على المسؤول ألّا يمنّ ويبالغ في ما يقدمه للناس من خدمات في نطاق مسؤوليته وينسب لنفسه أشياء لم يقدمها أصلاً
في الدرس الثاني عشر من سلسلة دروس عهد الإمام علي – عليه السلام – لمالك الأشتر” 17 ذو الحجة 1443هـ”
الثورة /
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
بعد استكمال الحديث عن فئات المجتمع، مكونات المجتمع، الذين يعبَّر عنهم بالرعية في ظل نظام الإسلام، أتت التعليمات في عهد الإمام عليٍّ «عليه السلام» إلى مالكٍ الأشتر، وهي تعليمات ختامية، لكنها ذات أهمية كبيرة جدًّا، وشملت بقية الأمور الهامة.
قال «عليه السلام»:
((وَأَمَّا بَعْدَ هَذَا، فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ، وَالِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ)).
((لَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ))
لا تنقطع عن لقاءاتك بهم، والحديث إليهم، يمكن للإنسان المسؤول والوالي أن ينظِّم أوقاته، وأن ينظم أعماله، وبذلك سيتمكن من أن يخصص وقتاً من الأوقات للقاءات بالناس، وللحديث إلى الناس، فالانقطاع عن اللقاءات، والانقطاع عن الحديث إلى الناس، له تأثيراتٌ سيئة على الإنسان نفسه في موقع المسؤولية، كوالٍ، أو مسؤول، في طريقة أدائه، وفي خلفية الأمور لديه، التي يستند إليها، فيما يتخذه من قرارات، أو يعتمده مما يصل إليه، أو كذلك يتعاطى من خلاله مع الأمور، وكذلك له تأثيرات سيئة على واقع الناس أيضاً؛ لأن البعض مثلاً من المسؤولين، أو من الولاة، قد يتوجه كل اهتمامه نحو الانشغال بالعمل، فيقول: [لا داعي للقاءات، ليست ضرورية، الأهم هو الأعمال التي أنشغل بها وأؤديها بناءً على مسؤوليتي]، وقد- كذلك- يتأخر كثيراً عن الحديث إلى الناس بما يقتضيه الحال، بما تقتضيه الظروف، بما يتعلق بالمستجدات، فيكون لذلك تأثيرات سيئة جدًّا في الواقع العملي، وفي واقعه هو، وفي واقع المجتمع أيضاً، فالإمام يقول:
((فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ))
له تأثيراته السيئة عليك أنت كمسؤول، أو كوالٍ، فله أثره السيئ حتى في مدى علمك واطِّلاعك على الحقائق، على الواقع؛ لأن انقطاعك عن اللقاء بالناس، والسماع منهم، يحصر مصادر المعلومات لديك، وما تطَّلع عليه من خلال قنوات محدودة جدًّا، من بعض المقربين منك، أو بعض من تعتمد عليهم، فلا يصل إليك إلَّا ما يوصلونه هم إليك، وقد يكون شيئاً محدوداً، قد تغيب الكثير من الحقائق عنك، فتتغير نظرتك إلى الواقع، تكون نظرةً ضعيفةً محدودةً، لا تمتلك كل المعطيات، كل الحقائق؛ وبالتالي تبني على هذه النظرة الجزئية المحدودة، التي غاب عنها الكثير من الحقائق والمعطيات، تبني عليها سياسات خاطئة، قرارات خاطئة، توجهات خاطئة، تهمل أشياء، وإهمالك لها له تأثيرات سيئة في واقع الناس؛ وبالتالي حتى في موقفهم منك، فمسألة الاحتجاب الطويل، التأخر الطويل عن الناس في اللقاءات، التأخر الطويل عن الناس في الحديث إليهم له تأثيراته السيئة، هذا من جانبك، يؤثِّر عليك حتى نفسياً، تتعود على حالة الانعزال والعمل في نطاقٍ مغلقٍ محدود، يؤثِّر على نفسيتك، ويؤثِّر عليك في قراراتك وتوجهاتك، التي لا تستند إلى الحقائق كاملة، إلى الواقع من خلال تشخيصٍ دقيق واطلاعٍ تام على الواقع.
((وَالِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ))
كذلك الولاة من جانبهم، والمجتمع من جانبه، الكل يتأثر، فالولاة باحتجابهم عن الواقع تصل إليهم الأمور مشوشة وناقصة؛ وبالتالي قد تكبَّر عنده من خلال ما يصل من مصادر محدودة، أو قنوات محدودة يعتمدون عليها في الاطِّلاع على الواقع، في أن ينقل إليهم ما ينقل من الواقع، تكبَّر عندهم الأمور الصغيرة، وأحياناً تضخَّم، مثلاً: تضخَّم مشكلة معينة، أو قضية معينة، حتى تظهر وكأنها كبيرة جدًّا، أو تصغَّر الأمور الكبيرة، ويكون لها تأثيراتها السيئة؛ لأنك ستتعامل معها بناءً على ذلك، فأنت- بالتالي- ستتعامل مع مسألة صغيرة وكأنها مسألة كبيرة جدًّا، وتتعامل مع مسألة مهمة، كبيرة، خطيرة، بتعاملٍ ضعيف، وبارد، ومحدود، ولا تعطيها ما تستحق من الاهتمام، ولا تتعامل معها بما ينبغي، بحجمها، بتأثيراتها، فسيكون لذلك تأثير كبير على طريقتك في العمل، وطريقتك في التعامل، وطريقتك في اتخاذ القرار، فهي مسألة حسَّاسة، ومسألة خطيرة.
((وَالِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ، فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ))
لأن النقل أحياناً قد يكون بهذه الطريقة التي تشوه الحقائق، وتقدِّم الصورة المختلفة عن الأمور، إلى درجة أن تُقَبِّح الحسن، يعني: تقدِّم صورة سيئة، مشوهة، مختلفة تماماً عن الواقع في قضية معينة، أو موقفٍ معين، أو شخصٍ معين، وتنقل صورةً حسنةً، مجملةً، مزينةً، تجاه قضية هي بالعكس تماماً، قضية فيها ظلم، أو إساءة، أو تصرفٌ خاطئ، عن شخصٍ كذلك هو شخص سيئ، هذا بالنسبة للولاة.
