جميع القوى العسكرية والمدنية أمام امتحان التنازلات:مبادرة الفريق البرهان.. مسكنات للشارع أم خروج نهائي من نفق الأزمة؟ ؟
في حال صدقت النيات فإن المبادرة التي أعلنها قائد الجيش السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان لحل الأزمة بمنح القوى السياسية فرصة تشكيل حكومة انتقالية مدنية تنظم الانتخابات في غضون عام، يتبعها قرار بحل مجلس السيادة، ستكون في ظروف السودان الراهنة فرصة تاريخية للخروج من النفق المظلم، طالما وهي تجاوزت معضلة التوافق البعيد المنال بين المكونين العسكري والمدني.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله
في خضم التظاهرات الأخيرة التي شهدها السودان مطلع الشهر الجاري وسجلت في 5 أيام سقوط 10 قتلى وعشرات المصابين من المدنيين والعسكريين، فاجأ قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان الشارع السوداني بإعلانه عدم مشاركة المكون العسكري في الحوار الذي تديره “الآلية الثلاثية” والاستعداد لحل مجلس السيادة الانتقالي في خطوة حركت الركود في جولات الحوار السياسي المتعثر.
كان أهم ما أعلنه الفريق البرهان هو دعوته القوى السياسية والثورية والمكونات الوطنية الأخرى الانخراط في حوار فوري وجاد يعيد وحدة الشعب السوداني وانسحاب مجلس السيادة الانتقالي من الحوار الذي تديره “الآلية الثلاثية”، بما يفسح المجال للمكونات المدنية كي تتفق على تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة تدير ما تبقى من مهام المرحلة الانتقالية، متعهدا بحل مجلس السيادة وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة يتولى القيادة العليا للقوات النظامية، ومهام الأمن التي تقررها المكونات المدنية والحكومة الانتقالية.
كانت هذه الخطوة متوقعة في ظل الانسداد السياسي والتصعيد الشعبي بالتظاهرات بما رافقتها من اعمال عنف وسقوط ضحايا، وكذلك المطالبات لمجلس السيادة الانتقالي المتهم بقيادة انقلاب عسكري، بتقديم مبادرات جديدة من شأنها تهدئة القوى السياسية المدنية والثورية المنخرطة في التظاهرات وإعادة السودان إلى حال الاستقرار الذي افتقده منذ أكتوبر الماضي.
والتداعي الذي لم يكن متوقعا هو مسارعة قوى المعارضة الرئيسية التي يمثلها تحالف الحرية والتغيير” والحزب الشيوعي ولجان المقاومة وتجمع المهنيين إلى اعلان موقف مضاد برفض المبادرة ودعوتها إلى مواصلة التصعيد الجماهيري بجميع طرقه السلمية من اعتصامات ومواكب والإضراب السياسي وصولاً للعصيان المدني، مبررة ذلك بأن اعلان البرهان لم يخرج عن المواقف المعتادة لمجلس السيادة الانتقالي لتهدئة الأجواء دون الرغبة في وضع حل توافقي نهائي للأزمة.
فوق ذلك اعتبرت المعارضة أن الفريق البرهان أراد بهذه الخطوة، تحصين موقعه في المجلس الأعلى للقوات المسلحة وتأمين صلاحياته على الأجهزة الأمنية، في حين أن حديثه عن تشكيل حكومة مدنية يبرهن على أنه يبحث عن شخصيات تنقذه من مأزق عدم القدرة على تشكيل حكومة تعمل لصالح هيمنة الجيش على السلطة.
ورغم أن بعض قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) بدت أذكى من قريناتها عندما اعتبرت ما ورد في خطاب البرهان فرصة قد لا تتكرر للخروج من الازمة، إلا أنها على ما يبدو تجنبت الصدام مع القوى الأخرى التي شاطرتها المواقف المناهضة للمجلس العسكري، ما دعاها إلى اعلان الاستمرار في “الحراك الثوري لإسقاط الانقلاب”.
نتيجة طبيعية
لم تكن الخطوة التي اعلنها الفريق البرهان مفاجئة، فالحوارات التي تديرها “الآلية الثلاثية” كانت قد شارفت على الوصول إلى طريق مسدود بعد إعلانها تأجيل الجولة الثانية من الحوار إلى اجل غير مسمى، ما جعل مشاركة المكون العسكري فيها دليل ادانة في كونه المتسبب الرئيسي في وصول الأزمة السياسية إلى حالة انسداد في ظل تفاقم الازمة الاقتصادية، خصوصا بعد قرار المجتمع الدولي قطع المساعدات الخارجية التي تشكل 40% من الميزانية العامة في بلد يعاني من أزمة عميقة بسبب نقص النقد الأجنبي وارتفاع معدل التضخم في ظل تدهور حاد للأمن الغذائي.
