المشاركة الهزيلة تنتظر جولة ثانية.. انتخابات تونس.. بداية انفراج أم انسداد كامل؟

 

نسبة المشاركة الهزيلة في الجولة الأولى للانتخابات التشريعية التونسية أنها عكست خيبة أمل واسعة لدى الشارع التونسي من منظومته السياسية ومن الأحزاب على السواء، إلا أن المحصلة وضعت الرئيس قيس سعيّد أمام تحد كبير بعد أن ثبت عدم قناعة التونسيين بخارطة الطريق التي اتخذها لإخراج تونس من أزمة تبدو قد وصلت إلى حالة انسداد.

الثورة/ تحليل / أبو بكر عبدالله

نسبة المشاركة الهزيلة في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية التونسية (11.2% ) بعدد ناخبين لم يتجاوز المليون و25 ألف ناخب من بين قاعدة انتخابية تعدادها 9 ملايين، كانت مفاجئة للسلطة التونسية برئاسة الرئيس قيس سعيّد الذي تحدث عن جولة ثانية بقليل من الثقة، كما كانت مفاجئة لأحزاب المعارضة التي طالبت الرئيس سعيّد بالتنحي وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة كمخرج للأزمة.
نُظمت الجولة الأولى من الانتخابات في تونس بعد إقرار الدستور الجديد، في ظل مقاطعة واسعة من أحزاب المعارضة وعزوف شعبي واسع عن المشاركة، لتأتي بنتيجة تجاوزت حدود التوقعات بنسبة مشاركة منخفضة للغاية، انتهت بالانتخاب لـ 21 مرشحا فقط بينما تقرر إجراء الجولة الثانية في 133 دائرة، بين 161 دائرة انتخابية هي قوام البرلمان الجديد، في يناير القادم.
هذه النتيجة دعت بعض أحزاب المعارضة إلى استباق الجولة الثانية بتوقعات رجحت فيها أن تنتهي بنسبة مشاركة لا تتعدى 2%، لتضع الرئيس سعيّد ومشروعه السياسي الإصلاحي أمام تحديات كبيرة ومطالب داهمة من المعارضة التي اعتبرت نتائج الانتخابات رسالة بعدم شرعية كل الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيّد منذ يوليو 2021 وحتى اليوم بما في ذلك الاستفتاء على الدستور الجديد.

أسباب قانونية
ثمة أسباب كثيرة سياسية وقانونية أنتجت نسبة الإقبال الهزيلة للمشاركة في الجولة الأولى للانتخابات التونسية يتصدرها مشكلات في الدستور الجديد والتشريعات الانتخابية المعدلة التي حالت دون ترشح قوى سياسية مؤثرة في الانتخابات بعد إقرار نظام الانتخاب الفردي الذي أزاح القوائم الحزبية وأصاب العملية الانتخابية بالجمود، ناهيك عن الشروط الصعبة التي تضمنها القانون الانتخابي للمترشحين وإفقادهم الحصانة بإخضاعهم لإجراءات سحب الثقة بعريضة يقدمها عُشر الناخبين في حال أخلال المترشح بوعوده، فضلا عن الغائه مبدأ التناصف الذي كان موجودا بين الجنسين.
يضاف إلى ذلك إجراءات القانون الانتخابي في إلغاء التمويل العمومي للمترشحين وعدم إلغاء شرط تزكية المترشح خصوصا بعد أن تمسك المجلس الوزاري بشرط حصول أي مترشح على 400 تزكية للمشاركة في الانتخابات، زاد منها حملات المقاطعة التي دعت اليها أحزاب المعارضة.
وثمة أسباب أخرى إجرائية ففي الواقع لم تتدخل السلطات التونسية في رسم ملامح العملية الانتخابية كما يجري في كل بقاع العالم، فإدارة الرئيس قيس سعيد أرادت أن تقدم نموذجا فريدا بالنزاهة، وتركت لذلك كل مفاصل العملية الانتخابية للشعب والهيئات المنظمة، ما عزز لدى الشارع شعور بغياب الدولة عن عملية سياسية مفصلية.
هذه الحالة فسرت ضعف نسبة المشاركة في الاقتراع وضعف نسبة الإقبال على الترشح، حيث وجد بين الفائزين في الجولة الأولى 10 مترشحين تم منحهم شهادة الفوز بصورة آلية بسبب عدم وجود مرشح منافس، وذلك من بين 21 دائرة انتخابية فقط تم حسم نتائجها في الجولة الأولى.
هذا الأمر لم يكن مؤشر الضعف الوحيد، فمن بين 10 دوائر انتخابية بالخارج -حيث يعيش أكثر من مليون و700 ألف من المغتربين التونسيين- تقدم للترشيح 3 مترشحين في ثلاث دوائر فقط في فرنسا وإيطاليا دون منافسين، في حين بقيت 7 دوائر خالية من المترشحين ومنها دائرة الدول العربية ولم تنضم فيها انتخابات.

