شارع الخمسين.. متنزه يجذب الزائرين رغم افتقاره لأبسط الخدمات



> المكان يمثل ملاذا للمواطن من زحمة المدينة وانعدام المتنفسات فيها

هناك حيث المكان يمثل ملاذا من زحمة المدينة وصخبها وضجيجها وهوائها الملوث هناك فقط بوسعك أن تدرك مدى احتياج الناس إلى متنفس في مدينة يتجاوز عدد سكانها مليوني نسمة فيما لا يوجد فيها سوى حديقتين عامتين تم إنشاؤهما قبل ثلاثة عقود كمتنفس لـ 135 ألف نسمة هم عدد سكان العاصمة آنذاك.
هو شارع الخمسين في العاصمة صنعاء إذن والذي لا يكاد يخلو من الزائرين طوال أيام الأسبوع أما في يوم الجمعة وأيام الإجازات فإن المكان يكاد يزدحم بالفعل لكثرة من يقصدونه كمتنفس متاح لهم ولعائلاتهم لا طمعاٍ في ما سيجدونه هناك من خدمات ومرافق سياحية أو منشآت ترفيهية بل يكفيهم منه الاستمتاع بمنظر مدينة صنعاء وكذا استنشاق هواء نقي والشعور بالهدوء والسكينة.
على مسافة تمتد لأكثر من عشرين كيلو مترا يستلقي شارع الخمسين ابتداء من منطقة حدة والعشاش وحتى منطقة مذبح مطوقاٍ العاصمة من الجهة الغربية عبر مرتفعات وتلال وهضاب كانت إلى ما قبل سنوات قريبة خالية من السكان تماماٍ أما الآن فبدأت الحياة تدب في بعض مناطقها فيما المساحة الأكبر لا تزال على موعد مع قادم الأيام لتنبض فيها الحياة.

هذا الشارع المطل في معظمه على العاصمة يقصده المواطنون أفرادا وجماعات للتنزه أغلبهم من فئة الشباب منهم من يستقل سيارته ويبقى على متنها هو وأصدقاؤه أو عائلته ومنهم من يفضل الترجل عن السيارة والجلوس على التراب والحصى ومنهم من يجدها فرصة للتمشي واستنشاق الهواء الطلق.
ما إن تجد نفسك وسط ذلك المشهد حتى يزول أي تساؤل لديك حول الأمر الذي جعل من هذا الشارع منطقة جذب للناس لقضاء أوقات الراحة والتنزه رغم خلوها من أي خدمات ترفيهية أو سياحية ناهيك عن الخدمات الأساسية حيث لا تكاد تجد فيها أبسط المتطلبات وكيف فرضت هذه المنطقة نفسها كمتنفسات رغم أنك لا تكاد تلمس حتى الآن أي توجه لتطويرها..
انعدام المتنفسات في المدينة
لقد وجد المواطنون في هذا المكان والأمكنة المشابهة له على أطراف العاصمة مثل بيت بوس وعصر وغيرها وجدوا فيها متنفسا يلجأون إليه بعد أن أصبحوا شبه محاصرين داخل المدينة التي تعج شوارعها الضيقة أصلا والعامرة بالفوضى والزحام الشديد إضافة إلى أنه ليس بوسع الحديقتين العامتين الوحيدتين – حتى الآن- في العاصمة أن تستوعبا كل هؤلاء الناس علاوة على أنها لم تعد تمثل متنفسات حقيقية حيث يكتظ المكان بالبشر ويتعالى الصخب والضجيج وتكثر المضايقات ما يجعل الناس يعزفون عن تلك الحدائق ويفكرون في البحث عن أماكن بديلة حتى وإن لم تتوفر فيها أي خدمات..
يقول عبد الخالق قطينة أحد الزائرين للمكان: إضافة إلى المنظر الجميل الذي يطل الزائر من خلاله على العاصمة والهواء النقي والهدوء تقل هنا المضايقات حيث أن المكان ممتد لمسافة كبيرة وبإمكان العائلات أن تختار المكان الذي يناسبها لتجلس فيه بعيداٍ عن أعين المتطفلين والمضايقين كما أن هناك بعض العائلات تبقى على متن سياراتها للاستمتاع بالجو ثم تغادر.
