ما كان لنا أن نتخلّف عن مواصلة تعليمنا لو كنتم قمتم بما نقوم به من مواجهة ظلم واستكبار وهيمنة طغاة الأرض المتمثل بالشيطان الأكبر أمريكا وإسرائيل ، لذلك وجب علينا أن نضحي بمستقبلنا كي تُسْعَدَ الأجيال القادمة وتتعلم ..
هكذا كان رد أبي زناد على والده حينما كان يحثُّه على مواصلة تعليمه الجامعي ، وأردف الوالد بالقول : تلك نعمة أنعم الله بها عليكم وهي نعمة القيادة الربانية ، وهذا ما لم يكن مُتاحاً في زماننا يا بني ، ثم قال له :
لقد آن الأوان أبا زناد لتختار شريكة العمر، وعلينا أن نجد لك زوجة صالحة ، ونود أن نفرح بك يا بني .
التفت أبو زناد وقد بدت على محيّاه ابتسامته اللطيفة قائلاً لأبيه : عفواً سيدي، إنما اخترت السعادة الأبدية ، فالعدو على الأبواب فلا داعي أن تتعب نفسك يا أبي ، فالعدو الصهيوأمريكي قد اتخذ قراره باقتحام البلاد، وأوعز إلى أدواته ومنافقيه بالهجوم على الصراري ، وعلينا أن نعد العدة ونواجه هذا العدو بكل قوةٍ واستبسال، علينا أن نكون كأصحاب الحسين -عليه السلام- في كربلاء الطّف وكربلاء مرّان بثباتنا ويقيننا في نصرنا لله ، وإني لأظنها كربلاء شمهان قادمة لا محالة.. إنه درب الحسين وزيد والأعلام من بعدهما ، ودرب أبي عبد القادر الذي يجب علينا أن نمضي فيه بكل عزة وكرامة وقوة نستمدها من قوة الله ، هذا خيار فُرِضَ علينا ، ولا يمكن الفرار منه، لأن الفرار نتيجته الحتمية غضب الله وعذابه والمصير هو نار جهنم .. ووالله يا أبي إن لنا مقاماً عند الله لن نبلغه إلا بصبرنا على ظلم الظالمين وتجبر المجرمين ، وإن للظالمين المعتدين دركاً في قعر جهنم لن يبلغوه إلا بظلمهم لنا .
بسم الله الرحمن الرحيم [ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ] ..
فاضت عيناهما بالدموع، وسلّما أمرهما لله الواحد القهار .
هكذا كان الوعي القرآني العالي لدى أبي زناد ، والذي عزّز ذلك الوعي لديه التحاقه بدورة ثقافية عسكرية مدمجة أكسبته تلك الثقافة العالية ، وفي ختام تلك الدورة تشرّف أبو زناد ورفاقه بحضور السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي – حفظه الله وأيده بنصره – لتناول طعام الغداء معهم والذي بدوره طلب منهم التعريف بأنفسهم ، قال أبو زناد : فخشيتُ أن يخالط صفاء جهادي في سبيل الله بعض الغرور والخيلاء ففضلتُ أن أكون مجهولاً عند الناس ومعروفاً عند الله فاكتفيتُ تعريف نفسي بكنية (أبو زناد التَّعِزِّيّ) .
وبعد أن فاضت عيناهما بالدموع وفوضا الأمر لله، خرج أبو زناد من ساعته منادياً المؤمنين الصادقين من شباب آل الجنيد، أن هلمُّوا إلينا لنرد كيد الكائدين وبغي الطغاة المجرمين ، لا يجوز لأحدكم الصمت أو الحياد ، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين ، فالجهادَ الجهادَ يا أولي الأبصار.
عند الفجر وأثناء تطبيق الفتية لبرنامج رجال الله أخذ أبو زناد يبوِّئ المؤمنين مقاعدَ للقتال وهم يلهجون معاً بذكر الله والقرآن والتسبيح ، ولا ينفك عن تحريضهم على القتال بثباتٍ وصبرٍ ويقينٍ وثقةٍ بنصر الله ، مذكراً إيَّاهم بآيات الله : [ كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله ] ، [ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] .
وعندئذٍ نُصِبَتْ المتارسُ وأُعِدَّتْ العُدةُ بالسلاح البسيط الذي لا يتعدى الكلاشينكوف وقلةٌ من الرجال الصالحين، وأحدهم كألفٍ من المعتدين.