أسباب عميقة
رغم تسارع قوى المعارضة في الإعلان بأن نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات قدمت استفتاء سياسياً بسقوط شرعية الرئيس قيس سعيّد ومشروعه السياسي، إلا أن المؤكد هو أن نسبة المشاركة الهزيلة في الجولة الأولى للانتخابات لم تُعبّر تماما عن استجابة الشارع التونسي لدعوات أحزاب المعارضة مقاطعة الانتخابات كما لم تُعبّر عن انخفاض مستوى التأييد لبرنامج الرئيس قيس سعيّد الإصلاحي، بل عبّر عن خيبة أمل وانعدام ثقة بالأحزاب وبمشروع قيس سعيّد معا، في إخراج تونس من أزماتها السياسية والاقتصادية.
ورغم أن نسبة المشاركة في الجولة الأولى من الانتخابات، كانت في الواقع أكبر من نسبة المشاركة في عملية الاستفتاء على الدستور والتي لم تتجاوز- بحسب بيانات الهيئة التونسية العامة للانتخابات- 5.3% من إجمالي قوام الناخبين المسجلين، إلا أنها حملت في طياتها صرخة من الشارع التونسي الذي بدأ يشعر بالملل وربما اليأس من قدرة الرئيس قيس سعيّد على تقديم حلول عاجلة للأزمات الاقتصادية التي يعانيها الشارع التونسي وفي المقدمة ارتفاع الأسعار ومحدودية الخدمات.
هذه القضايا في الواقع لم تحظ بالاهتمام الكافي من القصر الرئاسي خلال الفترة الماضية بل زادت تفاقما مع الارتفاع القياسي للأسعار والتدهور في مستوى الخدمات ومحدودية فرص العمل، ناهيك عن المناخ الذي أحدثته إجراءات الرئيس سعيد الإصلاحية وخلفت موجة إضرابات طالت العديد من قطاعات الدولة.
وكما حدث مع الأحزاب السياسية سابقا، بدا الشارع التونسي هذه المرة قد سأم تبريرات سلطة الرئيس قيس سعيّد بحديثها عن «الاحتكار، و”القوى المخربة” دون أن تتمكن من عمل شيء حيالها.
هذا الأمر عبر عنه تقرير لمركز كارتر الدولي لمراقبة الانتخابات، الذي أشار إلى أن نسبة الإقبال الضعيفة على التصويت في الانتخابات التشريعية التونسية «عكست خيبة أمل الشعب تجاه الوضع السياسي والاقتصادي الحالي، وأوضحت أن خريطة الطريق الرئاسية التي نفّذها الرئيس سعيّد لم تنجح في توحيد البلاد حول مشروع الدستور والانتخابات”.
هذه المعطيات لا تعني أن حملات المقاطعة لم تترك أثرا على العملية، فأكثر الأحزاب اتجهت للمقاطعة وسط شعور متزايد بأن العملية الانتخابية التشريعية كانت تمضي لانتخاب برلمان صوري دون صلاحيات ودون قدرة على أداء دوره الحقيقي في التشريع والرقابة والتأثير في المشهد السياسي في ظل الهيمنة الكاملة لسلطة الرئيس قيس سعيّد التي أعادت إلى الأذهان نظام الرئيس زين العابدين بن علي الذي أطاحته ثورة شعبية تنشد التغيير والديموقراطية.