يْجمع كل من التقيناهم في شارع الخمسين على أن السبب في توجه الناس إلى هذا المكان والأماكن المشابهة له على أطراف العاصمة هو أولا المنظر الجميل الذي تتجلي به العاصمة من هذا المكان بالإضافة إلى الهواء النقي والهدوء الذي يتوفر هناك.
حمدي الشامي- شاب عشريني يسكن في منطقة مذبح يحرص على الحضور إلى شارع الخمسين كلما توفرت له الفرصة لكي يستمتع بوقته ويخزن القات مع أصدقائه حيث ملوا جميعهم من البقاء في البيوت كل يوم وإذا ما فكروا في الخروج للتمشي فليس ثمة مكان يمكن أن يستهويهم لكي يقضوا فيه وقتهم فهو يرى أن هذا المكان هو الأنسب.
انعدام الخدمات
رغم الزخم الكبير من الزائرين الذي يحظى به شارع الخمسين إلا أنه لا يزال منطقة مقطوعة يتطلب منك الحصول على أي شيء تحتاجه أن تقطع نزهتك وتعود أدراجك صوب المدينة أو تؤجل حاجتك لحين عودتك فلا الحكومة فكرت في استثمار المنطقة وإنشاء مشاريع توفر للناس متطلباتهم كالمطاعم والبقالات والاستراحات ودورات المياه فضلا عن منشآت ترفيهية ولا القطاع الخاص فعل لتظل المنطقة مقطوعة من كل الخدمات.
يجلس سامي الحرازي ليخزن القات مع مجموعة من أصدقائه يفترشون الأرض ويتكئون على ما جلبوه على سيارتهم من مداكي ووسائد مستمتعين بالمنظر والجو الجميل حسب قولهم إلا أنهم بدوا متذمرين من الإهمال الذي تعانيه هذه المنطقة التي جذبت الناس إليها لمجرد موقعها المتميز فحسب يقول سامي: المنطقة جميلة إلا أنها تخلو من أي مشاريع سياحية أو ترفيهية حتى أبسط المتطلبات لا تتوفر فيها لا مطعم ولا بوفيه ولا بقالة ولا استراحة …. إلخ بل إن إنارات الشارع رغم تركيبها منذ فترة طويلة إلا أنه لم يتم توصيلها بالكهرباء.
يضيف سامي: نتمنى أن تلتفت الحكومة والقطاع الخاص إلى هذه المنطقة التي لا يجد الزائر لها حتى دورة مياه أو محل بقالة.
عمالة الأطفال
تكاد تكون الخدمة الوحيدة المتوفرة في شارع الخمسين هي ما يقدمه أطفال يبيعون كروت الاتصالات والمياه والمشروبات الغازية وأوراق الكلينكس(الفاين). يمر أولئك الأطفال على السيارات والأماكن التي يجلس بها الزائرون يعرضون عليهم ما لديهم إلا أن الأبرز من بين تلك الخدمات هي عشش تأجير الشيشة التي تنتشر في عدة أماكن ويعمل فيها في الأغلب أطفال ومراهقون وجدوا في ذلك العمل فرصة لاكتساب الرزق إذ أن البعض من مرتادي هذا المكان يفضلون تدخين الشيشة إما من على سياراتهم أو يترجلون عنها ليجدوا مكانا هنا أو هناك يدخنون فيه ويخزنون القات ويستمر عمل هؤلاء الأطفال حتى ما قبل منتصف الليل أحيانا.
فايز جبير يبلغ من العمر 13 سنة يعمل في تقديم الشيشة لمرتادي المكان يقول فايز: أعمل هنا من سنتين لأعيل أسرتي بعد وفاة والدي يبدأ الطلب على الشيشة من فترة ما بعد الظهر وحتى بعد منتصف الليل أحيانا ولله الحمد أحصل من هذا العمل على ما يعينني في توفير متطلبات الأسرة ولو في حدها الأدنى.