من جانب آخر كانت مشاركة مجلس السيادة الانتقالي في حوار المبادرة السعودية، قد ادت إلى انقسام بداخل مجلس السيادة، كما أشعلت اتهامات بارتهان المكون العسكري لمبادرات الخارج، في مقابل عرقلته الحوار السياسي مع المكونات الداخلية.
ورغم ممارسة “الآلية الثلاثية” التي تضم بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة “إيغاد” ضغوطا إضافية خلال الأسابيع الماضية من أجل استئناف الحوار المباشر بين العسكريين والمدنيين، فإن كتلاً معارضة رئيسية، مثل قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) وحزب الأمة، رفضت الأمر، متمسكة بمطلبها الأساسي المتمثل برحيل المكون العسكري عن السلطة، الأمر الذي دعا الآلية الثلاثية إلى إعلان تعليق كامل للحوار لغياب الجدوى من مواصلة الحوارات بشكلها الحالي”.
وثمة تقارير تحدثت عن أن الخطوات التي أعلنها الفريق البرهان، جرى التداول حولها في الاجتماعات التي عُقدت بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري في منزل السفير السعودي بالخرطوم، ولا سيما في الاجتماع الثاني الذي سلم فيه تحالف الحرية والتغيير رؤيته إلى المكون العسكري، والتي تضمنت حل مؤسسات السلطة التي نشأت بعد الانقلاب العسكري في أكتوبر الماضي، وتشكيل مؤسسات جديدة وفقا للاتفاق النهائي بين الأطراف السودانية، ناهيك عن اقتراحه توقيع وثيقة باسم “إجراءات إنهاء الانقلاب” كإعلان مبادئ ملزم للجميع.
وأكثر من ذلك أن مجلس السيادة الانتقالي العسكري أدار حوارات داخلية استمرت لأكثر من شهر، تناولت سائر الإجراءات التي وردت في خطاب البرهان ثم اطّلعت عليه القوى الدولية المشاركة في الملف السوداني وأبدت موافقتها عليه كاملا خصوصا وهي حددت أسماء بعض المرشحين لرئاسة الحكومة الانتقالية.
أزمة ثقة
مواقف قوى المعارضة من مبادرة الفريق البرهان كشفت عن وجود أزمة ثقة كبيرة بين المكونين المدني والعسكري وهي المعضلة نفسها التي فشلت كل الجهود المحلية والإقليمية والدولية بتجاوزها وعادت اليوم لتشكل عقبة كأداء امام مبادرة الحل المطروحة من جانب المكون العسكري.
ذلك أن اعلان الفريق البرهان تضمن جزءاً كبيراً من مطالب قوى المعارضة، بعد إعلانه الصريح أنه لن يكون طرفا في الحوار السياسي مع ترك الحرية للقوى والأحزاب للتوافق والتفاهم وتشكيل حكومة مدنية بلا ضغوط من الجيش لتنظيم الانتخابات في غضون عام، فضلا عن استعداده حل مجلس السيادة وإعادة الجيش إلى وظائفه الدستورية في حفظ الأمن والاستقرار في البلاد، وهو ذات المطلب الذي ما انفكت القوى المدنية تطالب به طوال الفترة الماضية.
وبدا الفريق البرهان هذه المرة مدركا لمخاطر الأزمة، عندما أكد أن بلادة تمر بأزمة عميقة صارت تهدد وحدتها وتنذر بمخاطر تعوق استكمال بناء مؤسسات الدولة في ظل حالة الفوضى التي أدت إلى إزهاق المزيد من الأرواح واتلاف الممتلكات العامة نتيجة للخصومات السياسية ومحاولات احتكار السلطة واقصاء الآخر.
وأكثر من ذلك أنه لم يغلق الباب أمام الجهود المحلية والإقليمية والدولية لحل الأزمة، إذ أكد استمرار عم مجلس السيادة الانتقالي لجهود الآلية الثلاثية والأصدقاء ودول الجوار في جهود حلحلة الأزمة السودانية، فضلا عن تأكيده التزام القوات المسلحة العمل مع جميع السودانيين من أجل الوصول إلى توافق وتراضٍ وطني لإكمال مسار الانتقال والتحوّل الديمقراطي وصولا إلى انتخابات يختار فيها الشعب من يحكمه.
