إرث الماضي لا يزال يلقي بظلاله على العملية السياسية

انتخابات الصومال.. إرادة سياسية أم رضوخ لضغوط خارجية ؟

 

 

بعد مراوحات وتجاذبات سياسية وتوتر أمنى استمر أكثر من عام طوت الصومال ملف الانتخابات الرئاسية بانتخاب زعيم حزب التنمية والسلام الصومالي حسن شيخ محمود رئيساً للصومال خلفاً للرئيس المنتهية ولايته محمد عبد الله فرماجو، غير أن حالة عدم اليقين تسود الشارع الصومالي خوفا من أن خطوة الانتخابات الرئاسية لن تقود فعلاً إلى حلحلة شاملة للازمات السياسية والاقتصادية والأمنية العاصفة ببلد تمزقه الانقسامات والحروب..

تقرير / أبو بكر عبدالله

مرة أخرى هيمنت الحلول الاضطرارية على المعادلة السياسية الصومالية، ففي الانتخابات الرئاسية التي تأجلت لأكثر من عام وانتهت قبل أيام بانتخاب الأكاديمي والناشط في قضايا السلام حسن شيخ محمود رئيسا للجمهورية، ثمة اعتقاد بأن النجاح في هذه الخطوة لم يكن كاملا، فالعملية الانتخابية لم تأت بإرادة سياسية من أطراف الصراع بقدر ما جاءت كخطوة اضطرارية لتلافي التداعيات الأسوأ، ما جعلها تحصيل حاصل في مشهد أزمة بالغ التعقيد.
يشار في ذلك إلى اجتماعات البرلمان الصومالي بغرفتيه والذي اضطر إلى مغادرة مقره في العاصمة مقديشو وعقد الاجتماع الانتخابي داخل مرآب طائرات في مطار مقديشو تحت حراسة أمنية مشددة من قوات الاتحاد الأفريقي، بعد أن أدت التجاذبات السياسية والمناوشات المسلحة بين الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو ومناهضي طموحاته في التمديد إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية لأكثر من عام، وسط اضطرابات أمنية كادت أن تحشر الصومال من جديد في أتون الاقتتال والصراع المسلح.
ورغم أن مشهد اجتماع البرلمان الصومالي في مرآب طائرات تحت دوي الانفجارات كشف عن وجود أطراف لديها الاستعداد للانخراط في موجة صراع مسلح جديدة، إلا أنه لم يخل من عناصر إيجابية مشجعة، فقد أكد وجود إرادة سياسية لدى الطيف السياسي والعشائري الأوسع لإعطاء القوى المتصارعة فرصا إضافية للانخراط في العملية السياسية وتطويرها لتلافي الوقوع في سيناريو الصراع المسلح من جهة وتلافي فقدان الميزات الاقتصادية التي يجنيها الصومال منذ العام 2012م تاريخ دخوله حقبة الحكومة الاتحادية والدعم الدولي.
والعنصر المهم في المعادلة الجديدة أن دائرة الأطراف الداعمة للعملية السياسية الصومالية توسعت كما بدت مستوعبة لمخاطر الانزلاق في دوامة الصراع المسلح، ونجحت في الصمود أمام التهديد الذي لحقها إلى مكان الاجتماع المشترك لغرفتي البرلمان (الشعب والشيوخ) بسلسلة انفجارات هزت محيط المطار أثناء انعقاد الاجتماع الانتخابي وسط إصرار كبير على إكمال خطوة انتخاب الرئيس مهما كان الثمن.
هذا الوضع كشفته نتيجة الانتخابات التي حُسمت في جولتها الثالثة لصالح رئيس حزب التنمية والسلام الأكاديمي والناشط في قضايا السلام حسن شيخ محمود بفوزه بفارق كبير على منافسه الرئيس المنتهية ولايته محمد عبد الله فرماجو بـ 328 صوتا مقابل 110 حصل عليها فرماجو الذي اتهم بعرقلة تنظيم الانتخابات التي تدعمها الأمم المتحدة ومحاولة التأثير عليها خلال ولايته الرئاسية، كما اتهم بإدارة أعمال العنف التي شهدتها العاصمة الصومالية ومدن أخرى نتيجة تمسكه بتلابيب الرئاسة رغم انتهاء ولايته القانونية.
حنين إلى الاستقرار
رغم ان تنظيم الانتخابات الرئاسية كان استجابة لضغوط خارجية كبيرة مورست على أطراف الصراع السياسي وكذلك الضغوط التي مارسها صندوق النقد الدولي بعد توجيهه تحذيرات بنيته عدم تمديد برنامج الدعم المقدم للموازنة الصومالية البالغ 400 ميلون دولار ما لم تكتمل الانتخابات التشريعية والرئاسية بحلول منتصف مايو 2022م، إلا أن العديد من النخب السياسية في الصومال اعتبرت عملية تنظيم الانتخابات انتصارا كبيرا بحد ذاتها بالنظر إلى التجربة الصومالية الناشئة التي ترعاها الأمم المتحدة والتي لا تزال حتى اليوم محملة بإرث الماضي الذي يلقي بظلاله على أي عملية سياسية يحاول الصوماليون من خلالها تأسيس تاريخ الصومال الحديث.
