قضية التعامل مع اللغة ليست قضية هينة كما قد يتصور البعض، إنها قضية متعددة الأبعاد عميقة الجذور بعيدة الآفاق، وتختلف المشكلات التي تواجهها وتعاني منها أي لغة باختلاف ظروف وأحوال المجتمعات التي تنسب إليها وتتعامل بها، ومشكلات اللغة العربية على جمالها وجزالة مفرداتها وبلاغة آدابها تختلف عن بقية لغات أهل الأرض وهي مشكلات متشعبة تتسع باتساع رقعة الوطن العربي الذي تنسب إليه وينسب إليها بما يوهم أن وحدة اللغة في ذاتها عامل كاف لتوحيد الوطن حسب مدلول لفظ (الوطن العربي).
وواقع الحال أنه لا توجد أمة على وجه الأرض أكثر تمزقاً وتفرقاً بل وتناحراً في ما بينها مثل أمة العرب التي طالما تغنى أبناؤها بـ(بلاد العُرب أوطاني من الشام لبغداد
ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصرَ فتطوانِ).
هذا توصيف لا علاقة له بالتفاؤل والتشاؤم ، لأن التفاؤل إنما يبنى على واقع الحال وليس على الأحلام ، فكلما كانت الوقائع على الأرض إيجابية كنا أقرب إلى التفاؤل وكلما بعدنا كان التشاؤم نتيجة حتمية ، أي أن التفاؤل والتشاؤم نتاج فعل وليس نتاج قول أو تضليل إعلامي تمارسه أجهزة الإعلام الرسمية ذات الطابع الدعائي للحاكم الذي يتعامل مع أجهزة السلطة تعامل المالك وليس تعامل الموظف المؤتمن على الشأن العام كما هو مفترض ، والحديث عن التفاؤل في ظل واقع يدعو للتشاؤم يعكس هذه السياسة وهو تضليل نتيجته عكسية على المستوى القريب والبعيد وكذلك العكس أي التشاؤم في موضع التفاؤل.
ومن المعلوم أن اللغة وسيلة تخاطب وتفاهم وناقل للعلم والمعرفة وتلاقح الحضارات فهل أدت اللغة العربية هذه الوظيفة في حياة الإنسان العربي؟ وإذا كانت الإجابة على هذا السؤال بالنفي وهو بالتأكيد كذلك فما السبب؟
أعتقد أن هناك أسباباً عديدة من أهمها وجود فجوة كبيرة بين اللغة المحكية أو لغة التخاطب العام بين أفراد غالبية الشعب وبين اللغة الرسمية أو لغة الصفوة ولغة الخطابة والتعليم والمعاملات المستعملة في دواوين السلطات العامة التشريعية والقضائية والسياسية والتنفيذية، ومن أهم عوامل اتساع هذه الفجوة أو الهوة بين اللغتين هو تعالي السلطات على مالكها أي الشعب وعدم اهتمامها بالتفريق بين اللغة كعلم وبينها كوسيلة تواصل وتفاهم ، وتجاهل هذه السلطات لدورها المفترض في ردم الفجوة أو الهوة لتحقيق أعلى مستوى من التفاهم وتحقيق المصلحة العامة التي وجدت من أجل تحقيقها وفي إطار دورها المفترض عليها أن تضع استراتيجية واضحة ومدروسة لكيفية التعامل مع تعدد اللغات واللهجات والأحلام والأماني من أجل إيجاد لغة مشتركة لا تنفي التعدد ولا تتعامل معه على أنه مرض ينبغي استئصاله وإنما باعتباره واقعاً يجب التعامل معه بمسؤولية كمصدر غنىً وثراء معرفي وحضاري والعمل على إيجاد لغة وسط وعدم الجمود وسط القوالب الرسمية كشكل من أشكال التخفي والاستبداد ، فالمجتمعات بطبيعتها متعددة ولا غنى عن السلطة في السعي الجاد نحو إيجاد اللغة الجامعة بالترغيب وباعتبار ذلك واجباً عليها وليس بالترهيب والتعامل مع الأمر وكأنه حق من حقوقها فالسلطات خادم للشعب لا وصي عليه ، والمقصود بالتعدد هنا تعدد اللهجات على مستوى الوطن الواحد في الدولة الوطنية أو على مستوى الأقطار المتعددة في الدولة القومية ، وفي بعض البلدان كاليمن يوجد تعدد واسع في اللهجات أوجدته عوامل وظروف طبيعية واجتماعية وسياسية واقتصادية ، ومن المفارقات أن اليمني اشتهر بالهجرات المتعاقبة إلى مختلف بقاع الأرض في حين اشتهرت اليمن بالعزلة عن العالم وأسباب ذلك كثيرة منها طبيعة التضاريس الجبلية الصعبة والظروف التاريخية والسياسية وطبيعة أنظمة الحكم المتعاقبة والصراع على السلطة والتخلف في وسائل النقل والتواصل والاتصال ، إلا أن هذه الظروف تحسنت بتحسنها على مستوى العالم وبخاصة مع ظهور الثورة الصناعية التي مكنت الإنسان بالعلم والمعرفة من غزو الفضاء ، وأعقبت الثورة الصناعية ثورة المعلومات التي نعيشها والتي تقدم كل يوم جديد في قهر المسافات والتغلب على عوامل وصعوبات الطبيعة وسياسات الانعزال ، أي أن أسباب وعوامل تقارب الإنسان مع أخيه الإنسان مستمرة تتحدى رغبات بعض الحكام المسكونين بهم التفرد بالحكم والتسلط ويخيفهم ويقلقهم التطور والتقاء الحضارات والتفاهم بين البشر معتمدين على تجهيل الشعوب وتضليلها ، والتطور التكنولوجي والمعرفي يسيره التنافس المشروع سواء داخل الدولة الواحدة أو على مستوى العالم مهما كانت وسائل تزييف الوعي وأثره على كل ما له علاقة بحياة المواطن ولقمة عيشه.
واللغة تستمد حياتها وموتها من حياة الاقتصاد والسياسة والاجتماع لأنها ليست مقتصرة على الألفاظ والعبارات والحروف وهي تعبير عن مستوى حضارة وأسلوب حياة وتعامل صاحب اللغة، ولذلك رأينا في التأريخ لغات ولدت وأخرى ماتت، لأنها أشبه بالكائن الحي، والمجتمعات الحية في اقتصادها وسياستها ومختلف جوانب حياتها لها لغات تعكس مستوى تقدمها وحجم إيمانها بالوحدة أو رغبتها في الانفصال والتشرذم، وهذه العوامل كانت وما تزال أداة التجاذب بين المتصارعين أو المتسابقين على السلطة أو أداة تقدم وازدهار.
أحلامنا نبت الحياة وقلبها * والأفقُ للأحرار ليس له حدُّ