تنتشر كاميرات المراقبة في كل الشوارع والأحياء والمحلات والعمارات فهي ترصد أفعال وحركات وتصرفات المشاة ومرتادي المحلات وغيرها ،وهي توثق وتحفظ صور الحوادث والوقائع التي تقع في الشارع وغيره على مدار الساعة ، كما أنها تنقل نقلاً أمينا وصادقا ومحايدا ما يجري في الأماكن والشوارع وغيرها من وقائع وحوادث ومن ذلك حوادث القتل وغيرها من الجرائم، ويحمد للدولة أنها ألزمت الأشخاص والجهات على تركيب هذه الكاميرات في كل مكان لما لذلك من أهمية وضرورة في إثبات الجرائم حتى لا يفلت الجناة من العقاب لعدم توفر الأدلة، إلا أن قانون الإثبات اليمني المتخلف لا يجاري وسائل الإثبات الحديثة بل أن هذا القانون المتخلف قد تراجع في تعديلات 1998م إلى الوراء ونكص على عقبيه، فقانون الإثبات يقصر الاثبات بالقرائن ومن ضمنها الصور التي تلتقطها كاميرات المراقبة، يقصرها على الحقوق والأموال حسبما ورد في المادة 157 إثبات- فلا شك أن منع إثبات جرائم الدماء بالقرائن يهدر الدماء ويشجع القتل ويدعم القتلة ويساعدهم على الإفلات من العقوبة خاصة القتل العمد الموجب للقصاص، حيث تتكرر في الأحكام عبارة (لعدم ثبوت الدليل الشرعي الموجب للقصاص) ولذلك زاد القتل وتجرأ القتلة على إزهاق النفوس البريئة، وقد كشف الحكم محل تعليقنا عورة قانون الإثبات الذي يتسبب في إهدار الدماء التي عصمها الله ،حيث اظهر الحكم محل تعليقنا كيف وقف القضاء حائراً بين الحكم بالقصاص استناداً إلى تصوير كاميرات المراقبة لثلاث جهات مختلفة (وزارة … وبنك … وشركة …) التي تساندت صورها في تصوير وتوثيق عملية قيام الابن (عاق والديه) وزوجته أي زوجة الابن برمي جثة الأب القتيل من سيارتهما أمام منزل الأب بعد أن قتله الأبن العاق عندما كان الأب ذاهبا لأداء صلاة الفجر!!! -حسبما ورد في أسباب الحكم الابتدائي- فالحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 5 /12 /2018م في الطعن رقم (62071).
وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم في أن النيابة العامة قامت بمخاطبة ثلاث جهات(وزارة وبنك وشركة ) التي مقارها جوار مسرح الجريمة، فطلبت النيابة من هذا الجهات موافاتها بصور كاميرات المراقبة المنصوبة في تلك الجهات ليومي … و…، ومن خلال استعراض النيابة والمحكمة الابتدائية لصور كاميرات الجهات الثلاث ظهر للمحكمة أن الكاميرات الثلاث المنصوبة في الجهات المشار اليها أظهرت صورها دخول سيارة المتهمين إلى الشارع الخلفي وقيام المتهمين بإخراج جثة الأب القتيل من السيارة وإلقائها أمام منزل الأب وانطلاق السيارة بعد ذلك بسرعة جنونية، وقد ورد في أسباب الحكم الابتدائي أن أوصاف السيارة التي ظهرت في الصور تنطبق تماماً على سيارة المتهمين الأبن وزوجته، كما ورد في أسباب الحكم الابتدائي أن كميات كبيرة من الدماء قد تم العثور عليها داخل سيارة المتهمين وفي مقابض أبوابها وأن تلك الدماء هي دماء الأب القتيل، حيث قام الابن بتهشيم رأس أبيه بالمطرقة، كما ورد في أسباب الحكم أن الابن كان قد هدد الأب قبل الواقعة لحمل الأب على منحه مبلغاً… كما ورد في أسباب الحكم أن الابن كان قد سرق على الأب قبل الحادث مبلغاً… كما ورد ضمن أسباب الحكم أن هناك شهوداً شاهدوا سيارة المتهمين تدخل مسرعة إلى الشارع الخلفي وتلقي جثة الأب القتيل وغير ذلك من القرائن التي ساقها القاضي الابتدائي في أسباب حكمه، حيث وقف القاضي الابتدائي حائراً بين سندان الحق الذي ظهر له جلياً وبين مطرقة قانون الإثبات الذي غل يد القاضي وقيَّدها، فلم يجد القاضي من وليجة إلا أن يحكم بإدانة الأبن العاق وزوجته بالقتل العمد وإلزامهما بدفع دية العمد المغلظة لسقوط القصاص، وقد وردت ضمن أسباب الحكم العبارة المعتادة (لعدم توفر دليله الشرعي) ولم تكن الشعبة الجزائية أوفر حظا من المحكمة الابتدائية، حيث اضطرت الشعبة إلى تطبيق قانون الإثبات وتأييد الحكم الابتدائي (لعدم توفر الدليل الشرعي لثبوت القصاص) وكذلك الحال لم تجد الدائرة الجزائية مجالاً أمامها إلا أن تحكم بإقرار الاستئناف (لعدم توفر الدليل الشرعي لثبوت القصاص)، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (وبتأمل هذه الدائرة لما أثاره الطاعنون تبين أن الحكم الاستئنافي وقبله الحكم الابتدائي قد استندا في حيثياتهما التي تم استعراضها آنفاً إلى أدلة سائغة قانوناً وكلها تؤكد قيام المحكوم عليهما بما نسب إليهما في قرار الاتهام وقائمة أدلة الإثبات وهو قتل المجني عليه والتخلص من جثته، إلا أن تلك الأدلة لا ترقى إلى الحكم عليهما بالقصاص الشرعي وفقاً لما اشترطته المواد (234) عقوبات و (45 و87) إثبات الأمر الذي يتعين معه إقرار الحكم الاستئنافي ورفض طعن أولياء الدم موضوعاً) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه الآتية :
الوجه الأول .. الوضعية التقنية لكاميرات المراقبة :
كاميرات المراقبة تقوم برصد التحركات والأحداث والوقائع التي تقع ضمن نطاق أو مدى رصدها أو مراقبتها، وميزة كاميرات المراقبة انها لا تخضع لتدخلات المصورين ورغباتهم وتوجيههم، فالكاميرات لا تحتاج إلى أشخاص يديرونها ويتحكمون في مدخلاتها ومخرجاتها، ولذلك فهي أكثر حيادا وأماناً من كاميرات التصوير الفيلمي أو الفوتوغرافي التي قد تتعرض لتدخلات وتوجيهات المصورين والمنتجين والمخرجين والطابعين لها، فكاميرات المراقبة تظهر وتبيّن الأحداث والأفعال التي تتم في المكان ضمن مداها الجغرافي، فتظهر المكان والأحداث التي تتم فيه وساعة وقوعه وتاريخ حدوث الأفعال وطريقة الحدوث، وتبين كافة تفاصيل الحدث الذي وقع بالصورة المتحركة التي تكون اكثر بياناً ووضوحاً واستمرارية ،فهي تظهر الحدث كما لو أن القاضي أو عضو النيابة أو مأمور الضبط كان حاضراً ساعة وقوع الحادث، وتصل نسبة الضبط والصحة فيها إلى 95 %(حجية المستخرجات الصوتية والمرئية، نوف العجارمة،ص82).
* الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء