الحرب الدبلوماسية الأمريكية – الروسية: معركة طرد الدبلوماسيين بين الدول الغربية والاتحاد الروسي على خلفية حرب أوكرانيا

 

الثورة / تحليل / أحمد عبدالكريم علي الحوثي

معركة طرد الدبلوماسيين.. حقبة جديدة في العلاقات الدبلوماسية
لطالما كانت عمليات الطرد الدبلوماسي من الحوادث القليلة التي ميزت حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي، والتي كانت بهدف التصدي بهدوء للأنشطة غير القانونية التي يمارسها عملاء المخابرات تحت غطاء دبلوماسي، دون تسميم العلاقات الثنائية بشكل أكبر، لكن مع تفجر الحرب الروسية الأوكرانية شرق القارة العجوز يبدو أننا اليوم أمام حقبة جديدة من العلاقات الدولية، يُستخدم فيها الغرب العلاقات الدبلوماسية كسلاح فعال لا يقل فتكا عن أسلحة العصر التدميرية.
تزامناَ مع بداية الحملة العسكرية الروسية في شرق أوروبا التي انطلقت في الـ 24 من فبراير، انطلقت حرب مستعرة، ومن نوع آخر، بين الغرب والاتحاد الروسي، اتفق عدد من الدبلوماسيين المخضرمين ككسنجر على تسميتها بالـحرب الدبلوماسية، وكانت البداية بعد قيام العديد من الدول الأوروبية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية بطرد مئات من الدبلوماسيين الروس، وبمعدل غير مسبوق، خاصة بعد تقارير إعلامية أولية ومبالغة عمّا وصفته” جرائم الحرب الروسية في مدينة بوتشا”، ليبلغ العدد الإجمالي للذين طردوا ما يقارب 453 موظفًا بالسفارات الروسية منذ نهاية فبراير، معظمهم من الدول الأوروبية، بما فيها تلك الدول التي التزمت الحياد منذ الحرب العالمية الثانية كسويسرا.
كما أن عمليات الطرد التي شابها إجراءات تنتهك الأعراف الدبلوماسية، ولدت ردود فعل سريعة من قبل الاتحاد الروسي، حيث أعلنت موسكو بالفعل عن عمليات طرد متبادلة حدت بالفعل من قدرة الغرب على فهم الديناميكيات الداخلية في روسيا بشكل أفضل، بحسب مراكز الدراسات الغربية، ليبلغ عدد الدبلوماسيين الذين أعلنت روسيا طردهم أكثر من مائة دبلوماسي، كان آخرها طرد 34 دبلوماسيا فرنسيا في الـ 18 من مايو ردا على إجراء مماثل من باريس، على خلفية طرد فرنسا نحو 30 دبلوماسيا روسيا بداية أبريل، غير أن موجة الطرد هذه كشفت عن بعض الاختلافات المقلقة للغرب بين أعضاء الناتو والاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها موقف المجر وهنغاريا، التي رفضت الانضمام إلى هذا الجبهة الدبلوماسية المستعرة. وفي الواقع، فإن عمليات الطرد بشكل كبير زادت بداية من عام 2016م مع قرار إدارة أوباما طرد 35 من الدبلوماسيين الروسيين وإغلاق مجمعين في ماريلاند ونيويورك، يُزعم أنهما يستخدمان لأغراض متعلقة بالاستخبارات، ردًا على مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. على مدى السنوات الخمس الماضية، طردت الولايات المتحدة أكثر من 100 “دبلوماسي” روسي وأغلقت قنصليتي سان فرانسيسكو وسياتل الروسيتين.
وبالعودة إلى 2018م، تضامناً مع جمهورية التشيك، طرد العديد من دول أوروبا الوسطى ودول البلطيق من منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الدبلوماسيين الروس، طردت سلوفاكيا ثلاثة دبلوماسيين روس ، وليتوانيا اثنين ، وطردت إستونيا ورومانيا دبلوماسياً واحداً. يمثل هذا ثاني “طرد تضامني” تقوم به الدول الأعضاء في الناتو خلال ثلاث سنوات بعد الطرد الدبلوماسي الروسي الكبير بعد تسميم سكريبال.
وفي سياق متصل، أعلنت المملكة المتحدة لأول مرة أنها ستطرد الدبلوماسيين الروس بعد تحقيقها في تسميم سكريبال، انضمت حوالي 12 دولة لإظهار التضامن بعد أقل من أسبوعين، ثم طردت حوالي 24 دولة من دول الناتو والاتحاد الأوروبي أكثر من 125 دبلوماسيًا روسيًا، في غضون شهر، وبعد ثلاث سنوات ، طردت جمهورية التشيك 18 موظفًا في السفارة الروسية بسبب صلات روسيا المزعومة بانفجار مستودع ذخيرة عام 2014م، فيما قامت حوالي ست دول من الاتحاد الأوروبي والناتو بطرد أكثر من 25 دبلوماسيًا روسيًا، واستغرقت حوالي أسبوع لبدء عملية إعلان الدبلوماسيين الروس “أشخاصًا غير مرغوب فيهم”.
وبالرغم من أن وجود هذه السوابق، إلا أنه ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية تحولت عمليات الطرد الدبلوماسي إلى حدث دراماتيكي كأداة سياسية لمعاقبة روسيا التي تسعى لكسر سيطرة الغرب على النظام العالمي الذي تتزعمه واشنطن، فيما يسوق لها الغرب بأنها بغرض مجابهة الأنشطة الروسية الخبيثة في فضاء حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وهي التي “أَجبرت على اختيار هذا الأسلوب” غير المكلف مقارنة بالبدائل الأخرى، أقدمت على تصعيد دبلوماسي جماعي لأول مرة في تاريخ القارة المفعمة بالأزمات والصراعات والتسويات الدبلوماسية.
على سبيل المقارنة، في غضون شهرين فقط من الحرب في أوكرانيا، طرد أعضاء الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، بطريقة منسقة، أكثر من 400 دبلوماسي روسيا، قادت بولندا وألمانيا وفرنسا الحملة بطرد أكثر من 40 فردًا لكل منها، مقارنة بأقل من خمسة موظفين في الموجات السابقة، في حين شاركت 21 دولة من دول الناتو في عمليات الطرد الجماعي في عام 2018م، وبنسبة أقل من عام 2021، لكن كان عام 2022م أكثر حدة ، حيث شهد أكبر جهد منظم للدول الغربية وكان أوسع نطاقًا، في المقابل رفض عدد قليل فقط من الدول الأعضاء الثلاثين الانضمام إلى الموجة – منها المملكة المتحدة ، لأنها طردت عددًا كبيرًا من الدبلوماسيين الروس في موجات سابقة بالفعل، ولم تعد سياسة الطرد مجدية خاصة بعدما فقدت عيونها الاستخباراتية في الأراضي الروسية.
كما تميزت الموجه الجديدة من عمليات الطرد التي تقودها الدبلوماسية الأمريكية تطورا آخر وهو مشاركة دولة أسيوية مثل اليابان: في عام 2018 كانت اليابان الدولة الوحيدة في مجموعة السبع التي قررت عدم طرد دبلوماسيين روس، في محاولة للتمسك بمعادلة توازن دقيقة بين روسيا ومجموعة السبع، على أمل أن يتراجع انجذاب روسيا نحو بكين، لكن في 8 أبريل 2022م، أعلنت القيادة اليابانية طرد ثمانية دبلوماسيين ومسؤولين تجاريين روس، قائلةَ إنه يجب محاسبة موسكو على “جرائم الحرب” في أوكرانيا.
وبالنسبة لرئيس الوزراء فوميو كيشيدا، الحليف جيدا لواشنطن، فإن تصرفات روسيا كانت بمثابة “انتهاكات جسيمة للقانون الدولي وغير مسموح بها تمامًا”، وأعقبت هذا القرار إجراءات اقتصادية قوية، تضمنت حظر استيراد الأخشاب الروسية، وعقوبات على البنوك الروسية، وتجميد أصول 400 فرد ومجموعة، فضلاً عن اتفاقية لتقليص اعتمادها في مجال الطاقة تدريجياً على روسيا.
ومن المقبول، إلى حد ما، أن تضم السفارات عملاء استخبارات نشطين تحت غطاء دبلوماسي، وتغض الدول المضيفة الطرف عن وجودهم إلى أن ينخرطوا في نشاط غير قانوني، يقرر البلد المضيف طردهم، ولكن لأن عمليات الطرد المضادة قد تؤثر سلبًا على أنشطتها وخدماتها، فإن الحكومات عادة ما تكون حذرة عند تطهير السفارة والموظفين القنصليين من رجال الاستخبارات.