شيشة وأشياء أخرى
يضيف فايز الذي يقدم لزبائنه أنواعاٍ مختلفة من المعسل: تفاح عنب خوخ فراولة بحريني … إلخ: أقدم لزبائني ما يتوفر لدي من أنواع المعسل إلا أن بعضهم يطلب أنواعاٍ جديدة فإذا تكرر الطلب من عدة زبائن فإنني أشتري هذا النوع وأقدمه لهم غير أن من الشباب من يأتي بأشياء لا أعرفها ويطلبون مني أن أضعها لهم في المعسل وقد حدث ذلك مرة وعندما ذهبوا كانت رائحة الشيشة سيئة ونتنه ويصعب إزالة تلك الرائحة حينها عرفت من أشخاص آخرين أن أولئك الشباب أضافوا مادة الحشيش إلى المعسل ومن يومها أحرص على ألاِ يحدث ذلك مجددا وإذا ما أعطاني أحد من الزبائن أي مادة لا أعرفها فإني أمتنع عن تقديم الشيشة له.
غياب الأمن
غياب الخدمات في منطقة شارع الخمسين يرافقه غياب للأمن فهذه المنطقة التي سبق وأن كانت مسرحا لعدد من الجرائم منها القتل والنشل والاعتداء والنهب ولعل أبرز تلك الجرائم مقتل دبلوماسي سعودي ومرافقه اليمني قبل ما يقارب سنة ونصف وتحديداٍ بتاريخ 28 /11/ 2012. ورغم ذلك فإنه لا وجود هنا لأي دوريات أمنية أو شرطة راجلة أو ما شابه.. يقول حسين ذيفان من سكان المنطقة: يصبح المرور أو البقاء هنا خطيرا وخاصة في الليل حيث يخلو المكان من الناس والسيارات وقد سبق وأن حدثت جرائم عدة فقبل سنتين عْثر على جثتين لرجل وامرأة داخل عبارة السيل وبعدها بفترة وجدنا سيارة بورش بداخلها رجل وامرأة مقتولين وربما كان هدف القتلة بعد قتلهما سرقة السيارة إلا أنهم لم يتمكنوا من سرقتها إذ لا يمكن تشغيلها إلا بالبصمة..
يضيف ذيفان: حصلت أيضا جرائم نشل ونهب مقتنيات شخصية من بعض الناس وكذلك نهب سيارات حيث أن اللصوص أحيانا يستأجرون سيارة إلى هذه المنطقة ثم يتخلصون من صاحبها ويأخذونها..
مع غياب الأمن عن هذه المنطقة التي تكاد تخلو من السكان يغدو شارع الخمسين مكانا ملائما لانتشار اللصوص والمجرمين الذين ينصبون هناك شراكهم ليوقعوا بضحاياهم بكل سهولة وبعيدا عن الأعين.
نقاط.. ولكن!
ثمة تواجد عسكري في شارع الخمسين يتمثل في نقطتين عسكريتين تابعتين للمنطقة العسكرية السادسة مهمتهما التفتيش عن السلاح إلا أن أفراد النقطتين حسب ما أفاد عدد من مرتادي المكان وأهل المنطقة يتجاوزون تلك المهمة ويبدأون في مضايقة الناس سيما عندما يكون رجل وامرأة جالسين بمفردهما في سيارة أو في مكان ما هنا أوهناك دون أن يتأكدوا إذا ما كانا زوجين أو خطيبين أو غير ذلك.
محمد المحويتي من سكان المنطقة المجاورة اعتاد على تناول القات في مكان ما من شارع الخمسين فهو يتواجد هناك بشكل شبه يومي يقول: أفراد النقطتين العسكريتين يقومون بدوريات حالما يشتبهون برجل وامرأة يمران من النقطة داخل سيارة لوحدهما ويتعقبون تلك السيارة فهم «يتهبشون» أكثر مما يوفرون الأمن للناس هنا.
محمد أحمد الجدوم أحد أفراد نقطة عسكرية يقول: مهمتنا هنا هي التفتيش عن السلاح ومنعه إلا أن أكثر من يمرون من هنا بأسلحتهم لديهم تصاريح لذلك نسمح لهم بالمرور ونادرا ما نعثر على أسلحة لدى أشخاص بدون تصاريح.
يضيف الجندي محمد الجدوم الذي يؤدي خدمته في هذه النقطة من ستة أشهر بعض الزملاء يخبرونني أحيانا عن أنهم ألقوا القبض على أشخاص بصحبة نساء في أوضاع غير طبيعية ولم يقدم الجدوم أي تفاصيل أخرى حول هذا الأمر..