والخلاصة التي يمكن الإشارة اليها، أن المكون العسكري وضع بقراراته الأخيرة القوى السياسية المدنية في اختبار أمام الشارع السوداني لقياس قدرتها على تحمل المسؤولية دون رافعة المؤسسة العسكرية، وأيضا محاولة للتأثير على المواقف المتطرفة التي ترى أن المكون العسكري سبب في الازمة الطاحنة التي يعيشها، بما يقود في النهاية إلى قبول القوى المدنية والشارع العودة إلى حضن المؤسسة العسكرية دون اعتراض.
سجالات واتهامات
من غير المستبعد أن ما أعلنه الفريق البرهان، كان مناورة سياسية، أراد من خلالها حشر القوى المدنية في الزاوية الحرجة، أو بمعنى ابسط فضحها أمام الداخل والخارج بالعجز عن إدارة حوار فيما بينها وعدم امتلاكها مفاتيح الحل وذلك بالنظر إلى حجم التباينات بينها وخلافاتها البينية التي تبدو أكبر بكثير من خلافاتها مع المؤسسة العسكرية.
من الواضح أن مجلس السيادة الانتقالي أراد أيضا شرعنة الإجراءات التي اتخذها في 25 أكتوبر الماضي، خصوصا وأن إعلانه الاستعداد لحل مجلس السيادة الانتقالي، سيعني أيضا، انهاء الشراكة التي تأسست بين المكونات المدنية والعسكرية السودانية بموجب الوثيقة الدستورية الموقعة في اغسطس 2019م، وهي الصيغة التي تعتمد عليها القوى الدولية المناهضة لقرارات مجلس السيادة المتخذة منذ أكتوبر الماضي.
ورغم الاتهامات التي ساقتها المعارضة، إلا أن موقف المجلس العسكري يمكن اعتباره فعلاً اضطرارياً شرعياً، أراد الجيش من خلاله تبرئة نفسه من تهم الهيمنة والانقلاب وتداعياتها بما في ذلك النتائج التي خلفتها التظاهرات الغاضبة والقمع المفرط للمتظاهرين والقوائم الطويلة للضحايا من المدنيين والعسكريين، خصوصا وأن المكون العسكري طالب في مرات عدة القوى المدنية بتقديم تصور موحد للحل السياسي لمناقشته والتوصل إلى توافق بشأنه دون أي استجابة من المكونات المدنية التي ظلت متمسكة بشعار اللاءات الثلاثة دون تقديم آليات للحل.
والمواقف الأخيرة للقوى السياسية المدنية والثورية، افصحت عن عدم استعدادها لمثل هذه الخيارات، ما جعلها تعود للحديث عن “نظرية المؤامرة”، باتهامها مجلس السيادة الانتقالي بالمناورة والاستجابة لنصائح زعمت بعض قوى المعارضة أن قائد الجيش حصل عليها من القاهرة التي نصحته بهذه الخطوات للخروج من دوامة الضغوط الدولية، التي لا تنفك تعيد انتاج اتهامات ومطالب قوى المعارضة بإبعاد المجلس العسكري من المعادلة السياسية.
أفق أزمة
على أن خطوة الفريق البرهان تركت الكثير من الأسئلة بلا إجابات، إلا أنها نجحت في اقناع كثيرين بأن مؤسسة الجيش بعيدة عن الازمات التي تعصف بالسودان، وأن السبب الأول فيها هو القوى المدنية التي تفتقد لمفاتيح الحل وتريد فقط التباهي بقدرتها على تحرك الشارع بتظاهرات عشوائية لتجعل من المكون العسكري حائط مبكى تُلقى على عاتقه كل مشكلات السودان.
وذلك ما أثبتته تماما قوى المعارضة، عندما اعتبرت ما أعلنه ” مناورة مكشوفة وتراجعاً تكتيكياً” ودعوتها إلى مواصلة التصعيد الجماهيري بجميع طرقه السلمية من اعتصامات ومواكب والإضراب السياسي وصولاً للعصيان المدني لإجبار المكون العسكري على التنحي”.
وبالنسبة لكثيرين، فإن خيار حافة الهاوية الذي اتخذته المعارضة قد يقود السودان إلى أزمات متفاقمة، حيث أن تصعيد الشارع في ظل غياب البرنامج البديل، يجعل الخيار القابل للتحقق ليس الوصول على حكومة مدنية انتقالية بل لإبعاد المكون العسكري من المشهد السياسي، وهو سيناريو محفوف بالمخاطر قد يدفع السودان نحو المجهول.