تاريخيا، استطاعت الدبلوماسية المحترفة احتواء عمليات الطرد في العادة وتهدئة الأمور، لا سيما في أوائل القرن الحادي والعشرين، إذا كان يتم طرد “الدبلوماسي”، الذي تم القبض عليه متلبساً بعمل تجسس من قبل الحكومة المضيفة، بهدوء دون أي تغطية إعلامية مصاحبة، ودون زيادة تسميم العلاقات الثنائية وإثارة انتقادات، ودون حتى حصول عمليات طرد تضامنية.
قانونيا ودبلوماسيا، يمكن للدول المضيفة أن تعلن في أي وقت ودون الحاجة إلى تفسير قرارها عن عضو في البعثة الدبلوماسية على أنه “غير مقبول” أو “شخص غير مرغوب فيه”، وفقًا للمادة 9 من اتفاقية فيينا للأمم المتحدة لعام 1961 بشأن العلاقات الدبلوماسية، لكن بقدر ما تُعتبر عمليات الطرد الدبلوماسي من الوسائل التي يُعتد بها على مر الزمن، لكنها وفي بعض الأحيان تُستخدم جيدًا على قاعدة إجبار الخصم لأن يتجرع السم سعيدا هانئا، بحسب مؤيدي عمليات طرد الدبلوماسيين.
وسعت الدول الأعضاء في الناتو إلى أداة مختلفة في مجموعة أدوات سياستها الخارجية للتعبير عن رفضها للإجراءات الروسية التي تعتبرها تهديدًا لسيادتها، بالمقارنة، يبدو أن عمليات الطرد خيار أقل تكلفة وأقل خطورة، على الرغم من وجود تكاليف لإغلاق القنوات الدبلوماسية والحد من الخدمات الدبلوماسية، مثل الشؤون القنصلية.

الطرد الدبلوماسي سلاح ذو حدين
لا ينكر الغرب وجود مخاطر ارتبطت بعمليات الطرد منها الانتقام المتبادل على قاعدة«التعامل بالمثل» بحلول الـ 25 من مايو، طردت موسكو بالفعل أكثر من 100 دبلوماسي من الولايات المتحدة واليابان وعدة دول أوروبية. ونتيجة للطرد الجماعي الكبير في أعقاب واقعة سكريبالس، ردت روسيا بطرد ما لا يقل عن 70 دبلوماسيًا حينها اضطرت الولايات المتحدة إلى إغلاق جميع قنصلياتها الموجودة في روسيا (سانت بطرسبرغ وفلاديفوستوك وإيكاترينبرج).
وبالإضافة إلى الدعم الذي تقدمه السفارات والقنصليات لمواطني بلدانها، فإن الدبلوماسيين هم عيون وآذان حكوماتهم ويقدمون تغطيات ومعلومات سياسية مهمة لعواصمهم، حيث أوضح رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو على نحو ملائم هذه المعضلة التي تواجه الحكومات الغربية بقوله «على الرغم من أن الدبلوماسيين الروس في كندا لا يساعدون، و يمارسون الدعاية المؤيدة لبوتين» ، إلا أنه يتعين على كندا أن تزن سلبيات ذلك مقابل الإيجابية المتمثلة في وجود كنديين استثنائيين في موسكو الذين يقدمون لنا ملاحظات حول ما يفعله الشعب الروسي، ويتواصلون مع المجتمع المدني ويفهمون ويدعمون الكنديين وغيرهم ممن يصادف وجودهم في روسيا في هذا الوقت».
في الواقع، فإن طرد دبلوماسيين غربين من روسيا قد دفع السفارات الغربية في موسكو ليس إلى مشاكل تتعلق بخدمات طارئة لمواطنيها منها معالجة تأشيرات الهجرة، بل أيضا أدت إلى تخفيض عدد الموظفين في سفاراتها وملحقياتها، وبالتالي نقص حاد في الخدمات التي يفترض أن تقدمها السفارات لأجهزة الاستخبارات في بلدانها، فـ كلما صغر حجم السفارة أو القنصلية ، كلما كان من الصعب فتح قنوات اتصال أو الحفاظ عليها، كما تتقلص بشكل أكبر سبل التفاوض أو الإبلاغ عن الحوادث أو تجنب سوء التقدير، وإلى جانب تفكيك وسائل الإعلام الروسية المستقلة وإغلاق مكاتبها كشبكة RT الروسية ، أصبح اليوم من الصعب فهم الأحداث على الأرض في روسيا.