آفاق الجولة الثانية
في كل الخطوات التي بدأها الرئيس قيس سعيّد في يوليو العام الماضي عندما قرر حل البرلمان المنتخب ومجلس القضاء وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية أفضت إلى دستور جديد عبر استفتاء 25 يوليو 2022، وتشريعات انتخابية جديدة، أراد الرئيس سعيّد رسم مسار سياسي جديد لتونس يخلصها من إخفاقات السنوات التي تلت ثورة الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي.
لكن الطريق الذي اختطه لم يكن معبدا تماما، فقد واجه منظومة سياسية عتيدة تضم أكبر الأحزاب السياسية تأثيرا في المشهد التونسي، وهي ذاتها التي وحدت صفوفها أخيرا في تكتل «جبهة الخلاص» الذي اتخذ مواقف مناهضة متشددة حيال الإجراءات الإصلاحية التي اتخذها الرئيس سعيّد منذ العام الماضي وصولا إلى الجولة الأولى من الانتخابات التي بدت بالنسبة لأكثر التونسيين غير منطقية وغير مقبولة لمسار سياسي مستقر مستقبلا.
وأكثر الأحزاب قاطعت الانتخابات التشريعية كانت تمتلك كتلا سياسية كبيرة في البرلمان المنحل وفقدت فجأة دورها السياسي باعتماد نظام الرئيس قيس سعيد النظام الفردي في الانتخابات التشريعية.
يتصدر هذه القوى حزب النهضة (53 نائبا في البرلمان المنحل)، وقلب تونس (28 نائبا)، وائتلاف الكرامة (18 نائبا) وحراك تونس الإرادة، والأمل، والجمهوري، والعمال، والقطب، والتيار الديمقراطي (22 نائبا)، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، والدستوري الحر (16 نائبا)، وآفاق تونس (نائبان)، وهو الأمر الذي انعكس كثيرا على عمليات الإقبال على الترشح والاقتراع في انتخابات ديسمبر.
مع ذلك لا يزال من المبكر القول بفشل الانتخابات التشريعية، فالعملية تنتظر الجولة الثانية التي ربما تنتهي بتغيير يصب في مصلحة الرئيس قيس سعيّد ومشروعه السياسي، وربما تضع تونس في أزمة انسداد سياسي كبيرة لن يكون بمقدور الأحزاب ولا الرئيس سعيد الخروج منها بشكل منفرد.
وثمة احتمالات أن تقود النتائج التي تحققت في الجولة الأولى الشارع التونسي إلى موقف مختلف في الجولة الثانية المقررة في 20 يناير المقبل، التي ستكون بلا شك منعطفاً مهماً سيحول مسار العملية السياسية التونسية إما نحو الاستقرار أو الفوضى.
وأسوأ ما يمكن أن يواجه التونسيون في العملية الانتخابية وضعها لتونس في خانة الجمود، فلا هي أسكتت الأصوات المشككة بشرعية الرئيس سعيد وإجراءاته ولا هي حسمت الأمر بتشكيل برلمان يعبر بشكل أو بآخر عن الشارع التونسي وتفاعلاته، خصوصا بعدما أظهرت نتائج الجولة الأولى نسبة مشاركة يصعب معها الإقرار بتمثيلها لقاعدة انتخابية كبيرة تناهز الـ 9 ملايين ناخب.
يزداد الأمر قتامة إذا عرفنا أن المزاج العام لدى الشارع التونسي لا يبشر بالانخراط في جولة انتخابية ثانية يمكن من خلالها الوصول إلى النصاب الأدنى المطلوب في البرلمان، ما سيضع الرئيس قيس سعيّد أمام نتيجة محبطة وهي الفشل في إخراج تونس من أزمته السياسية إلى بر الأمان.