كل ما فعلته قوى المعارضة هو إهدار فرصة تاريخية كان يتعين عليها استثمارها لطي صفحة ما تسميه “الانقلاب العسكري” وتوجيه طاقتها من أجل تشكيل حكومة كفاءات مدنية تدير ما تبقى من استحقاقات المرحلة الانتقالية، وصولا إلى انتخابات تنافسية نزيهة تمثل أطياف الشارع السوداني، عوضاً عن التشرنق داخل هلام “نظرية المؤامرة” التي قد تزيد تأزيم المناخ السياسي في السودان إلى حد يمكن أن يتطور إلى تفكك وصراع مسلح يهوي بالسودان إلى المجهول.
ذلك أن أي تنازلات يمكن أن تقدمها المعارضة للتفاهم الداخلي، وأي صعوبات يمكن أن تواجهها القوى المدنية في حال الاستجابة للخطوات التي أعلنها الفريق البرهان، تبقى أقل كلفة من الفشل في التوصل إلى تسويات تعيد السودان للمسار الانتقالي الطبيعي، كما أنها بالمعايير السياسية اقل كلفة من عودة الجيش لإحكام السيطرة على مفاصل الحكم في ظل المناخ السياسي المأزوم.
ذلك أن الساحة السودانية تفتقد للمكون السياسي الذي يحظى بإجماع يمكن تدار استحقاقات المرحلة الانتقالية تحت مظلته، في حين أن المكون العسكري لا يزال حتى الآن يحظى بإجماع نسبي أو يمكن القول إنه أكثر مكون يحظى بقبول من أطياف سياسية سودانية عدة، بما فيها الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام.
مساران للأزمة
من الواضح حتى الآن أن القوى السياسية المدنية والثورية أدارت ظهرها لمبادرة مجلس السيادة الانتقالي واختارت المضي بمواكب التظاهرات والاعتصامات والاضرابات رهانا على أن زيادة الضغوط الداخلية والخارجية على الجيش، قد ترغم مجلس السيادة العسكري على التنحي بشكل كامل، في خيار يبدو محفوفا بالمخاطر في دولة تعاني من محنة صراعات داخلية مفتوحة، وانقسامات سياسية، تجعل التوافق امرا مستحيلا.
المرجح أن تشهد الفترة المقبلة جولة مصادمات عنيفة بين القوى المدنية في ظل وجود أحزاب وتيارات متحالفة مع الجيش وأخرى لديها رغبة في العودة إلى الوثيقة الدستورية، وأطراف ثالثة تُصر على هدم المعبد تماما والتأسيس لفترة جديدة.
والمعطى الوحيد الذي يمكن البناء عليه هو أن ما أعلنه الفريق البرهان وإن اتخذ طابع المناورة السياسية إلا أنه بدا كقرار اتخذ بإجماع القادة العسكريين في مجلس السيادة ومعهم ممثلو الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، ما يعني أنه في طريقه للتنفيذ في غضون الأسابيع المقبلة.
وفقا لذلك فإن السودان سيكون امام مسارين الأول: استجابة قوى المعارضة للمبادرة والشروع بحوار يفضي إلى توافق لتشكيل حكومة كفاءات انتقالية، تتولى إدارة ما تبقى من استحقاقات المرحلة الانتقالية والتحضير لانتخابات في غضون عام، ويتبعها اصدار قرار بحل مجلس السيادة الانتقالي.
وهذا المسار يشترط لنجاحه أولا وفاء مجلس السيادة الانتقالي بتعهداته المعلنة في خطاب الفريق البرهان، وقدرة قوى المعارضة المدنية على التوافق على قاعدة عدم الاقصاء لأي طرف.
المسار الثاني يفترض عدم استجابة المكونات السياسية المدنية للمبادرة واتجاهها نحو التصعيد في التظاهرات والاعتصامات، وذلك ربما يقود مجلس السيادة الانتقالي العسكري إلى الشروع بإجراءات لنقل السلطة إلى المكونات المدنية بمن حضر من القوى السياسية المدنية القريبة من المكون العسكري، وهي خطوة لن تنهي الازمة، بل الراجح أنها ستزيدها اشتعالا خصوصا في ظل إصرار بعض القوى على اقصاء قوى أخرى وفي المقدمة النظام السابق ممثلا بحزب المؤتمر الشعبي، فضلا عن التيارات الإسلامية.