بالنسبة أيضاً للناس مع الاحتجاب، مع الانقطاع عن اللقاءات بهم، والحديث لهم، والتوضيح لهم، والتبيين لهم، مع النشاط المعادي والمناوئ، الذي يتحرك بطريقة سلبية في الساحة، فيسعى للتشويش حول كثيرٍ مثلاً من القرارات، من المواقف، من الإجراءات العملية التي قد تكون ضرورية، قد تكون مهمة، قد تكون مفيدة، قد تكون في مصلحة المجتمع، وتقتضيها الظروف، ولكن لا علم للناس بحيثياتها، بدوافعها، بخلفياتها، بأسبابها، فيأتي من يثير التشويش حول ذلك، ومن يتحرَّك بالدعايات المسيئة، وأحياناً الدعايات الكاذبة، التي لا أساس لها من الصحة، ويخلط الأمور، فيرسِّخ في الساحة نظرةً سلبيةً جدًّا، وقناعةً خاطئة لدى الناس، وبالتالي ردود فعلٍ سلبية من جانب الناس، والسبب هو ذلك الانقطاع عن الناس، في اللقاءات بهم، في النقاش معهم للأمور، في توضيح الحقائق لهم، وفي السماع منهم، فلذلك تأثيرات سيئة.
((وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ))
يمزج أحياناً الحق بالباطل؛ من أجل التشويه، أو من أجل نقص الحقائق والمعطيات، أو ما شاكل ذلك.
((وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ))
بشرٌ، لا يعلم الغيب والشهادة، لا يطَّلع على الخفايا، فإذا انقطع عن الناس في لقاءاته بهم، غابته عنه الكثير من الحقائق، ولم يعرف بها، لم يعرف بها، انقطاعه عن اللقاءات بالناس يغيِّب عنه- حتماً- الكثير من الحقائق في الساحة؛ لأنه لا يعلم الغيب.
((وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ))
فقد تصل الأمور إلى الإنسان، تصل معلومات معينة، أو ينقل إليه عن بعض الأمور والقضايا نقل خاطئ، ليس هناك لون، أو شكل، لما يصل إليك من المواضيع تتبين صدقه من كذبه، إن لم يكن لديك اهتمامٌ بالتحري، وبالاطلاع على الواقع، فالانقطاع عن الواقع يغيِّب عنك الحقائق، ويمكن من خلال ذلك التلبيس عليك، لكن إذا كنت تلتقي بالناس، تتحرى عن الواقع، تطلع على الواقع، لديك اطلاع واسع، ومصادر وقنوات كثيرة، وتسمع الكثير، فيمكنك أن تكتشف أن ما نقل إليك كان نقلاً غير صحيح، أو نقلاً ناقصاً، أو قاصراً، أو زائداً، أو ما شاكل، فتستطيع أن تصل إلى صورة مكتملة حقيقية، واقعية، وأن تكون واقعياً بالتالي في طريقتك في العمل والموقف، وفي قراراتك وتوجهاتك.
((وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ))
أنت كوالٍ، كمسؤول، أحد رجلين:
((إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ))
إمَّا أن تكون قد وطّنت نفسك على أن تبذل الحق، وأن تبذل جهدك وما تستطيع في أداء مسؤوليتك، فإذاً لا تتحرج من اللقاءات، ليس هناك ما يبرر لك أن تتحرج من اللقاءات؛ لأنك موطنٌ نفسك على أن تبذل الحق، وأن تعمل المستطاع، وأن تقدم المستطاع والممكن، وهذا الذي عليك.
((فَفِيمَ احْتِجَابُكَ؟ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ، أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ))
هل تحتجب من ألَّا تقدم حقاً، أو تعطي حقاً، أو تبذل كذلك فعلاً كريماً، ما الذي يمنعك، أو يعيقك عن اللقاءات بالناس، أو يحرجك؟
((أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ))
أو أنك إنسانٌ مبتلى بالمنع، شحيح، لا تريد أن تبذل، لا تريد أن تعطي، لا تريد أن تخدم المجتمع، وأن تقدم شيئاً للمجتمع.
((فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ، إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ))
إذا أيس الناس من بذلك، وعرفوك بالشح والمنع، وأنك لست جهة خير، ولا يؤمَّل فيك الخير، ولا ينتظر منك الخير، يأسهم منك سيجعلهم يتركونك ولا يؤملونك، ويتجهون إلى غيرك.
((مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مِمَّا لَا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ))
لأن البعض مثلاً من المسؤولين، أو الولاة، من أكبر ما يحرجه عن اللقاءات بالناس، ويجعل البعض إمَّا يقلل من لقاءاته بالناس، أو يترك اللقاءات بالناس، الحرج من الطلبات، البعض من الناس مثلاً قد يلتقيك ومعه طلبات شخصية، ولا تمتلك الميزانية الكافية لتلبية الطلبات وفق رغبات الناس وأهوائهم، وبالذات أن الكثير، وبالذات من الوجاهات، من الوجاهات الكثير منهم طلباته طلبات غير ضرورية، يطلب بحسب رغباته الشخصية، وأهوائه، وطموحاته، مطالب كبيرة، مرهقة، مكلفة، لا تفي بها ميزانية الدولة، أو ميزانية المحافظة، أو ميزانية الدائرة، أو ميزانية الوزارة، أو أي ميزانية، لا تفي بها، متطلبات كبيرة، والبعض من الناس أيضاً بطبيعته إنسانٌ كريم، يشق عليه ويصعب عليه أن يرد من يطلبه، فيواجه الحرج؛ فيؤثر الانقطاع، بيقولوا: [غفلة ولا بديه]، بيؤثر الانقطاع، ويكون لهذا الانقطاع تداعيات، ونتائج، وآثار سلبية، على العمل وفي الواقع، في واقع المجتمع، وتجاه من أنت مسؤولٌ عنهم، فيمكن للإنسان في هذا أن يكون واضحاً، بمعنى: أن يبين أن ما بيده من إمكانات هي إمكانات في نطاق مسؤولية، ولا يمكنه أن يبعثرها، وأنه أصلاً يعني لا يمتلك ما يمكن أن يفي به ما يطلبه البعض وفق رغباتهم وطموحاتهم في ظروفٍ عسيرةٍ وصعبة، ويعتذر كما قال الإمام عليٍّ «عليه السلام» فيما سبق: بإجمال، يبين بطريقة رائعة وجميلة عذره في ذلك، ولكن لا يكون هذا عائقاً عن اللقاءات بالناس؛ لأن ليس الناس بكلهم لديهم مطالب مالية، أو مادية، هناك الكثير من الناس حاجاتهم إليك لا مؤنة فيها عليك، مثلما ذكر هنا:
((مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ، أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ))
هناك من هو بحاجة إلى اللقاء إليك؛ من أجل أن يشكو إليك مظلمةً معينة، من جهة من أنت مسؤولٌ عنهم، في نطاق مسؤوليتك أنت، وخدمتك له هي في إنقاذه، في انصافه مما لحق به من الظلم، ((أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ))، كذلك قد يكون هناك عراقيل في معاملة، أو عدم إنجاز، أو استغلال… أو غير ذلك.