تقدم أبو زناد ومعه الكرّار مصطفى إلى مقدمة الصفوف ، وبدأ الهجوم ، وبدأ الزحف الأول وحمي الوطيس ، وبدأ القصف يستهدف المؤمنين من القمم المحيطة بالصراري كافة وبكل أنواع الأسلحة، من مدرعاتٍ ودباباتٍ ومدافعَ الهاون والصواريخ المطوَّرة ، لكن كل هذا القصف وما رافقه من زحفٍ لقوى الطغيان والإجرام لم يُنهك من عزم خيرة الفتيان ، فكُسِرَ الزحف الأول ، وعاد المعتدون يجرون أذيال الهزيمة بعد التنكيل بهم وقتل العديد منهم ، ثم تلا ذلك بعد أيام قليلة زحفٌ آخر وتمَّ كسره بعون الله وقوته.
لم تكن ألسنة الفتية الصادقين لتتوقف عن التسبيح وترديد آيات الدعاء متضرعين لله :[ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ] ، [ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ] .
كان طيران العدو الأمريكي الحاقد يُحَلِّقُ بشكلٍ دائم، و بضربةٍ حاقدة أودت بحياة مجموعة من الشباب كان من بينهم القائد عامر الحيدري ، والفتى الصغير أحمد عبدالحكيم ، دفنوا على إثرها أحياءً ، ولم يستطع أحد انتشالهم من بين كل تلك الأنقاض .
كان الفتى الصغير أحمد عبدالحكيم ملازماً لوالده للقيام بخدمته ، وبتساؤل – بسيط وعميق في آن – له من قبل أبي زناد ( أيهما أحب إليك طاعة الله أم طاعة أبيك ؟! ) كان له الأثره العظيم في استنهاض الفتى الصغير أحمد الذي لم يجب عن سؤال أخيه بل وضع ما بيديه وهبَّ مسرعاً إلى جبهة الثعير وظلّ مرابطاً فيها حتى نال الشهادة سلام الله عليه .
ونتيجة لغارات العدوان والقصف بأسلحة محرمة دولياً ، انتشرت الأمراض الجلدية بين المجاهدين ، فبادرت شقيقتا أبي زناد بإرسال علاج له وحده فقط ، لكنه رفض استخدامه حتى يتوفر علاج للمجاهدين كافة ، وحينما توافر العلاج استخدمه الجميع ومنّ الله عليهم بالشفاء .
بتلكم الأخلاق كان أبو زناد يسير بالمجاهدين ، ولم يكن ليتناول أي طعام خاص إلا إذا كان مع المجاهدين الطعام نفسه ، حتى أنه رفض أن يرتدي معطفاً عسكرياً يميزه عن بقية المجاهدين .
في ليلتة الأخيرة عاد أبو زناد – الذي لا يزال في مقتبل العمر إذ لم يتجاوز العشرين عاماً – إلى البيت لزيارة أبويه – وقد كانت الزيارة الأخيرة – وتوديعهما الوداع الأخير ، وكانت الأم التي لا يزال قلبها مكلوماً بمصابها بصغيرها الشهيد أحمد وهي تكابر وتخفي حزنها الكبير بهذا المصاب وتلك الفاجعة الأليمة وتحبس دموعها حتى لا توهن من عزم أبي زناد ، تلك الأم العظيمة التي حلَّتْ بها وبالكثير من أمهات شهداء آل الجنيد من أمثال أم الشهيد عامر وعلاء ، وأم الشهيد فؤاد ومحمد ، لكنَّها سلَّمتْ أمرها لله ولسان حالها يقول : ( اللهم إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى).
وفي غداة يوم العروج لضيوف الله والملائكة تُحلِّق في سماء الصراري استعداداً لزفاف أولياء الله والعروج بهم إلى الحياة العليا والخلود في جنة الله أحياءً عند ربهم يرزقون .
حينئذٍ بدأت المعركة الأشد وطأةً والأكثر زحفاً وهجوماً وقد استمرت لساعات ، وخلالها أذَّن المؤذن أن مصطفى الكرّار ارتقى إلى الله شهيداً، فهَبَّ إليه أبو زناد محاولاً سحب جسده الشريف فسقط جريحاً ،ثم حاول سحب نفسه إلى الوراء داعياً إلى إسعافه حيث تمكن الفتية من حمله إلى مكان آمن ، لكن جرحه البالغ اضطرهم لنقله إلى تعز للعلاج ، كانت الطريق محفوفةً بالمخاطر ، ومرتزقة الإخوان تتربص بالمؤمنين الدوائر ، فتقطعوا لهم لو لا تدخلات ذوي الدين والإنسانية وتمكنوا بفضل الله من العبور بيد أن روح أبي زناد الطاهرة ارتقت إلى العلياء ليحل ضيفاً على الله في جنة الخلد ، حاول والده العودة به لدفنه إلى جوار جده محمد بن إبراهيم الجنيد ، لكن هذا الأمر كان مستحيلاً ، فواصل الركب المسير حتى بلغ الموكب الشريف إلى منطقة ينَّان ، وهناك تلقاهم دواعش الإصلاح وأمطروهم بوابل من الرصاص والأعيرة النارية المختلفة ، مما اضطر المشيعون إلى ترك جثمانه الشريف والنجاة بأنفسهم ، فصَبَّ الأعداء جام غضبهم على جسده الشريف ، وعند الغروب تمكن بعضٌ من أبناء عمومتة من انتشال جثمانه الشريف والصلاة عليه ودفنه -سلام الله عليه- إلى جوار السيد محمد صالح علي الجنيد – رحمة الله تغشاه – في ينَّان .