يبدو أن الولايات المتحدة إحدى أهم الدول جناية لثمرة تصعيد المعركة الدبلوماسية، في الـ 28 من مايو، أعلنت روسيا منع دخول أكثر من 600 دبلوماسي أمريكي الأراضي الروسية بشكل نهائي، منهم ساكن البيت الأبيض جو بايدن ونائبته ومدير السي أي إيه. وبعد جولة العقوبات الروسية وطرد الولايات المتحدة الدبلوماسيين الروس في أبريل، أعلن الخارجية الروسية في مايو عن إجراءات إضافية للمعاملة بالمثل، أعلن الكرملين الولايات المتحدة “دولة غير صديقة”، وبالتالي منع السفارة الأمريكية من توظيف موظفين روس محليين، وفي 2 يونيو، أشارت الحكومة الروسية إلى أنها ستنهي اتفاقية “الأراضي المفتوحة” لعام 1992م، والتي سمحت للدبلوماسيين الأمريكيين والروس بالسفر بحرية في كل دولة، واستعادت ممارسة الحرب الباردة المتمثلة في تقييد الحركة الدبلوماسية.
وفي نهاية المطاف، سياسات بايدن تجبر خارجيته بشكل مضطرد على الحد بشكل حاد من خدماتها لتشمل فقط خدمات المواطنين الأمريكيين الطارئة وإصدار تأشيرات الهجرة لحالات الطوارئ الحياتية أو الموت، وعندما لا يتمكن الموظفون الأمريكيون من الحصول على تأشيرات جديدة لدخول روسيا مرة أخرى، فإن هذا سيؤدي إلى إغلاق القنصليات والحد بشكل كبير من خدمات القنصلية في روسيا، وبالتالي فإن يصعب على الدبلوماسيين الأمريكيين الإبلاغ عما يحدث في جميع أنحاء روسيا، والذي من المحتمل أن يكون بمثابة فائدة سياسية إضافية للكرملين لأنه يقضي على النفوذ الغربي داخليًا.

دبلوماسية “غير مرغوب فيه” تكشف عن خلاف بين الغربيين وقلق غير مسبوق
تكشف موجة الطرد الأخيرة عن الاختلاف بين الأوروبيين في نهجهم تجاه روسيا: على الرغم من أن معظم الدول الأوروبية قررت طرد موظفي السفارة الروسية، إلا أن بعضها رفض أن يحذو حذوها ومن داخل الناتو، كدولة المجر وتركيا، في حين أن قرار أنقرة بالوقوف جانباً يمكن تفسيره من خلال عملها الصعب في تحقيق التوازن بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، من جهة، وتحقيق مصالحها لا سيما بعد معارضتها لانضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، فإن موقف رئيس المجر فيكتور أوربان الدبلوماسي يثير قلق الغربيين، بشكل أكثر حدة.
بينما لم تعترض بودابست على الرد الدبلوماسي الأولي الحازم والجامع من قبل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي على حملة روسيا العسكرية، بدأت المجر في مقاومة أي خطوات الإضافية ضد موسكو، حيث عارضت العقوبات على النفط الروسي، ونظرا لضرورة لنظام التصويت في الاتحاد الأوروبي الذي يتطلب الإجماع فإنه تعذر في البداية صدور قرار ضد روسيا، هذه الخطوة يراها الغرب بأنها خلاف مبكر قد يتطور وبالتالي تعريض استراتيجيات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي للخطر، لاسيما بعد ظهور بعد الارتدادات على الاقتصادي الأوروبي، في ظل توقع بأن تستمر الحرب في أوكرانيا شهورًا إن لم يكن لسنوات مقبلة.

الغرب يكسب دبلوماسيا في فضاءات الإتحاد السوفيتي
بناءً على مواد إخبارية قام الباحث بجمعها لتتبع الوقائع الدبلوماسية خلال السنوات الخمس الماضية، فإن هناك ارتفاعاً في عمليات الطرد الفردية والجماعية لا تظهر فقط زيادة في تضامن الناتو فحسب، بل تظهر أيضًا تحولًا في العلاقات بين روسيا والدول التي لها روابط تاريخية مع روسيا، حيث شهدت دول حلف وارسو السابقة (بولندا وجمهورية التشيك وبلغاريا) أو دول ما بعد الاتحاد السوفيتي (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا) عمليات طرد للدبلوماسيين الغربيين بشكل غير مسبوق وطردت حكومات هذه الدول ما لا يقل عن 50 دبلوماسيًا روسيًا.
