نعرف جميعاً أن (الفساد) ليس مجرد ظاهرة تُختزل داخل مفاصل مؤسسات الدولة ومرافقها الخدمية، ولا هو ظاهرة تتحكم في بعض منتسبي هذه المرافق، ولكنه أي الفساد تجاوز بكونه ظاهرة ليصبح على خلفية التغاضي والتجاهل ثقافة عامة تنخر كل مفاصل المجتمع، وبالتالي فإن (المدونة) تعد بمثابة العقد الاجتماعي الذي به ومن خلاله يمكننا أن نتصدى لثقافة الفساد والإفساد، إذا ما تم ربط هذه المدونة ونصوصها بالجوانب الإيمانية والحضارية والأخلاقية والإنسانية وبقيم الهوية والانتماء الوطنيين..
وبمعزل عن كل ما يقال عن (المدونة) من قبل الخصوم والمعارضين الذين شنوا حملات تحريض ضدها ومنحوها أبعاداً سياسية ودينية ومذهبية وطائفية وحملوها ما لا تحتمل، لدوافع سياسية مع أن هؤلاء لم يحركوا ساكنا ولم يقولوا كلمة أو حرفاً حين تم إبرام الاتفاق بين الحكومة اليمنية سابقا ومنظمة الشفافية الدولية.. التابعة للأمم المتحدة وهي المنظمة التي أنشئت لتطويع إرادة الأنظمة والشعوب، إذ تخول الاتفاقية مع هذه المنظمة الدولية استغلال قضية الفساد في أي بلد لوضع هذه البلدان تحت البند السابع لمجلس الأمن، كما يحق لمجلس الأمن تزكية عضوين من أعضائه الدائمين التدخل ضد أي حكومة أو نظام في أي بلد يثبت وجود الفساد في مفاصلها..
اليمن للأسف سبق لها ووقعت على هذه الاتفاقية عام 2006 م حتى بلغ الأمر عام 2009م أن رفضت الدول المانحة تقديم المساعدات للحكومة اليمنية مبررة ذلك بعجز الحكومة عن مكافحة الفساد وفضلت تقديم مساعداتها عن طريق (المنظمات غير الحكومية) مجردة الحكومة اليمنية من سيادتها واستقلال قرارها..
لذا فإن (المدونة) تمثل البداية نحو معالجة الظاهرة التي أصبحت ثقافة اجتماعية مكتسبة والأخطر في الظاهرة أنها لم تعد مقتصرة في نطاق الأداء الوظيفي والتعاملات اليومية بل أخذت مسارا أكثر خطورة على أمن واستقرار الوطن حين طالت الظاهرة النخب السياسية وأصبح (الفساد السياسي) أخطر بكثير من (الفساد المالي)..!
لذا فإن ربط المدونة بالجانب الإيماني والوطني والأخلاقي يمثل في حالة التطبيق الصارم أفضل الوسائل الناجعة لمكافحة الفساد وثقافة الإفساد، في خطوة وطنية سيحسبها التاريخ في مدوناته لصالح (أنصار الله) وفي ميزان حسناتهم ولصالح حكومة الإنقاذ الوطني المطالبة بالانتصار للمدونة وتطبيق بنودها بعيداً عن التوظيف والمغالاة، وبعيداً عن التفسيرات (اللاهوتية للمدونة) حتى لا تفقد بريقها وتفقد حماس العامة لها على خلفية بعض التفسيرات والتحليلات التي يطلقها البعض ممن يقدمون المدونة بقالب (مقدس) يؤدي إلى نفور الناس عنها وإنصاتهم لطروحات الآخر الذي يشن حملاته ضد المدونة لأنها ببساطة تطال ممارساته وسلوكه..
كمواطن يمني كنت أتمنى أن أرى ولو فعلاً إيجابياً واحداً اتخذته ما يسمى بـ (الشرعية) يجعلني أصدقها وأتحمس لها وأبارك خطواتها، أياً كان هذا الفعل عسكرياً أو أمنياً أو إدارياً أو سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً، لكن للأسف لم أجد هذا الفعل ولم أر من (الشرعية) إلا كل ما هو سيئ، وبشع وتآمري وخيانة للوطن والشعب، بدءاً من ذهابها لاستجلاب العدوان ضد شعبها وصولا لفسادها الذي يزكم الأنوف وارتزاقها الذي أصبح محل جدل داخل مفاصلها وبين مكوناتها الذين يكفرون ببعضهم ويلعنون بعضهم عبر المنابر الإعلامية المختلفة، ناهيكم عن فشلهم الذريع في تقديم أي فعل إيجابي طيلة سنوات العدوان على شعبهم، التي استغلوها في التحريض على شعبهم وأبناء وطنهم يتلذذون بكل مجزرة وبكل جريمة وبكل معاناة تطال شعبهم..؟!