تحديات كبيرة
أثبتت عملية الاستفتاء على الدستور ثم الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية، أن لدى الشارع التونسي هواجس مختلفة كليا عن الهواجس الدستورية والقانونية والسياسية لدى الرئيس قيس سعيّد، أكثرها على صلة بالأحوال الاقتصادية المتدهورة التي يعيش التوانسة أصداءها منذ سنوات ولم تفلح كل محاولات الرئيس سعيد بحلحلتها حتى اليوم.
يأتي ذلك مع الإقرار بأنه من غير المنصف تحميل الرئيس سعيّد مسؤولية الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، فالرجل جاء على تركة ثقيلة، كما أن المشكلات الاقتصادية تعصف اليوم بأكبر العواصم الأوروبية، وتونس ليست استثناء، بل الدولة التونسية رغم الاضطراب السياسي السائد منذ العام 2021 استمرت في تقديم الخدمات وإصلاح الاقتصاد ومحاربة الفساد وحققت تقدما نسبيا في بعض الملفات، ولم يحدث أن واجهت تونس توقفا في بعض الخدمات الأساسية، كما يحصل حاليا في عواصم أوروبية كبرى.
والحقيقة الثابتة التي ينبغي القلق منها أن استمرار الأزمة السياسية في تونس سيضاعف المشكلات الاقتصادية يوما عن يوم، وهناك تداعيات خطيرة بدأت بالظهور في الهجرات الجماعية للكفاءات التونسية والتي سجلت خلال خمس سنوات هجرة أكثر من 45 ألف مهندس وطبيب تونسي للعمل في أوروبا ودول الخليج وكندا.
وهناك مشكلات اقتصادية عميقة في تونس فالاحتياطي من العملة الأجنبية في المصرف المركزي وصل إلى أدنى مستوى منذ ثلاث سنوات وصار على وشك النفاد، في وقت تعاني فيه تونس من أزمات عميقة ستقودها نحو القروض أو الحلول التضخمية للاقتصاد، كما أن البلد يقف أمام تحد أكبر يتمثل في عدم كفاية الموارد والعجز عن تحريك عجلة الاستثمارات في قطاعات الصناعة والسياحة والزراعة.
كذلك تواجه تونس ضغوطا من صندوق النقد الدولي الذي يرى أن السلطات التونسية لم تف بوعودها بما في ذلك خفض الدعم للمواد الغذائية والطاقة وإصلاح شركات القطاع العام، ما يجعل إمكانية حصولها على قروض أمرا مستبعدا، في حين أن أي اضطرابات سياسية قد تجعل من الطموحات بجلب الاستثمارات الخارجية إلى تونس ضربا من الخيال.
كل هذه العوامل وغيرها تعني أن فشل العملية الانتخابية سيقود إلى المزيد من الاضطرابات السياسية وبالتالي تفاقم مريع للأزمة الاقتصادية سيكون من الصعب السيطرة على تداعياته مستقبلا.
إن حال التونسيين اليوم يقول: ليحكم من يحكم، شرط تطبيق القانون ومحاربة الفساد وإصلاح الوضع الاقتصادي واحترام الحريات العامة للشعب التونسي.
هذا يعني أن الرئيس سعيّد- وكذلك الأحزاب السياسية التونسية ومنظمات المجتمع المدنية النقابية- سيحتاجون بشكل عاجل إلى التخلي عن سياسة الإقصاء، والعودة لطاولة الحوار للخروج بصيغ توافقية يشارك في صنعها الجميع دون إقصاء أو استحواذ، وسيحتاجون بشكل أكثر إلحاحا إلى الابتعاد عن سياسة وضع عصا السياسة في عجلة الاقتصاد.

قد يعجبك ايضا