فترك اللقاءات تحرجاً من ذوي الطلبات، يؤثر على مساحة واسعة هي الأكثر، وهي: الشكاوى، المعاملات المتعثرة، المظالم… غير ذلك، فاللقاءات مهمةٌ جدًّا، والمسؤولون المنقطعون عن الناس يسببون الخلل الكبير في مسؤولياتهم، في نطاق مسؤولياتهم على المجتمع، والمجتمع عادةً يضج ويتألم من ذلك.
فالتواصل مع المجتمع يجب أن يكون نشطاً، سواءً اللقاءات المباشرة، الاتصالات.. مختلف أنشطة العمل، التي تساعد على التواصل مع المجتمع، على وصول شكاوى الناس، على النظر فيها، على الاهتمام بأمورهم، الانقطاع عنهم، عن واقعهم، عن مظالمهم، عن شكاواهم، يسبب احتقاناً كبيراً جدًّا، وتكاثراً للمشاكل، ويصنع بيئةً سلبيةً محتقنة، يمكن أن يستغلها الأعداء، ويمكن أن تتكاثر فيها الفتن، وأن تتفاقم فيها المشاكل حتى تصعب، ويصعب حلها.
((ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ وَقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ))
عادةً ما يكون للوالي من لهم به علاقة خاصة، وارتباط خاص، وقد يستغلون هذه العلاقة الخاصة بالوالي، للاستناد إليها في ظلم الناس الآخرين، أو في تحقيق مكاسب شخصية، بممارساتٍ ظالمة، أو بمصادرة حقوق، وهم يتكئون ويستندون إلى تلك العلاقة الخاصة بالوالي، الذي يوفر لهم الحماية، وهم يتسلطون على الناس.
((فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ، بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ))
لا تفتح مجالاً لذلك، لا تفتح مجالاً لأحد ممن له بك علاقة خاصة، أو ارتباط خاص، أو صلة قرابة، أن يستند إليك، إلى مسؤوليتك، إلى حمايتك، إلى موقعك في السلطة، ثم ينطلق من خلال ذلك ليصادر حقاً، أو يظلم أحداً، أو يأخذ على أحدٍ شيئاً بغير وجه حق، أو يتحرك في ممارسات استغلالية ظالمة، لا تفتح مجالاً لذلك.
((وَلَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِيعَةً))
الحامة: القرابة، لا من المحيطين بك، ممن هم حولك من أصحابك ومن أعوانك، ولا من قرابتك، ولا من أصدقائك.
((وَلَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِيعَةً))، تعطيه مثلاً قطعة أرض، تعطيه في منطقة معينة مثلاً مساحة معينة؛ لأنه من أقربائك، أو من أصدقائك، أو له علاقة خاصة بك.
((وَلَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ، تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ، أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ، يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ، وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ))
أيضاً عندما تعطيهم ما هو حقٌ، إمَّا حقٌ مشتركٌ للناس، فتدخلهم فيه، وبشكلٍ يفرضون لهم فيه أكثر من الآخرين، أو يصادرون فيه حق الآخرين، أو يكون على حساب حقوق الآخرين، مما هو عادةً مشترك، مثل: شرب، مثلاً: منطقة فيها أراضٍ زراعية، وهناك مثلاً شرب إليها، سواءً هذا الشرب نهر، أو بئر… أو أي شيء مشترك بين الناس، أو كذلك يعني ما يأتي من خلال أمطار في مساحة معينة، في مصاب للماء من أودية، أو من جبال… أو نحوها، فتصادر حقوق الآخرين لمصلحتهم هم، أو تحوِّل شيئاً من حقوق الآخرين لمصلحتهم هم، أو تمكِّنهم من الاستئثار على الآخرين في شيءٍ من حقوقهم لمصلحتهم هم، فتمكَّنوا هم من إلحاق الظلم بالآخرين، نتيجةً للاستناد إلى حمايتك، وتمكينك أنت لهم من موقعك في السلطة، أو فرضت لهم في شيءٍ مشترك، سواءً الأرض، أو في تجارة… أو في غيرها، فرضت لهم بشكلٍ إجباري ما استأثروا به على الآخرين، أو فرضوا أنفسهم فيه على الآخرين بما ليس لهم فيه حق، ولم يكن برضا من أولئك الآخرين، ((فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ)): أنت لك من ذلك الوزر فقط، ((وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).
((وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ))
((أَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ))، سواءً كان قريباً لك، أو بعيداً عنك، لا تتعامل مع الناس بتمييز، فإن كان الحق لقريبٍ لك، أو لصديقٍ لك، أو لأحدٍ له بك ارتباط معين، ارتباط شخصي بأي شكلٍ من الأشكال، ثم إذا كان الحق عليه فأنت تتجاهل ذلك، ولا تنصف منه.
((أَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً))
حتى لو عوتبت، لو غضب القريب عليك، لو فقدت صداقة الأصدقاء، وخسرت ود الأقرباء، لو نتج عن ذلك ما نتج.
((وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ))
بل احرص على أن ترسِّخ هذه المفاهيم لدى اقربائك وأصدقائك، أن يعرفوا موقفك في ذلك، وأن يحرصوا هم أن يكونوا هم من يبذلون الحق، من يُنصِفون.
((وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ))
قد يثقل على الإنسان، قد يسبب للإنسان هذا الحرج مع كثيرٍ من أصدقائه وأقربائه، ومن لهم علاقةٌ خاصةٌ به، وقد يبادرونه بالجفاء، والإساءة إليه، والقطيعة له، فليصبر، ولينظر في عاقبة ذلك، فعاقبته محمودة عند الله «سبحانه وتعالى» في الدنيا والآخرة، ولـــذلك قال:
((فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ))
العواقب لهذا الإنصاف، لهذا الالتزام بإعطاء الحق، لهذا الأداء للمسؤولية على الوجه الصحيح، بما الإنسان مؤتمنٌ عليه، ومسؤولٌ عنه أمام الله، لهذا العواقب والأثر الطيِّب، والنتائج الطيِّبة.
((وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً، فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ، وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ فيهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ))
قد تظن الرعية بك ((حَيْفاً))، يعني: جوراً تجاه مثلاً إجراءات معينة، أو سياسات معينة، أو قرارات معينة، أو تصرفات معينة، وخاصةً مع التشويش، عندما يكون هناك من يشوش، تتخذ أنت مثلاً قراراً ضرورياً، هو حق، وهو لمصلحة الأمة، هو ضرورة، فيه مصلحة للناس، ولكن ليس للناس خلفية عن أسباب هذا القرار، أو عن أسباب هذا الإجراء، أو عن حقيقة هذا العمل، ويأتي من يشوش على ذلك، من يفتري عليك، من يقدِّم الدعايات الكاذبة، من يحوِّل حسناتك إلى سيئات، وإيجابياتك إلى سلبيات، ومواقفك الصحيحة، وأعمالك المهمة المفيدة، إلى أعمال خاطئة بنظر الناس، وهذا يحدث كثيراً، فعليك أن تبيِّن للناس، أن توضِّح لهم، أن توضِّح لهم السبب في ذلك القرار، أو في ذلك الإجراء، وأن توضِّح لهم التوضيح الكافي عن خلفيات ذلك، وما يتعلق به؛ حتى تتضح القضية لهم، لا تترك الأمر ملتبساً عليهم، لا تترك المجال للمشوشين، والمغرضين، والحاقدين، والأعداء، الذين يقدِّمون صورةً مغلوطةً عن خلفية ذلك القرار، أو العمل، أو الأجراء، أو الموقف، وهو حق، وهو في مصلحة الناس، أو هو ضرورة حتمية لمواجهة خطر معين، أو إشكالية معينة… أو أياً كان، وهذا يشمل مختلف الإجراءات؛ لأن الناس عادةً قد تختفي عنهم الحقيقة إذا لم يحصل هذا التبيين، فلا يسمعون إلَّا صوتاً واحداً، هو الصوت الذي يتجه نحو التشويش على المسألة، على الإجراء، أو على القرار، أو على العمل، أو على الموقف، قد يكون الموقف عادلاً، قد يكون حقاً، قد يكون لمصلحة الأمة، قد يكون ضرورياً، ولكن لا يعرف الناس بذلك؛ نتيجةً لعدم التبيين لهم، فلا تتركهم يظنون بك الظنون السيئة لسكوتك وصمتك، وعدم تبيينك وتوضيحك، وتقصيرك في تقديم الحقيقة لهم، هذا مهمٌ لك حتى أنت، تروِّض نفسك على الحق؛ لأنك تدرك أنَّ لقراراتك، لإجراءاتك ردة فعل لابدَّ أن تكون في الموقف الصحيح، الذي عندما تبيِّنه للناس يقتنعون، ويطمئنون، ويكون لك في ذلك الحجة، والبرهان الواضح، والتبرير المقنع، وفيه رفق بالرعية، فيه إعذار أيضاً وإقامة للحجة، و((تَبْلُغُ فيِه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ))؛ لكي يبقى موقفهم في نفس الاتجاه الصحيح.
((وَلَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا))
في الصراع مع الأعداء، عادةً ما يطول الصراع، ويحتاج الناس إمَّا إلى هدنة، أو إلى كذلك إنهاء للمشكلة مع عدوٍ معين بحسب مستوى الصراعات، وأسبابها، وطبيعة الخصوم والأعداء، فعندما يكون هناك دعوة من العدو إلى صلح، وصلح منصف، صلح كما قال الإمام عليٌ «عليه السلام»: ((لِلَّهِ فِيهِ رِضًا))، يعني: لم يتضمن شروطاً، أو فرضيات مجحفة، تمثل إشكالية على الأمة فيما بينها وبين الله، لا يتمكن مثلاً مصادرةً لحقوق الأمة، أو لحق شعب، أو فرضاً لباطل، أو فرضاً لظلم، أو فرضاً لنتائج سيئة، أو مصلحةً للأعداء على حساب كرامة الأمة، ودينها، ومبادئها، وقيمها.
((وَلَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا))، فهذا هو المعيار: ((لِلَّهِ فِيهِ رِضًا))، يعني: لا يتضمن ما ينتقص من الحق، أو يمكِّن أعداء الله، أو يكون فيه ما ينتقص من مبادئ الناس، ما يمكِّن للأعداء منهم، من الانتقاص لسيادتهم، لكرامتهم، لحقوقهم، ليؤثِّروا على مبادئهم، وقيمهم، وأخلاقهم.
((فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ))
يعني: راحةً لهم، يعطيهم هذه الفرصة ليستريحوا البعض من الوقت، وليعدوا الإعداد اللازم.
((وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ))؛ لأن الإنسان في أثناء الحرب عادةً ما يكون مشغولاً بهمِّ الحرب، وهو همٌّ كبير.
((وَأَمْناً لِبِلَادِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ))
فأول ما تأخذه بعين الاعتبار في الصلح: ألَّا تقبل بصلحٍ مسخط لله «سبحانه وتعالى»، فيه قبولٌ بالباطل، فيه مصادرةٌ للحق، فيه تنازلات عن مبادئ الأمة، عن كرامتها، تمكِّن أعداءها منها، تسبب لها الظلم، تفتح أبواب الفساد.
ثم أن تأخذ بعين الاعتبار في فترة الصلح أن تكون في منتهى الحذر، أن تكون في حالة حذرٍ تام، جهوزية مستمرة، يقظة دائمة، استعداد لكل ما هو متوقع، واستعداد لأي مرحلة يغدر فيها العدو، أو يتجه العدو فيها إلى الاعتداء من جديد.
((وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ)): لا تغفل أبداً، كن في منتهى الحذر، منتهى الاهتمام، منتهى الجهوزية والاستعداد.
((وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ))
ربما حرص العدو على أن يدخل في صلحٍ معك؛ من أجل أن تطمئن، وأن تغفل، وأن تهمل، فيستغل حالة الغفلة عندك، وحالة الإهمال، وفقدانك للجهوزية والاستعداد؛ فيضربك الضربة القاضية.
((فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ))
((خُذْ بِالْحَزْمِ)): فلتسع إلى أن تكن في حالة اهتمام مستمر، انتباه مستمر، جهوزية مستمرة، سعي لرفع مستوى الاستعداد والتجهيز والبناء، بحيث إذا غدر العدو في أي لحظة، تُوَجِّه إليه أنت الضربات القوية، وتخيِّب آماله فيما كان يؤمِّله من غفلتك، من عدم استعدادك، وهذه مسألة مهمة حتى للأمة نفسها، ألَّا تغفل، ألَّا تتوانى في كل ما يلزم من الاستعداد والجهوزية.
((وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ)): لا تحسن ظنك بعدوك، أو تركن مثلاً إلى متغيرات سياسية، قد تقول: [هذه الظروف لا تسمح للعدو بأن يهجم عليّ]، توقَّع هجومه في كل حال، وفي كل ظرف؛ وبالتالي اعتمد على الله «سبحانه وتعالى»، وعلى الاستعداد، والتجهيز، واليقظة المستمرة، واغتنام الفرصة من جانبك في الجهوزية اللازمة، في السعي لأن تكون أقوى مما مضى، في أن تبني واقعك على مستوى أفضل، حتى على المستوى العسكري، والجهوزية، والقوة، والقدرة العسكرية.
((وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوٍ لك عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ))
قد تكون التفاهمات مثلاً في صلح معين مع الأعداء:
إمَّا تفاهمات شفوية واضحة، محددة، معلنة.
أو قد تكون بشكل عقد، اتفاق، ميثاق معين، أو معاهدة معينة، أو وثيقة معينة.
فما تضمنته تلك الوثيقة من التزامات، أنت من جانبك احرص على أن تكون وفياً وصادقاً؛ لأن المبادئ والقيم من أهم ما فيها: الصدق والوفاء حتى فيما بينك وبين عدوك، ما بينك وبين عدوك، لا تكن أنت من يغدر بالعدو، إذا غدر العدو؛ فكن جاهزاً، وهو سيتحمل مسؤولية وتبعات غدره، وحينها لم يعد عليك مسؤولية في أن تتخذ إجراءاتك، وأن تعمل بحزم، وأن تتصدى له بكل قدرتك، وبكل ما تستطيع، لم يعد عليك لومٌ ولا مذمةً، لكن لا تغدر أنت،
((حُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ)): حتى لو استدعى الحال أن تضحي، لا تكن أنت من يغدر أبداً، كن جاهزاً، كن حذراً، كن مستعداً، إذا غدر العدو هو؛ فوجِّه إليها الضربات، وحينها لم يعد عليك مسؤولية، إذا كان هو من قد بادر بالغدر.
((فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ شَيءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ، مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ))
يعني: المجتمع البشري بشكلٍ عام يعظِّم الوفاء بالعهود، والالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات ما بين الأعداء، معاهدات الصلح، ومعاهدات الهدنة، فالغدر مذمومٌ عند المجتمع البشري قاطبة، الكل يعرف أنَّ الغدر مذمة، ونقص، وخيانة، وسوء، ونكرانٌ لمكارم الأخلاق، وانسلاخ عن القيم، أمر مذموم حتى عند المشركين، ما بالك في من ينتمي للإسلام، ما بالك في من يقف موقف الحق، يقف موقف الحق، يجب أن يحمل أيضاً مع موقف الحق القيم هذه: قيم الوفاء والصدق.
((وَقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ))
يعنـي: حتى المشركون في ما بينهم، حتى غير المسلمين، الآخرون من الأمم الأخرى، يدركون سوء عواقب الغدر، أنَّ الغدر مذمة، ونقص، وخيانة، وسوء، وفي نفس الوقت له عواقب، له عواقب وخيمة، ونتائج سيئة على الذي يستمر على الغدر، ويعتمد على الغدر.
((فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ، وَلَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ))
كن وفياً في تلك الالتزامات التي التزمت بها، احرص على أن تكون أولاً التزامات منطقية، وصحيحة، سليمة، فلا تلتزم بشيءٍ فيه ما يسخط الله، فيه ما يضر بمجتمعك، فيه ما يصادر حقوق مجتمعك، احرص من البداية على أن تكون البنود بنوداً صحيحة، ثم كن وفياً، لا تكن أنت من يغدر، ولا من ينقض تلك الالتزامات، ولا من يتنصل عنها، أوفِ بذلك.
((فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ))
لأن الالتزام بالعهود والمواثيق والمعاهدات يصبح التزاماً بين الإنسان وبين الله، التزاماً دينياً، أخلاقياً، إنسانياً، قيمياً.
((وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ، وَيَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ))
فالله «سبحانه وتعالى» جعل مسألة العهد والميثاق، التي قد تكون هي الصيغة التي يعتمد عليها الأعداء والمتخاصمون لصلحٍ معين فيما بينهم، أو هدنة معينة فيما بينهم، لتكون عاملاً يساعد الناس على الهدوء، على الاستقرار، على حقن الدماء، فإذا لم يبق بين الناس وفاء فيما يتفقون عليه، أو يلتزمون به، وأصبحت حالة الخوف والقلق هي الحالة الدائمة، وحالة الغدر هي الحالة السائدة، فلهذا تأثيره السيئ على حياة الناس وواقعهم.
((فَلَا إِدْغَالَ، وَلَا مُدَالَسَةَ، وَلَا خِدَاعَ فِيهِ))
لا تعتمد الخداع، ولا محاولة الالتفافات لنقض ما اتفقت عليه، أو التزمت به، أوفِ على كل حال، احرص من البداية أن يكون ما تلتزم به، ما توافق عليه شيئاً صحيحاً سليماً، ثم إذا غدر العدو، أو نقض العدو، أو وصلت أنت والعدو إلى نتيجة معينة في الخروج مما التزمتما به، فهذا خروجٌ أيضاً مشرِّف، بطريقة لا تنكّر فيها للأخلاق والقيم.
((وَلَا تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ، وَلَا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ))
في البداية احرص على أن يكون أي صيغة اتفاق صيغة واضحة، بيِّنة، وتتضمن بنوداً واضحة، فتكون التزاماتك بناءً على ذلك: على شيء واضح، وصريح، وبيِّن، وصحيح، ولا تعوِّل على مسألة الاحتمالات في بعض العبارات؛ لأنها ستكون مدخلاً لك للنقض، ليكن ما تستند إليه شيئاً واضحاً، أو شيئاً مؤكَّداً.
((وَلَا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ))
قد تضيق من بعض الالتزامات، التي وافقت عليها في وثيقة الصلح، ثم تكتشف بعد ذلك أنَّ لها تأثيرات سيئة على الواقع، فلا تتجه إلى طلب فسخها بغير الحق، إذا كان هناك حق في فسخها؛ لأن فيها مثلاً مضرة مؤكدة على الناس، أو خطر حقيقي على الناس، أو إشكالية معينة، فيكون موقفك مستنداً إلى الحق في ذلك، أمَّا مجرد الضيق؛ فاصبر، فقد تنفرج الأمور لصالحك بأكثر بكثير.
((فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ، وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ فِيهِ طِلْبَةٌ، لَا تَسْتَقْيلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلَا آخِرَتَكَ))
لأن الغدر يمثِّل خطورةً عليك ما بينك وبين الله، ستُسخِط الله عليك بغدرك، وتلحقك بذلك تعبات وعقوبات خطيرة في الدنيا والآخرة، فالوفاء هو لصالحك، أمَّا إذا غدر العدو؛ لم يعد عليك أي مسؤولية بعد أن يكون هو من يبتدئك بالغدر.
((إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا))
سفك الدماء (بِغَيْرِ حِلِّهَا): بغير حق، ظلماً وعدواناً من أكبر الظلم، من أعظم الجرائم، من أكبر ما يسخط الله، من أعظم ما يسبب سرعة زوال النعم، ونزول النقم؛ لأن من أكبر الجرائم هو جريمة القتل ظلماً وعدواناً.
((فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ، وَلَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ، وَلَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ، وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا))
ولذلك هي من أكبر المحاذير التي يجب الحذر منها، والانتباه منها، سواءً لدى الجانب العسكري، أو لدى الجانب الأمني، أو لدى صاحب القرار في موقع المسؤولية… الكل يكونون حذرين جدًّا من التورط في ذلك: من التورط في سفك الدماء ظلماً وعدواناً؛ لأنها جريمة خطيرة جدًّا، هي من أهم الأسباب التي تسرِّع بالنقم، ومن أكبر أسباب زوال النعم، من أكبر ما يسبب لزوال دول بأكملها، أو سقوط أنظمة بأكملها، قضية خطيرة جدًّا.
((وَلَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ، وَلَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ، وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
أول ما يفصل الله به يوم القيامة، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين: الآية6]، عندما يقومون للحساب والجزاء، أول ما يفصل الله بينهم على الدماء، ما حصل بينهم من سفكٍ للدماء، قضية خطيرة عندما يكون الإنسان متورطاً في القتل بغير الحق؛ لأنه استند إلى قوته العسكرية، أو إلى سلطته، أو إلى منصبه، قضية خطيرة، وقضية خطيرة في كل الأحوال، القتل ظلماً وعدواناً قضية خطيرة جدًّا.
((فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزِيلُهُ وَيَنْقُلُهُ))
وهذا ما وقع فيه الطغاة، والجبابرة، والظالمون، ونالوا عواقبه السيئة، ووصلوا إلى عواقبه الوخيمة، يتصورون أنَّ تقوية سلطتهم، وتثبيت أركان دولتهم هو بالقتل، القتل ظلماً وعدواناً، القتل أحياناً على الشك والتهمة، على أتفه الأسباب، فكانت النتائج خطيرة عليهم، فالقتل ظلماً وعدواناً، وسفك الدماء بغير حلها، هو من أسباب سقوط الأنظمة، من أسباب زوال الملك والأمر، ((بَلْ يُزِيلُهُ وَيَنْقُلُهُ)).
((وَلَا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ))
يعني: في قتل العمد ظلماً وعدواناً لا عذر لك، وهذا ما ينبغي أن يكون واضحاً مثلاً في كل مواقع المسؤولية: للأمني، وللعسكري، وللمسؤول… لكل مسؤول، لا عذر له في قتل العمد عدواناً وظلماً.
((لِأَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ))
فيه القصاص.
((وَإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ، وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ، أَوْ يَدُكَ، بِعُقُوبَةِ، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلَا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ))
أمَّا فيما كان نتيجةً لخطأ، أو كان مثلاً في إطار عقوبة لمستحق العقوبة، ولكن الخطأ فيه كان في زيادة غير متعمدة، زيادة غير متعمدة، أو تضرر مثلاً الذي يستحق العقوبة تضرر منها بأكثر؛ نتيجةً لما كان خفياً من ظروف صحية، أو غير ذلك في واقعه، فالخطأ فيه الدية، وفيما غير الدية، مثلاً: إذا لم تصل الحالة إلى حالة الوفاة، فالخطأ فيه أيضاً الأرش، فيه الإنصاف لهذا المتضرر بقدر ما يستحق، وبقدر مستوى الضرر الذي كان زائداً على الحق.
((فَلَا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ))
لا تتكبر بسلطتك وموقعك، فتبخل وتمتنع من إعطائهم حقهم، أعطهم الدية، وأعط ذلك الذي تضرر تضرراً زائداً على العقوبة الحق ما فيه إنصافه، كن منصفاً في ذلك.
((وَإِيَّاكَ وَالْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الْإِطْرَاءِ))
مشكلة الإعجاب بالنفس وحب الإطراء هي من أكبر المشاكل الخطرة جدًّا على المسؤولين والولاة، هم أكثر الناس عرضةً لها، من أكثر الناس عرضةً لها، وكلما كان منصب الإنسان أكبر، وموقعه ومسؤوليته أكبر، كلما كان معرضاً لها أكثر، العجب بالنفس.
والثقة، البعض أيضاً يكون واثقاً، يتصور أن المسألة فعلاً كذلك.
((وَحُبَّ الْإِطْرَاءِ))، وهذه حالة خطيرة، سبق الحديث في بداية العهد عن خطورة هذه المسألة، وما لها من تأثيرات سيئة على المستوى النفسي والتربوي، وعلى علاقتك ما بينك وبين الله؛ لأنك تنسى نعمة الله عليك، وتعتبر نفسك أنت مصدر النعمة، مصدر الإنجاز، مصدر النجاح، وتنسى فضل الله عليك ونعمته عليك.
أيضاً على المستوى النفسي والتربوي، الإنسان المعجب بنفسه هو إنسان غير واقعي، يعني: هو ينظر إلى نفسه نظرة غير واقعية، بأكبر من حجمها، يرى لنفسه من القدر أكثر من قدره الحقيقي، له تصور خاطئ تجاه نفسه، يعظِّم نفسه، ويغفل عن جوانب القصور والنقص لديه، عن جوانب النقص لديه يغفل عن ذلك.
أضف إلى ذلك أن لهذا تأثير سيئ على مدى تفهم الإنسان لما يأتيه من نصائح، أو ملاحظات، أو ما ينبه عليه من أخطاء، لا يتقبل ذلك، هو مغرور بنفسه، معجب بنفسه، فلهذا تأثيرات سيئة جدًّا، علاقة الإنسان بالآخرين، يحتقرهم، يشعر بالتعالي.
فهذا الداء له سلبيات كثيرة، أضرار متفرعة عنه، وخطورته كبيرة على الإنسان، وهو مما يجعل الإنسان يصر على الخطأ، يصر على الظلم، لا يستفيد من الآخرين، لا يعتبر بأي شيء، يتمحور حول ذاته، وينطلق من هذا المنطلق في تقييمه للأمور، في اتخاذه للقرارات، وتصبح مسافة الحق والباطل، والقرب والبعد، وعلاقته بالناس، كل شيء يصبح مرتبطاً بذلك وعلى أساس ذلك، ومقياسه للأمور من خلال ذلك، قضية خطيرة للغاية.
((وَحُبَّ الْإِطْرَاءِ)): حب المديح، إذا أصبح الإنسان يحب المديح، يرتاح، هو يرغب من الناس بأن يمدحوه، وينتظر منهم أن يمدحوه، فإذا مُدِح ارتاح كثيراً، وكلما بالغوا في مدحه، كلما زاد ارتياحاً، وهذا عادةً من أكثر ما يحصل للناس في موقع السلطة والمسؤولية.
((فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ))
ثغرة خطيرة جدًّا للشيطان، إذا أصبحت هكذا، فتحت للشيطان ثغرةً كبيرة، وأعطيته فرصةً كبيرة، يوجه لك ضربة قاضية.
((لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ))
هذا يؤثر عليك؛ لأنك حتى ما تقدمه مما يعود إلى مسؤوليتك وواجبك، تقدمه بتعالٍ وتكبر، وتشعر في مقابل ما تقدم من أي مجهود عملي بتعاظم للنفس، ولهذا تغفل عن شكر الله «سبحانه وتعالى»، وتغفل عن أنك تؤدي الحق الذي عليك.
((فَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ))
لا تتمنن عليهم بإحسانك؛ لأنه واجبك، هي مسؤوليتك، وما تقدمه أنت تقدمه مما هو لهم، فلا داعي لأن تمن عليهم، [أنا الذي أعطيتكم، وأنا الذي فعلت لكم، وأنا، وأنا…]، وهكذا تتمنن عليهم.
((أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ))
أو أن تبالغ وتزيد في كلامك عمَّا تقدم، فتنسب إلى نفسك أشياء لم تفعلها أصلاً.
((أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ))
تعدهم بمواعيد معينة، ثم تتبعها بالخلف، لا تفي بذلك، احذر، هذه خطيرة جدًّا؛ لأنه يمكنك ألَّا تعد بالأشياء التي لا تستطيع فعلها، أو إذا كانت أشياء في حدود الأمل، تؤمل، فليكن كلامك واضحاً وصريحاً، [إذا تحقق كذا، أو تيسر كذا، أو تمكنا من كذا، أو حصل كذا، فإن شاء الله سنفعل كذا]، المواعيد التي لا يصدق فيها المسؤول، تسبب انعدام الثقة بينه وبين الناس، حتى لا يثقون به، بل يكرهونه ويمقتونه، وهذا أيضاً مكروهٌ عند الله «سبحانه وتعالى».
((أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ))
إذا كنت تتمنن عليهم بإحسانك، تبطل إحسانك في أجره وقيمته، وحتى أثره لدى الناس، يستاؤون منك.
((وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ))
عندما تزيد في كلامك، فتنسب إلى نفسك أنك فعلت، وقدمت…إلخ. ما لم تفعل، هذا يذهب بنور الحق، يذهب بنور الحق من نفسك، يظلم قلبك، وفي نفس الوقت يبطل قيمة ما تفعله، إيجابية ما تفعله، بسبب التَّزَيُّد.
((وَالْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ))
عند الله أولاً.
((وَالنَّاسِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ}، وَإِيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا))
في سياساتك، في تدبيرك، في خططك، في إجراءاتك، في مختلف أعمالك كوالٍ ومسؤول، تصرف فيها بكلها بالحكمة، بالحكمة.
((وَإِيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا)): لا تستعجل في الأمور قبل أن يحين وقتها، وأن تتوفر أسبابها، لا تستعجل.
((أَوِ التَّسَاقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا))
أو كذلك إذا حصلت وأمكنت، فتعامل فيها بشكلٍ متوازن، وليس بشكل فيه جشع، وإفراط في التعامل معها بشكلٍ مشوه.
((أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ))
اللَّجَاجَةَ: تحاول أن تصر وتلح فيما ليس متاحاً، فيما ليس ممكناً، فيما ليست ظروفه مهيأة، ولا الأوان أوانه، ولا الظروف مهيأةٌ له، فلا تحاول أن تكون لجوجاً في ذلك، مصراً، ملحاً في شيءٍ غير متاح، غير مهيأ أصلاً.
((أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ))
فتكون فاتراً، وضعيفاً، ومتأخراً، وغير مهتم في الأمور الواضحة، الأمور الواضحة اعمل على إنجازها، تحرك فيها.
((فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وَأَوْقِعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ))
هذه هي الحكمة، تصرف في الأمور بما يناسب، في حجمها، في أهميتها، في تأثيرها، وفي وقتها.
((وَإِيَّاكَ وَالِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ))
فيما هو حقٌ عام، لا تستأثر به لك على نحوٍ شخصي.
((وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ))
لا تتغافل عمَّا أنت معنيٌ به، ومسؤولٌ عنه، وقد وضح للناس، اعمل على إصلاحه إن كان خللاً، أو القيام به إن كان مسؤوليةً.
((فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ))
لا تستهتر بالأمور بالاستناد إلى مسؤوليتك، وإلى موقعك، وبالاستناد إلى موقعك وسلطتك وقدرتك، فتهمل ما أنت مسؤولٌ عنه، ومعنيٌ به، فالأمور قد تتغير، ما أنت فيه من القدرة والسلطة يمكن أن يتغير بالكامل.
((فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ، وَعَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ، وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ))
ولـــذلك احــرص على أن تؤدي أمانتك ومسؤوليتك بقدر ما تستطيع، وألَّا تكون مستهتراً، ولا مهملاً، ولا غافلاً، أو مستهتراً بالاستناد إلى ما أنت فيه من القدرة والسلطة، كل ذلك يتغير.
((امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ، وَسَوْرَةَ حَدِّكَ، وَسَطْوَةَ يَدِكَ، وَغَرْبَ لِسَانِكَ))
سيطر على نفسك حال الغضب، وأثناء الانفعال.
من أخطر الأمور على الوالي وعلى المسؤول في موقع المسؤولية: أن تكون قراراته، أو مواقفه، أو إجراءاته، ناتجةً عن سخطه، عن غضبه، عن انفعاله، إرضاءً لحالة الانفعال لديه، كل هذا مبعث للظلم، أساس للجبروت، للطغيان، وأكثر ما يحصل من الظلم هو عادةً ما يكون من هذا القبيل، قرارات في حالة غضبٍ وانفعال، أو إجراءات في حالة غضبٍ، أو كذلك تصرفات، أو مواقف معينة، ناتجةً عن الغضب والانفعال، لإرضاء حالة الانفعال والغضب، كثيرٌ من الظلم، كثيرٌ من القرارات الكارثية، كثيرٌ من الممارسات الظالمة تعود إلى ذلك؛ لأنه اتخذ ذلك القرار وهو في حالة غضب وانفعال، أو تصرف ذلك التصرف وهو في حالة انفعال، ليرضي انفعال نفسه، هذا شيء يتنافى مع المسؤولية، ويتنافى مع الحكمة، يتباين مع الإيمان.