لكل ما سلف فإن (المدونة) أرى فيها شخصياً الوسيلة الكفيلة بالقضاء على الفساد وثقافته وأدواته، وعليها ومن خلالها يمكن الرهان على رد الاعتبار لهويتنا وقيمنا الأخلاقية والحضارية، فالفساد أياً كان شكله وكانت مساحته فإنه يجردنا من كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية والحضارية، ويجردنا من قيمنا الوطنية ومن كل مقومات الهوية والانتماء، ويجعل من عملية اختراقنا من قبل أي جهة خارجية أمراً سهلاً وميسراً ولا يحتاج لجهد يبذل..!!
فالمدونة إذاً تكفل تطهير الجهاز الإداري من الفساد وأدواته كخطوة أولى لتطهير المجتمع اليمني كاملاً، وهذا يتطلب من القائمين على إنجاح المدونة وتطبيقها الكثير من الجهد والعمل والقدرة على الإقناع بلغة سلسة وبسيطة بعيداً كما أسلفت عن لغة (التقديس) والتأليه وتحميلها ما لا تحتمل، حتى فيما يتعلق بالموقف من خصومها يجب أن يكون الرد على حملاتهم بلغة عقلانية ومنطقية بمعزل عن الشطحات التي قد ترتد بصورة عكسية وتظهر (الباطل) منتصرا على (الحق) إذا كان أصحاب (الحق) عاجزين في التعبير المنطقي والعقلاني عن هذا الحق..!
في بلادنا فساد متعدد الأوجه، فساد تراكمت ثقافته واكتسبت عبر عقود من الممارسات الخاطئة، والمدونة تعد خطوة جريئة على طريق مكافحة الفساد، وهي وسيلة مثلى نابعة من قيم وأخلاقيات شعبنا وتراثه الديني والحضاري والوطني والإنساني، وتعبر عن هويته، ويكفي أنها جاءت بقرار وطني وإرادة وطنية، بعيداً عن شروط المانحين ورغبات منظمة الشفافية الدولية التي تم ابتكارها لتكون عن أداة لتطويع الشعوب والأنظمة وفرض الخيارات الخارجية عليهما، ناهيكم أن أدوات مكافحة الفساد السابقة التي كان معولاً عليها القضاء على هذه الظاهرة قد أخفقت بدورها في اجتثاث الظاهرة التي غزت هذه الأدوات واستوطنت مفاصلها من الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة إلى هيئة مكافحة الفساد إلى بقية الأجهزة الرقابية المعنية بمكافحة الظاهرة وقد أثبتت جميعها عجزها في التصدي للظاهرة لتأتي (المدونة) بهويتها الإيمانية بمثابة قارب النجاة والوسيلة المثلى التي ستكون موفقة إن كان القائمون عليها يتحلون بطهارة النفس والسلوك والإرادة والرغبة الصادقة في مكافحة الظاهرة، والنطاق الوظيفي يعد النقطة المثلى لانطلاق العملية، وجميعنا يتذكر في هذا النطاق حركة 13 يونيو بقيادة الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي التي أوجدت اللجنة العليا للتصحيح المالي والإداري، فكانت تلك اللجنة أداة مثلى للقضاء على الكثير من مكامن الاختلالات داخل مفاصل الجهاز الإداري للدولة.. والمدونة ببعدها الوطني والأخلاقي الشامل كفيلة بإعادة ضبط القيم الأخلاقية والسلوكية في النطاق الوظيفي، وهي خطوة مهمة نحو بلوغها النطاق الاجتماعي والوطني الشامل في فعل ثقافي ثوري يؤدي بالمحصلة النهائية إلى اجتثاث الفساد وثقافته وبكل أشكاله ومناحيه من سلوكيات المجتمع بكل طبقاته وشرائحه ومن مفاصل الدولة والحكومة ومنتسبيهما.