لماذا أطراف المدينة
يقول جلال حسين مرقب باحث اجتماعي: يمكننا النظر إلى هذه القضية أو الظاهرة المتمثلة في أن الناس أصبحوا يفضلون الخروج إلى أطراف العاصمة وضواحيها لقضاء أوقات يعتبرونها من باب الترفيه والهروب من روتين الحياة اليومية من ناحيتين الأولى أن المدينة المترامية الأطراف أصبحت مزدحمة عن آخرها بفعل النمو السكاني المطرد وكذا الهجرات سواء من الأرياف المحيطة بالعاصمة أومن المحافظات والمدن الأخرى إليها وهذا الازدحام السكاني في العادة يخلق حالة من العشوائية والفوضى تضيف أعباء نفسية أخرى إلى أعباء الحياة المدنية المتسمة بالرتابة والملل في بيئة من العمل والصخب والضجيج والفوضى وتلوث الهواء وغير ذلك وتابع: وفي مثل هذه الحالات بطبيعة الحال أن الإنسان يميل أكثر إلى الطبيعة وبصورة خاصة حين تحاصره المدينة بروتينها وطبيعة الحياة فيها حيث تكون أكثر بيروقراطية وعملية ونحن نعلم أن المجتمع اليمني طيلة تاريخه ظل مرتبطا بالطبيعة حتى وهو في حضن المدينة هذا عندما كانت المدن عبارة عن تجمعات سكانية تحيط بها المزارع من كل الجهات فضلا عن وجود المزارع والمقشامات حتى داخل المدينة إذ كانت المزارع تتخلل البيوت داخل الأحياء السكنية وأيضا كان هناك أسر تحرص على جعل الأحواش وحدائق المنازل عبارة عن بساتين زراعية غاية في الجمال ولا أحد يجهل ما لتلك الحدائق المزروعة بمختلف الأشجار من تأثير سواء من حيث تلطيف الجو وتنقية الهواء أو من حيث المنظر الجمالي الذي يبعث على الارتياح النفسي لدى الإنسان.. وهذا ما لم يعد موجود لدينا..
أما الناحية الثانية يضيف جلال مرقب: فتتمثل في سوء التخطيط الذي لحق بمدينة صنعاء حيث تكاد تنعدم المتنفسات العامة للناس سواء على مستوى الأحياء والحارات أو على مستوى المدينة بأكملها فالمتنفس الوحيد هو عبارة عن حديقتي الثورة والسبعين واللتين تم إنشاؤهما في السبعينات وهي الفترة التي كان عدد سكان العاصمة لا يتجاوز 135 ألف نسمة وفق التعداد السكاني للعام 1975م ولنا أن نتساءل ومعنا الجهات المعنية إذا كانت الحكومة في تلك الأيام أنشأت هاتين الحديقتين لذلك الرقم من السكان فكم يجب أن تْنشأ حدائق عامة ومتنفسات في العاصمة بعد أن فاق عدد سكانها المليوني نسمة أي ما يقارب عشرين ضعفا مما كان عليه في ذلك الوقت!
ولنا في الختام أن نتخيل كيف أنه على مدى ثلاثة عقود تعاقبت خلالها على السلطة حكومات كان الترفيه عن المواطن وإيجاد متنفس له لا يكاد يوجد حتى في أسفل سلم اهتماماتها وبهذا غدت المدينة التي لم يفكر من يتربع على قمة هرم السلطة طيلة تلك الفترة هو وحكوماته المتعاقبة في إنشاء أو استحداث أي مساحة منها كمتنزه أو حديقة عامة أشبه بسجن كبير لا يجد المرء فيه ما يشعره بذاته أو يروح فيه عن نفسيته المرهقة بفعل واقع الحياة الصعب أصلاٍ. ومن هنا فهي حالة طبيعية أن يتجه الناس إلى خارج المدينة في ظل انعدام المتنفس داخلها حتى وإن لم يجدوا أي خدمات في هذه الأماكن التي يتجهون إليها مثل شارع الخمسين أو رأس عصر أو العشاش أو بيت بوس أو غيرها.

قد يعجبك ايضا