتابة مقالنا السياسي التاريخي هذا ؟ من هي الطبقات والفئات الاجتماعية والإنسانية التي استفادت من موضوع أو حدث الوحدة اليمنية المباركة؟
دعونا نبسط الأمر للقارئ المحلي والعربي بشكل عام، وشرح بعض مراحل حياة المواطن اليمني في شمال اليمن وجنوبه قبل إعلان الوحدة اليمنية المباركة:
أولاً:
كان هناك نظامان سياسيان في جنوب اليمن وشماله، فالجنوب حُكم من قبل جبهة قبلية سياسية عسكرية مقاتلة واسمها (التنظيم السياسي للجبهة القومية) مهمتها تحرير جنوب اليمن من المستعمر البريطاني الاحتلالي، وفي الشمال استلم الحكم مجموعة من الضباط الأحرار وعدد محدود من المثقفين تحالفوا لإسقاط النظام الملكي بقيادة الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين.
ثانيا:
منذ اللحظات الأولى لاستلام الحكم في الشمال بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 م، وفي الجنوب بعد يوم الجلاء من المستعمر الاحتلالي البريطاني في الـ 30 من نوفمبر عام 1967 م، وكلا النظامان ناصب العداء لبعضهما البعض، والسبب في ذلك طبيعة التوجهات السياسية الخارجية لكلا النظامين، فالشمال انتهج سياسة الاقتراب من النظام الرسمي العربي والنظام الدولي الرسمي بشكل عام، أما النظام في الجنوب فانتهج مبدأ الالتحام بالنظام الاشتراكي الشيوعي في الشرق وأقام تحالفاً استراتيجياً مع الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية وحلف وارسو ومجموعة الكوميكون الاقتصادية، وكانت حدود الشطرين تعد من أسخن حدود التماس على مستوى العالم برمته.
ثالثاً :
انتهج النظام في الشمال منهج اقتصاد السوق الحر بما له وما عليه، أما في الجنوب فانتهج النظام مبدأ العمل بالاقتصاد الاشتراكي المخطط مركزياً، وهذا النظام له تبعاته السلبية القاتلة العديدة.
رابعاً :
انتهج النظام في الشمال العقيدة الإسلامية السمحة كمنهج أساس في الحكم باعتبار أن الشعب اليمني موطن للأنبياء وللقادة الذين كان لهم شأن في التاريخ، وكان لهم شرف قيادة الجيوش الإسلامية في الفتوحات الإسلامية وبناء أسس الدولة الإسلامية، والحضارة الإسلامية برمتها، أما في الجنوب فقد انتهج التنظيم السياسي للجبهة القومية والحزب الاشتراكي اليمني كامتداد طبيعي للحكم انتهجوا عقيدة مغايرة للدين الإسلامي وهي المنهج الاشتراكي المستمد من الفكر الماركسي اللينيني.
خامساً :
حافظ النظام في الشمال على النظام القبلي المتخلف وجعله رديفاً أساساً للنظام السياسي الجمهوري كي يؤازر بعضهم بعضاً أو لنقل كل طرف منهم يتكئ على الآخر ويحميه، وحافظ على حق الملكية الخاصة وحماها.
بينما اعتمد النظام في الجنوب على طبقة العمال والفلاحين (والبروليتاريا الرثة) كما أسماها المفكر كارل ماركس، وقضى الحزب الاشتراكي على فئة القبائل وعقالها وشيوخها، وأنهى وقضى على علماء الأمة من الفقهاء والحبايب الهاشميين ووصل حد إبعاد المثقفين بحجة أنهم من ركائز وبقايا حقبة الاستعمار البريطاني.
سادساً :
رتب وخطط النظام السياسي في جنوب اليمن لما أسماه بتأميم المرتفعات الاقتصادية، وصادر الملكيات للعقارات السكنية، كالعمارات السكنية والشقق والفلل للبرجوازيين والرأسماليين ومن أسموهم الكومبرادور، ووصلوا حد تأميم المقاهي والمطاعم وحوانيت الحلاقة، وصادروا الممتلكات الزراعية الخاصة بالسلاطين والأمراء والشيوخ، وصادر أراضي من أسماهم بالإقطاع والكولاك وغيرها من المسميات الغريبة المستوردة حتى على من أصدرها، لأن معظم القادة السياسيين في تنظيم الجبهة القومية غير مؤهلين علمياً ولا فكرياً، وحتى أن البعض منهم أميون يفتقرون لمبادئ القراءة والكتابة. سابعا :
لقد اُرتُكِبت جرائم بشعة بحق الإنسان لا عد ولا حصر لها، وهذه ميزة تميز بها قادة الجبهة القومية والحزب الاشتراكي لاحقاً منذ حركة 22 يونيو 1969م (الخطوة التصحيحية كما أسموها)، شملت أبناء السلاطين والأمراء والمشائخ وأسرهم البعيدة والقريبة، وشملت علماء الدين الإسلامي والشيوخ والمثقفين والقادة العسكريين والسياسيين ورجال المال والأعمال وغيرهم، ومن الحركة التصحيحية وهم يقومون بجرائم فظيعة وقاسية بحق المواطنين في جنوب الوطن عبر سحل وقتل مُخيف في الشوارع والأحياء، وقيامهم بالإعدامات خارج القانون، وقاموا بالتصفيات لمجموعات سياسية مخالفة لهم في الفكر والتوجه واستمروا يطحنون بعضهم البعض، حتى انتهى حكم الرئيس عبدالفتاح إسماعيل، وهو المنتمي إلى جناح الماركسيين المتطرفين، حينما