هناك ثلاث فضائيات تشتغل على البعد المناطقي، والرابعة تعمل من خلف جدار، والغريب أن هذا الاشتغال لا يتعرض للنقد، في حين إذا اشتغل غيرهم بذات الأسلوب لخرجوا من كل حدب وصوب باكين وشاجبين ومنددين، والأغرب أن الذين كانوا يشتغلون على فكرة الأممية ضاقت بهم الأرض وانزوت حتى أصبحت بمساحة “الجحملية”، والذين اشتغلوا على فكرة القومية العربية تساقطت قطع الأرض في بالهم خسفا وأصبحت بمساحة ” قدس “، والذين يعملون في المجال الإنساني مع المنظمات العالمية هانت عليهم مصائب كل العالم، ومصائب اليمن، ولم يروا من يستحق الموقف الإنساني سوى قرية واحدة من كل القرى الجائعة هي قريتهم فقط، والكثير من الخطاب الإعلامي المكرس اليوم وقبل اليوم لا يرى محاصرا في اليمن إلا تعز، بالرغم أن الجوف محاصرة، ومارب محاصرة، وشبوة محاصرة، والمخا محاصرة، وفق سياق خطابهم ومدلوله طبعا، أما وفق مفهومنا نحن ووفق معطيات الواقع، فالحقيقة أننا محاصرون من قبل تعز، ومن قبل مارب، ومن قبل شبوة، ومن قبل الساحل الغربي، ومن قبل التحالف برا وبحرا وجوا، فتعز التي يشتغل العالم على فكرة حصارها طرقها إلى المخا وعدن مفتوحة، وطرقها إلى صنعاء مفتوحة، وقد قامت صنعاء بأكثر من مبادرة وبما لا يترك أثرا على موقفها العسكري أو الأمني، وتلك المبادرات لاقت عنتا وصلفا من الطرف المقابل ولم نجد من يصيح من تعنته وصلفه .
منذ عام 2017م يحاصر العالم كله صنعاء ومن يحمل رايتها من بقية الجغرافيا اليمنية، ويمنع عن الناس المرتبات، والماء، والغذاء، والمشتقات النفطية، ويمنع الحركة، ويتحكم في الموانئ، ويمنع الطيران، فتعطلت الموانئ والمطارات، ومنع الغذاء والدواء والمرتبات، وما يسمونه بالمناطق المحررة يصلها الغذاء والدواء، وتصرف لها المرتبات مع العلاوات والزيادات التي وصلت إلى 100%، ولم نجد لصنعاء وما جاورها من مناطق من بواك، ومن نوائح على شبكة التواصل الاجتماعي، وليس لهم من فضائيات تنتصر إعلاميا لمعاناتهم، وهم أنفسهم يأبون المذلة والهوان ويكابرون الحياة على سغب وجوع وفاقة وحاجة، فالثابت أن مبدأهم القديم يقول “، تموت الحرة ولا تأكل بثدييها “، وهذا المبدأ يتسق مع مذهبهم الذي يميل إلى الحياة الكريمة الحرة، ويأبي الهوان وشعاره ” هيهات منا الذلة ” وهذا الشعار هو شعار ثوري يمتد من ثورة الرسول الأكرم، إلى ثورة الحسين في كربلاء التي أسست مسارا ثوريا رافضا الظلم والاستغلال والانحراف عن النهج القويم السوي، ورافضة الانتهازية، والهوان، وهذا التماثل والتوحد والاتساق بين المبدأ الحميري والمبدأ الثوري الحسيني هو من يقاوم العدوان كل هذه السنين، وسيظل يقاوم العدوان أعواما عديدة ومديدة، إذا رغب التحالف في استمرار الحرب ودوامها، ولم يمل إلى السلام المشرف والعادل الذي لا ينتقص الحقوق، ولا يفرط في الحرية، والاستقلال، والسيادة على كامل التراب اليمني، وهذا المبدأ هو نفسه من يمنع الحناجر في صنعاء ومن يقع تحت سلطتها من