ردًا على حادثة التسمم في المملكة المتحدة عام 2018م، استدعت بلغاريا سفيرها من روسيا ولم تطرد دبلوماسيًا روسيًا واحدًا، لكن موقفها تغير نحو التطرف الدبلوماسي، فـ بحلول ديسمبر 2022م، طردت بلغاريا ستة دبلوماسيين روس بتهمة التجسس المزعوم، تلاهم ثلاثة “دبلوماسيين” آخرين في عام 2021م لأنها “ربطت نقاط” انفجار مماثل في مستودع أسلحة لإرسالها إلى جورجيا وأوكرانيا ومحاولة اغتيال تاجر أسلحة بلغاري.
كانت سلوفاكيا الدولة الوحيدة التي لم تطرد دبلوماسيًا روسيًا في بادرة التضامن مع المملكة المتحدة في عام 2018. كما هو الحال في بلغاريا، لكن في أوائل عام 2022، أعلنت سلوفاكيا طرد ثلاثة دبلوماسيين روس لتورط روسيا المزعوم في مقتل زليمخان خانغوشفيلي في برلين، وقال رئيس الوزراء السلوفاكي إيغور ماتوفيتش في ذلك الوقت إن سلوفاكيا “ليست جمهورية موز” ، في إشارة لرفض العلاقات الدبلوماسية الجيدة مع روسيا.
في عام 2018م، رفضت اليونان ، وهي دولة تربطها أيضًا علاقات تاريخية وثيقة مع روسيا ، طرد الدبلوماسيين الروس في أعقاب هجوم سالزبوري، لكن وبعد بضعة أشهر فقط ، طردت أثينا دبلوماسيين روسيين بزعم التدخل في الشؤون الداخلية ومحاولة رشوة المسؤولين اليونانيين، وعندما ردت الحكومة الروسية بطرد متبادل وألقت باللوم على واشنطن في قرار اليونان ، ردت اليونان ببيان فج وغير دبلوماسي “يجب أن يتوقف عدم الاحترام المستمر لليونان. . . مطالبات لا أساس لها. . . إن هذا القرار قد تم اتخاذه بعد ضغط من أطراف ثالثة لا يستحق التعليق ويشير إلى عقلية الأشخاص الذين لا يفهمون مبادئ وقيم السياسة الخارجية اليونانية “.

نحو عزل روسيا ودفعها نحول قبول الهزيمة الإستراتيجية بصدر رحب
تُعد عمليات الطرد جزءًا من جهد دبلوماسي غربي أكبر لعزل روسيا على المسرح الدولي، بدفع من تحالف كبير من الدول المعارضة روسيا حتى قبل حرب أوكرانيا، تم تعليق عضوية موسكو أو طردها من مختلف المؤسسات أو الهيئات الدولية، من مجلس أوروبا إلى منظمة العمل الدولية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وبالمثل، فإن الدبلوماسية الغربية قد نجحت أيضا في دفع الأمم المتحدة والمحافل الإستراتيجية متعددة الأطراف الأخرى مثل المنظمة الدولية للفرنكوفونية لإدانة التدخل الغربي ووصفه بـ “بالغزو الروسي الوحشي”.
وبحسب تصريحات المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين، فإن عملية عمليات الطرد الدبلوماسي الجماعية هدفت في المقام الأول إلى إظهار عزم الولايات المتحدة وأوروبا على الاستفادة من كل أداة متاحة لفرض تكاليف باهضه على روسيا على تجراها في كسر السيادة الغربية بالتدخل عسكريا والذي طالما فرضته في العلاقات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إلى جانب تعقيد الحرب الروسية وسياسة بوتين نحو الدول السوفيتية السابقة، وهي تسوق التبريرات للرأي العام الداخلي بأن معظم الموظفين المطرودين من عملاء المخابرات المشتبه بهم ، وبالتالي كانوا يمثلون تهديدًا محتملاً لإجراء عمليات لزعزعة استقرار دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي من الداخل.