وصل الرئيس علي ناصر محمد ورفاقه إلى سدة الحكم في الثمانينيات من القرن الماضي، بدأ الناس والدولة والمجتمع والمؤسسات تتنفس الصعداء وتتخلص من ظاهرة التطرف والجنون والعبث السياسي، وقام الرئيس الجديد بالإفراج عن المسجونين السياسيين وفتح باب العلاقات الدبلوماسية واسعاً مع النظام في شمال الوطن في صنعاء وانفتح لبناء العلاقات السياسية والدبلوماسية مع دول الجوار العربي والإسلامي، لكن المتطرفين في قيادة الحزب الاشتراكي حاربوه وخططوا لأحداث 13 يناير المشؤومة بحجة أن الرئيس علي ناصر ومجموعته يخططون ويعملون لإنهاء التجربة اليسارية التقدمية في جنوب اليمن، وللأسف هؤلاء المتطرفون هم من انتصر في يناير 1986م، وغادر الرئيس علي ناصر محمد ومعه قياداته وأنصاره وهم بعشرات الآلاف إلى شمال الوطن الحبيب ومكث في العاصمة صنعاء، إلى قبيل يوم تحقيق الوحدة اليمنية حينما اشترط (الرفاق) في قيادة الحزب الاشتراكي اليمني خروج قيادات من كانوا يسموهم (بالزمرة) من مدينة صنعاء كشرط لإتمام مراسم إعلان الوحدة اليمنية، وقد رضخت السلطات في قيادة المؤتمر الشعبي العام في صنعاء لشروط (الرفاق) في قيادة الحزب الاشتراكي اليمني، وغادر الرئيس ناصر وقيادته إلى خارج العاصمة صنعاء وهم:
الرئيس / علي ناصر محمد
اللواء / احمد مساعد حسين
الأستاذ / محمد علي احمد
اللواء / عبدربه منصور هادي
اللواء / عبدالله علي عليوه
تلك الشلة من (الرفاق المتطرفين)، وهم القيادة القبلية المتطرفة (النزقة) هم من هرب من عدن والجنوب إلى الوحدة اليمنية في العام 1990م وهم من وقّع مع قيادة المؤتمر الشعبي العام في صنعاء على بيان الوحدة اليمنية المباركة، وهم أنفسهم من انقلب على الوحدة وشنوا حرب الانفصال القذرة عام 1994م من عدن بدعم مالي وعسكري سخي من المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي باستثناء سلطنة عمان وقطر، ولا زال المواطن الصنعاني البطل يتذكر بألم وحسرة، ولأول مرة في التاريخ البشري بأن مدينته الآمنة صنعاء تم قصفها بصواريخ سكود بأمر من المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني .
واليوم وبعد 33 عاما يأتي جيل ثان من تربية وأبناء الفكر الاشتراكي الضال الذين يخططون الآن للانفصال من عدن وبدعم مالي قذر من مشيخة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.
الخلاصة :
نقول بصوت عال بأن الشعب اليمني العظيم بجهاته الأربع، استفاد استفادة قصوى من القرار التاريخي الذي صدر من (قادة) شطري اليمن في 22 مايو 1990م من القرن العشرين، تلك الاستفادة هي في اتساع الجغرافيا الإنسانية والاقتصادية والثقافية والمعرفية، وبناء مجتمع الأمن والأمان، وكذلك في استدعاء التاريخ المشرق للحضارات اليمنية التي ازدهرت ذات يوم في هذا الجزء الهام من شبه الجزيرة العربية، ويوم الوحدة أنستهم آلامهم وجراحاتهم وخسائرهم تحت مقولة أن الوحدة تجب ما قبلها.
ولأن المستفيدين هم الغالبية العظمى من الشعب اليمني فإن هناك أيضاً من خسر بطبيعة الحال، وهم أيضاً جزءا من الشعب اليمني لكنهم الأقلية الصغرى بطبيعة الحال، وهم مجموعة من السياسيين الانتهازيين الذين ولولوا، ونحبوا، وبكوا على أن هذه الوحدة اليمنية قد أفقدت جزء من الشعب اليمني الإنجازات [ الكبيرة ] التي ضاعت على الشعب تتمثل في الخدمات الاجتماعية ونتائج الانتفاضات الفلاحية، وكذلك ما تحقق من إجراءات التأميم والمصادرة للمساكن الشعبية ومن نتائج تأميم (المرتفعات الاقتصادية) كما كانوا يسمونها في أدبياتهم المعلنة وتقاريرهم السوداء الخفية في أضابيرهم .
نعم استفاد الشعب اليمني العظيم من تصحيح أخطاء وجرائم حكام الجنوب والشمال السابقين معاً، وإن بقيت أخطاء وهي لا شك أنها موجودة فإن العقلاء الإنسانيين من قادة هذا الوطن الكبير، وهم ملزمون بتصحيحها بإذن الله. بقيت ملحوظة منهجية وهامة، وهي أننا نسمع بين الحين والآخر تكرار ظهور الأصوات النشاز التي تطالب باستعادة الدولة الجنوبية، إننا نقول لهؤلاء عليهم تحمل ميراث جرائم تلك الدولة بخفيفها وثقيلها، وحين طلب الحساب القانوني ستختفي تلك الأصوات الشاذة، أما الاعتماد على بناء مستقبل الدول أيا كان على مال مدنس قذر يأتي كهبة من حكام ومشائخ دول الخليج الإعرابي ( الخلايجة )، فهذا من رابع المستحيلات، ويشبه إلى حدٍ كبير بالإنسان الضامئ الذي يريد أن يرتوي من ماء السراب .
وفوق كل ذي علم عليم
*رئيس وزراء حكومة الإنقاذ الوطني