ولـــذلك يقول: سيطر على نفسك في حال الغضب والانفعال، في لسانك، في يدك، في تصرفك، في موقفك، بأي مستوى، سيطر على نفسك في تلك الحالة وأنت في موقع المسؤولية.
((وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ))
ما يبدر من لسانك من كلام سيء، أو تعليمات خاطئة… أو غير ذلك.
((وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ))
تأخير الإجراء القاسي، الذي قد توجه به، أو تأمر به.
((حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ، فَتَمْلِكَ الِاخْتِيَارَ))
حتى تهدأ، ويسكن الغضب، ويزول الانفعال، فتملك الاختيار في اتخاذ القرار الصحيح، الذي ليس مبنياً على الانفعال والغضب؛ وإنما مبنياً على ما تقتضيه الحكمة، والحق، والعدل.
((وَلَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ))
لن تصل إلى هذا المستوى من السيطرة على النفس عند الانفعال والغضب الشديد، فتتوقف عن اتخاذ أي قرار خاطئ، أو إجراء سيء، أو ممارسة ظالمة، أو تصرف طائش، لن تصل إلى هذه الدرجة من السيطرة على النفس، إلا إذا كنت ((تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ))، تتذكر رجوعك إلى الله، تتذكر أنك ستقف موقف الحساب بين يدي الله «سبحانه وتعالى»، وأنك ستجازى، ستحاسب وتجازى، هذا يمثل ردعاً للنفس، وعاملاً مساعداً في السيطرة على النفس عند الغضب، وهذه مسألة من أهم المسائل، القرارات الكارثية، التصرفات الخاطئة، الممارسات الظالمة، الكثير من الجرائم، الكثير من التصرفات الطائشة والحمقاء، تحصل في حالة الغضب والانفعال، فالذي هو في موقع مسؤولية عليه أن يدرك هذه الحقيقة جيداً، وأنها من أهم الالتزامات التي عليه أن يتحلى بها، من أهم الالتزامات أن يسيطر على نفسه عند الغضب والانفعال، فلا يتسرع بأي إجراءٍ في تلك الحالة، إجراءٍ ظالم، إجراءٍ خاطئ، ينتظر حتى يسكن غضبه، ويملك الاختيار، ويتخذ إجراءه، أو قراره، بتجردٍ عن حالة الغضب والانفعال، وبالاعتماد على معيار الحق والعدل والحكمة.
((وَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ، أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا «صلوات الله عليه وعلى آله»، أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا))
الواجب عليك ألَّا تعتمد كلياً على نفسك أنت، في حدود ما تعرفه، أو في حدود قناعاتك الشخصية، الإنسان هو ناقص، قاصر، جاهل، يجهل الكثير، الواجب عليك هو الاقتداء والاهتداء، لتكن ممن يتجه إلى الاهتداء بكتاب الله، الاقتداء برسول الله «صلوات الله عليه وعلى آله»، الاقتداء بما ((مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ))، الاقتداء بأمير المؤمنين «عليه السلام»، ((فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا))، لترى فعلاً التطبيق الصحيح للمنهجية الإلهية في أداء المسؤولية، وإدارة شؤون المجتمع، فمسألة الاقتداء والاهتداء هي مسألة أساسية في أن تتحرك على الوجه الصحيح، وأن تؤدي مسؤوليتك بشكلٍ صحيح؛ أمَّا إذا كنت تريد أن تقتصر في الاعتماد على نفسك، وقناعاتك، وحدود فهمك، ففهمك محدود، معارفك محدودة، تصوراتك ناقصة، وذلك لا يكفيك.
((وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عَهْدِي هَذَا، وَاسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ؛ لِكَيْلَا تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا))
يقول له: وأن تلتزم باهتمام واجتهاد وجد بما ورد في هذا العهد؛ لأنه حجةٌ عليك، يقول: هو حجةٌ لي عليك؛ لأني مسؤولٌ عنك، وأنت في موقع المسؤولية تنفذها، وقد أقمت الحجة عليك عندما وضحت لك وقدمت لك كل هذه التعليمات.
وفعلاً هذه الحجة هي على كل من هم في موقع المسؤولية؛ لأنها من نور الله، من هدي الله، هي تعاليم الإسلام، قدمها أمير المؤمنين «عليه السلام»، حجة بالغة.
((وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ))
ختم هذا العهد المبارك بهذا الدعاء العظيم.
((وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ))
يعني: على إعطاء كل ما يُرغب فيه من الخير.
((أَنْ يُوَفِّقَنِي وَإِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ))
رضا الله هو غاية الغايات، هو الهدف الأسمى والأعظم لكل مؤمن يسعى له، رضا الله.
((مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَإِلَى خَلْقِهِ))
يعنـــي: في بذل ما نستطيع من الجهد في أداء المسؤولية، وفي التزام العدل.
((مَعَ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ، وَجَمِيلِ الْأَثَرِ فِي الْبِلَادِ، وَتَمَامِ النِّعْمَةِ، وَتَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ))
مضاعفة الكرامة، يعني: زيادتها أضعافاً.
((وَأَنْ يَخْتِمَ لِي وَلَكَ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ، إِنَّا إِلى الله راغِبُونَ))
وهذا ما خُتِمَ لهما، ما خُتِمَ به لأمير المؤمنين «عليه السلام» بالسعادة والشهادة، وما خُتِمَ به لمالكٍ الأشتر «رضوان الله عليه» بالسعادة والشهادة.
((إِنَّا إِلَيْهِ راغِبُونَ، وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ»َ))
نسأل الله أن يمُّن علينا أيضاً بالشهادة والسعادة، يختم لنا بالسعادة والشهادة، وأن يمُّن علينا بتوفيقه لما يرضيه عنا.
تضمن هذا العهد المبارك التعاليم العظيمة، والقيمة، والمفيدة، عرضناه عرضاً موجزاً، وقدمنا له قراءةً أولية، ما يستفاد منه هو أكثر بكثير مما قدمناه عنه، نحن قدَّمنا قراءة مبسطة، أولية وموجزة؛ لنلفت النظر إلى الاستفادة منه، ولكي نسعى نحن، ويسعى الآخرون معنا إن شاء الله، ممن هم ضمن توجهنا الإيماني الجهادي، في النظرة إلى المسؤولية نظرةً مقدسة، نظرةً أخلاقية، ودينية، وقيمية، وإنسانية.
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