يروج الغرب بأن الهدف الأساسي الآخر لطرد الدبلوماسيين هو تقليص الأنشطة الخبيثة لروسيا، تقول إن عددًا كبيرًا من “الدبلوماسيين” الموجودين في السفارات الروسية هم عملاء استخبارات نشطون يعملون تحت غطاء دبلوماسي، ويضيفون إنه من خلال إعلان مئات من ضباط المخابرات هؤلاء أشخاصًا غير مرغوب فيهم، تسعى الدول الأوروبية بوضوح إلى تعطيل عمليات التجسس والمعلومات المضللة الروسية، خاصة في دول وسط وشرق أوروبا حيث يُنظر إلى التأثير الروسي على أنه حاد وخطير. أعلنت فرنسا أن 6 من أصل 14 دبلوماسيًا روسيًا مطرودًا متهمون على وجه التحديد بارتكاب أعمال تجسس، بعد تحقيق طويل أجرته أجهزة المخابرات الفرنسية، بحسب وسائل الإعلام الفرنسية.
يقول تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) إن طرد هذا العدد الكبير من ما وصفهم بـ عملاء المخابرات الروسية هو عمل دفاعي مهم من قبل الغرب، وهذه الإجراءات أدت إلى إضعاف قدرة روسيا على القيام بعمليات خبيثة، يضيف” لطالما أعتقد الغرب أن روسيا ستسعى بشكل شبه مؤكد للرد على الغرب لدعمها لـ أوكرانيا وفرض عليها عقوبات، تمامًا كما فعل الكرملين بنجاح بعد عام 2014م، لذا يعتقد الغرب أنه تعلم من العمليات الروسية السابقة” وينتهي مركز الدراسات الأوروبي بالقول إنه سيكون لعمليات الطرد هذه آثار طويلة الأمد على الأنشطة السرية لروسيا حيث من غير المرجح أن توافق الدول الأوروبية ، في المستقبل القريب ، على استبدال العملاء المطرودين.
عمليات الطرد الدبلوماسية الجماعية هذه كان لها أهداف أخرى، بحسب ما توصل له الباحث، وهو إرسال إشارة لموسكو بأن الغرب متوحد ولديه من العزم ما يكفي لعزل روسيا كرغبة شعبية غربية عامة. بشكل ملحوظ، تم اتخاذ قرار بشأن معظم عمليات الطرد وسط حملة وتغطية إعلامية مهولة غير مهنية تحرض على روسيا وتتهمها بارتكاب جرائم وهو ما شكل دفعاً إلى الانتقال إلى استخدام الدبلوماسية كسلاح علني لفرض تكلفة سياسية على روسيا، بعد أن كانت عمليات الطرد من الأمور الهادئة التي تحدث خلف الأبواب المغلقة.

الدبلوماسية الغربية تنجح في توظيف الإعلام كأداة دبلوماسية فعالة
في الحروب والصراعات الدولية التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من حرب الخليج الثانية وحرب يوغسلافيا والشيشان وغزو افغانستان والعراق وسوريا واليمن، كان الإعلام والاتصال الدبلوماسي الفعال هو الأداة الفعالة التي استخدمت من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية على وجه العموم من أجل تحقيق نشاط دبلوماسي فعال من أجل كسب التأييد وهزيمة الخصم وتحقيق الأطماع في نهاية المطاف.
اليوم، تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتكرار التجربة ذاتها، ولكن بزخم غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، بحسب ما توصل إليه الباحث بعد ترجمة وتحليل مضمون (1300) مادة إعلامية نشرة خلال أسبوع واحد فقط في ست من وسائل الإعلام الغربية المؤثرة وهي وسي إن إ ، فوكس نيوز ونيويورك تايمز وواشنطن بوست وإم إس إن بي سي بالإضافة إلى قناة الجزيرة الناطقة باللغة الإنجليزية.
ونظرا للقيود الذي فرضها انتشار فيروس كرونا وظروف الحجر والإغلاق الجزئي والكلي والتي حدت من النشاط الدبلوماسي المباشر عبر الاتصال الدبلوماسي الشخصي والجمعي والعام، اختارت الولايات المتحدة الأمريكية وسائل الإعلام الجماهيري بكافة أشكالها وأنواعها كـ أداة اتصال فعالة، في حين أغلقت الفضاء أمام وسائل الإعلام التي تقدم وجهة النظر الروسي، واستطاعت من خلال هذه الوسائل تكوين رأي عام أوروبي ضاغط، دفع بدوره قادة الاتحاد لاتخاذ مواقف متطرفة.