لم يزل أبو زناد يحرض المؤمنين على المواجهة والقتال حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، ولم يكن راضياً بإسعافه إلى خارج الصراري ، بل كان يريد إسعافاً أولياً يسترد من خلاله ولو جزءًا من قوته وعافيته يؤهله للاستمرار في القتال ، مشدداً عليهم العودة إلى الجبهة وصد أعداء الله والحيلولة دون تقدم المعتدين .
أما الوالد عبدالحكيم – وهو يحمل آلام الدنيا وأحزاناً لا تتحملها الجبال – على الرغم من تربص الأعداء به كانت عناية الله تحوطه وعائلته ، وكفَّ الله أيدي الناس عنهم وأغشى أبصارهم، حيث تمكن بمساعدة أولي الأنفس الزكية من الخروج إلى تعز ، وكذلك أم الشهيد أبي زناد وشقيقتاه اللاتي أثناء مرورهن بجثمان الشهيد أبي زناد حاولن إلقاء نظرة أخيرة على جثمانه الطاهر فخشيت عليهنَّ النساء – المرافقات لهن – من مرتزقة العدوان فمنعنهنَّ من ذلك وواصلنَّ المسير حتى وصلنَّ إلى صنعاء بسلامة الله وحفظه ورعايته.
أما الشهيد الكرار مصطفى – وهو الذي كان يراها كربلاء أخرى – فلم يستطع الفتية المجاهدون من سحب جثمانة الشريف بسبب التغطية النارية الكثيفة للمكان ، وكان والده ووالدتة يحاولان الوصول إلى جثمانه دون جدوى، وبعد ذلك تمكّن الأعداء من السيطرة على الموقع وقاموا بالتمثيل بجسده الشريف وتقطيعه بطريقة بشعة لا يقوم بمثلها حتى الكفار ، ولايزالون يحتفظون بجثته حتى اليوم – ومن هذا المنطلق نطالب لجنة الأسرى بسرعة المبادرة للمطالبة بجسده الشريف – وحسبنا الله ونعم الوكيل، وكأني بأبوية يرددان : ( اللهم تقبل منَّا هذا القربان وأنت أرحم الراحمين ).
كانت هذه هي مسيرة القائد البطل أبي زناد (جوهر عبدالحكيم عبدالقادر الجنيد)، والشهيد البطل الكرار (مصطفى محمد عبدالكريم الجنيد) اللذين ورثا الشجاعة والعزة والشموخ والإباء عن آبائهما ، وتشربا الثقافة القرآنية من أعلام الهدى ، إذ لم يتوقف أبو زناد عن مواصلة دربه الجهادي منذ التحق بالمجاهدين في عمران حتى دخول صنعاء ، وإلى الجوف التي جرح فيها جرحاً بليغاً لم يندمل ، وظلت آلامه ملازمةً له حتى استشهد سلام الله عليه.
تواصلت زحوفات مرتزقة العدوان حتى شارفت مؤونة الفتية من الطعام والرصاص أن تنفد ، فكانت أولويتهم إخراج النساء والأطفال والانسحاب الآمن.. وقد أنقذهم الله ، ووقع البعض منهم في الأسر ، ودخل الغزاة والمجرمون القرية فبادروا إلى إحراق البيوت ونهب الممتلكات ، وفجروا البيوت والمساجد وبخاصة جامع الشيخ جمال الدين بعد أن نهبوا منه القفص – الذي جُلِبَ من الهند وتم وضعه مقاماً على الضريح الشريف لسيدي جمال الدين محمد بن عبدالرحمن الجنيد- قدّس الله سره – وكل ذلك بقصد طمس هوية آل الجنيد في منطقة الصراري.
وكان موقف الجيران الذين تجمعنا بهم صلات المودة والأخوة – وخاصة أولئك الذين تربوا ودرسوا في مدرستنا – موقفاً سلبياً منحازاً لصالح الغزاة والمعتمرين، إذ لعبت بهم الأموال المدنسة، وظهرت في قلوب البعض الآخر الأحقاد والأمراض التي جعلتهم يقفون في صف العدوان ويساهمون في عدائنا والجور علينا دون سبب يذكر .