رفع الأصوات بما تجده من جوع، وفقر ومعاناة، وحصار، وتجويع ممنهج، من خلال نقل البنك، والتحكم في مفاصل الحياة، فالمرتبات – وهي استحقاق إنساني – نجد الفضائيات نفسها – أقصد الفضائيات التي تكرس المناطقية والمشار إليها في مطلع المقال- تستغرب أن يقدم التحالف على الموافقة على صرف الرواتب للجموع الذين يسكنون في المناطق التي يسيطر عليها الحوثي وفق مدلول خطابهم، فالبشر الذين يسكنون في صنعاء، وعمران، وذمار، وحجة، وصعدة، والحديدة، وريمة .. الخ، لا يستحقون الحياة، وليس من حقهم العيش على ظهر على هذه البسيطة، وغالب الخطاب الذي نجده في القنوات يحمل حقدا تاريخيا يكشر عن أنيابه من بين العبارات والتناولات، ولا يكاد يخفيه السياق العام للتناول، في حين لنا أن نتصور لو أن صنعاء منعت المرتبات عن تعز كيف ستكون الصورة، وما مستوى الخطاب الذي سيكون، وما مستوى النشاط الحقوقي الذي سوف يحدث ؟ لكم أن تتخيلوا ذلك بالقياس على فكرة الحصار في خطاب القنوات الفضائية التي تعمل لصالح تعز دون اليمن، فتعز وحدها المحاصرة وباقي اليمن ليس محاصرا، ولا ينبغي للبشر الذين يقطنون في بقية الجغرافيا العيش بحرية وكرامة، سواء كانت تلك الجغرافيا تحت سيطرة التحالف ومرتزقته، أو تحت سيطرة أنصار الله وحكومة الإنقاذ الوطني .
فكرة عدن للعدنيين اشتغل عليها المستعمر في النصف الأول والثاني من القرن الماضي، وقد رأينا موجات العنف التي تركته الفكرة منذ تفجرت الثورة وخرج المستعمر إلى يومنا المشهود الذي شاهدنا فيه العدنيين يحرقون كل شيء يمت إلى المناطق المحسوبة على الشمال، ويقومون بتصفية عدن من أبناء تعز ويرحلونهم على القاطرات الكبيرة بشكل غير إنساني، فقد نتج عن الفكرة ثنائيات متضادة عملت على تغذية الصراع، وها هي التجربة تتكرر من خلال الثنائيات التي نتجت بفعل العامل الثقافي والعنصر التاريخي في تعز، فقد رأينا في سنوات العدوان كيف سحلوا “أصحاب مطلع”، وكيف سلخوا الجلود، وكيف مارسوا شتى أنواع العذاب بحقد دفين، كانوا يقتلونهم في الشوارع ثم يرمون بالجثث في السايلة، وتناقل الناس عبر شبكات التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة في غاية التوحش، وكانت الملاحقة على الهوية المناطقية طبعا .
الموضوع اليوم أكثر خطورة من ذي قبل، فتعز هي كل اليمن وليس كل اليمن تعز، وهذه معادلة وطنية يفترض أن يعقلها المثقف قبل السياسي والإعلامي قبل المواطن البسيط .
ما حدث خلال سنوات العدوان كان كافيا ليقول لكل ذي عقل أو بصيرة أن اليمن لا يمكن أن تبنى بكل هذا الحقد الدفين، ولا بكل تلك المشاعر المناطقية والجهوية المقيتة، فالحالة التي عليها الناس اليوم – كما يدل عليها الخطاب الإعلامي الحزبي – ينذر بكوارث وليس بكارثة، ويكفي اليمن ما عانته وتعانيه من جراء كل أخطاء الماضي، ومن المعايب أن نكرر تلك الأخطاء حتى لا نحدث شرخا في جدار الحاضر والمستقبل، والحكيم من وقف وقفة مراجعة واتعظ من كل الأخطاء .