كما توصل الباحث إلى أن وسائل الإعلام الغربية لم تنطلق في تغطيتها للأحداث في اوكرانيا من منطلق القيم الخبرية المعروفة والمهنية التي تدعيها الأنظمة السياسية الديمقراطية بل انطلق وفق خطط رسمها القائم على عملية الاتصال السياسي ومن منطلقات جيوسياسي، وازدواجية في المعايير، وعملت كبوق دعائي وتحريضي وتضليلي لتأجيج الأوضاع شرق الاتحاد الأوروبي ما دفع قادة الاتحاد نحو التطرف في تأزيم العلاقات الدبلوماسية وتسميمها دون أي اعتبار لمصالح الاتحاد وشعوبه الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية.
وبشكل إجمالي، في الأسبوع بين الاثنين 21 فبراير والأحد 27 فبراير، نشرت فوكس نيوز ونيويورك تايمز وواشنطن بوست وسي إن إن وإم إس إن بي سي تصريح ومقابلات مع قادة الدبلوماسية في الاتحاد الأوروبي، دعت في مجملها إلى التصعيد والعنف والذهاب نحو مزيدا من عمليات الطرد للدبلوماسيين الروس والهجوم على مقرات الدبلوماسية الروسية وفرض العقوبات وإرسال السلاح والمقاتلين وبنسبة 98 % كما نشرت 1300 قصة منفصلة عن غزو أوكرانيا، قصتان فقط عن هجوم سوريا، واحدة بشأن الصومال، ولا شيء على الإطلاق بشأن الحرب التي تقودها السعودية على اليمن.
ولم تخل وسائل الأعلام الغربية، التي استخدمت كأداة تصعيد دبلوماسي غير مهني، بمصفوفة اتفاقية فينا للعلاقات الدولية والدبلوماسية والأعراف الدبلوماسية فحسب، بل عمدت إلى استخدام الحصانات والامتيازات كغطاء والتحريض على العنف من خلال شيطنة الخصم وتبرير أي وسيلة لمواجهته واستنهاض النزعات العنصريّة، والفاشية، ‏والنازية، كما ساهمت في قمع النشاط الدبلوماسي الإيجابي لعدد من الدول منها الصين وجامعة الدول العربية والهند من أجل تحقيق أهداف جيوسياسية لحلف الناتو في فضاء الاتحاد السوفيتي السابق، منها عزل روسيا وجعلها عضوا منبوذا في المجتمع الدولي، ناهيك عن إثارة الفوضى في غرب روسيا، أو ما يعرف بدول القوقاز.
كما خلص الباحث إلى أن الدبلوماسية النشطة الجارية في أوروبا بقيادة الولاية المتحدة نجحت وانتهى بها المطاف في صالح إدارة البيت الأبيض مع وصول حالة المقاطعة الدبلوماسية والكراهية والعداء لروسيا ذروته، لكن هذا النشاط ألحق أضرار بالاتحاد الأوروبي ودوله اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وينذر ربما بتفكيك الاتحاد الأوروبي وإنهاء حلم الأوروبيين وإلى عودة مرحلة تغييب الدبلوماسية والصراعات والأزمات السياسية والاقتصادية لا سيما في ظل صعود اليمين المتطرف وتسليح القارة، الذي يدعو إلى دبلوماسية نشطة للجماعة التي ترفض الاستمرار في الاتحاد الأوروبي.
ونظرا لما حققته الدبلوماسية الغربية، يرى الباحث تقول إن دبلوماسية الحرب التي تقودها الولايات المتحدة في العالم على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية ستدفع بالاتحاد الأوروبي نحو مزيد من العلاقات الدبلوماسية البينية والتنسيق والتعاون وتقوية بنية الاتحاد الداخلي وإنشاء منظمات جديدة مثل منظمة للطاقة وتكوين جيش أوروبي موحد، وضم مزيد من الدول شرق أوروبا وأخرى من جمهوريات غرب أوروبا ويفترض أن هدف الدبلوماسية الغربية في نهاية المطاف هو تفكيك الجمهوريات الروسية الغربية.
( باحث في مجال الدبلوماسية والعلاقات الدولية)

قد يعجبك ايضا