مضى وقت طويل منذ أن كانت الصومال تحتكم للانتخابات في رسم مستقبلها السياسي، حيث توقفت الانتخابات في الصومال منذ اغتيال الرئيس عبد الرشيد شارماركي عام 1969م، قبل أن يدخل البلد في حقبة الحكم الشمولي في فترة الديكتاتور محمد سياد بري الذي قادت الإطاحة بحكمه إلى حقبة صراع مسلح استمرت نحو 30 سنة، سادت فيها الفوضى وصراعات العشائر وأمراء الحروب.
وفي الانتخابات الأخيرة مثل نجاح بعض النخب السياسية المؤيدة للعملية السياسية في تنظيم الانتخابات الرئاسية انتصارا كبيرا في إسكات الأصوات التي حاولت جر الصومال إلى مربع الاستقطاب والتمترس المسلح، ما جعلهم يعدون تنظيمها نجاحا، خصوصا أن عدم تنظيمها كان سيعني انكسارا للطرف المؤيد للعملية السياسية وقد يفتح شهية أطراف أخرى لا تزال تتطلع إلى حكم الصومال بالحديد والنار.
ذلك أن المواقف السياسية التي كانت سائدة لدى الأحزاب والقوى العشائرية في السنوات الماضية بتأييد الحوار والشراكة والديموقراطية الشكلية تراجعت إلى حد كبير في العامين الأخيرين، كما أن مستوى عدم الثقة بين الأطراف السياسية صار مرتفعاً للغاية ويهدد بانهيار العملية السياسية والعودة بالصومال إلى حقبة الصراع المسلح.
ومع ذلك فإن النتيجة التي فاز بها الرئيس حسن شيخ محمود حملت رسائل واضحة بتطلع أكثر الطيف السياسي والعشائري الصومالي للعودة إلى فترة الاستقرار النسبي التي شهدتها ولايته الأولى (2012 – 2017م) والحرص على الخروج المبكر من دوامة الصراع التي اشتعلت في الأشهر الماضية بين الرئيس السابق فرماجو ورئيس حكومته محمد حسين روبلي وأفضت إلى أعمال عنف وتمترس مسلح أشاع القلق لدى الشارع الصومالي من مخاطر الانجراف إلى موجة صراع جديدة في بلد لم يتعاف بعد من تاريخ صراعاته الطويل.
موقف الشارع
لم تنتخب الأغلبية في البرلمان الصومالي حسن شيخ محمود كخصم ندي لمنافسه فرماجو، بل لكونه شخصية اكاديمية وناشطاً مدنياً وتكنوقراطاً لديه مشاريع يمكن أن يقدم من خلالها مفاجآت، كما فعل في ولايته الأولى (2012 ـ 2017م) عندما تمكن من تأسيس نظام فيدرالي قسّم فيه الصومال إلى ولايات وأعاد بناء مطار مقديشو الدولي، كما نجح في السيطرة نسبياً على مناطق عدة في مواجهة حركة” الشباب المجاهدين” المسلحة بعد تحريره نحو 36 مدينة من قبضة مسلحي الحركة، ناهيك عن اعتماده سياسة توافقية بين الفرقاء الصوماليين جعلت منه موضع توافق أكثر الأحزاب السياسة والقوى العشائرية الصومالية.
هذه النجاحات هي التي أهلت حسن شيخ محمود لاستلام دفة الرئاسة الصومالية للمرة الثانية ونجاحه في تسجيل سابقة لم يسبقه إليها أي رئيس صومالي بالعودة إلى الرئاسة للمرة الثانية، بينما كانت مشاعر الابتهاج لدى الشارع الصومالي واضحة بتحدي المئات من الصوماليين حظر التجوال ونزولهم إلى شوارع العاصمة مقديشو وهم يطلقون النار في الهواء ابتهاجا بانتخابه.
كان هذا المشهد بمثابة استفتاء شعبي للتأكيد على سأم الشارع الصومالي من استمرار دوامة الصراع وحال التدهور الاقتصادي والأمني الذي بلغته الصومال في عهد سلفه محمد عبد الله فرماجو الذي فشل في تعزيز المشهد الأمني رغم الأموال الكبيرة التي أنفقت لتعزيز قدرات المؤسسة الأمنية والعسكرية الصومالية، ناهيك عن فشله في التعامل مع حكومات الولايات، بما في ذلك بونتلاند وجوبالاند المتمتعتان بحكم ذاتي.
هذا الحال عبَّرت عنه دراسة ناقشها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إذ قالت إن “فرماجو وجماعته أعادوا الصومال مرة أخرى إلى حافة الانهيار المؤسسي والصراع المسلح” حيث تم إحياء خطوط الانقسامات العشائرية داخل مؤسسات الدولة الوليدة بما فيها مؤسستا الجيش والأمن.
وأكثر من ذلك فقد سئم الشارع الصومالي من رئاسة فرماجو التي أدت إلى تصاعد الخلافات بين الحكومة الفيدرالية وبعض المناطق خصوصا جوبالاند وبونتلان اللتين أيدتا القوى المعارضة في كبح مشاريع رئيس الدولة لتعزيز سلطات مقديشو الفيدرالية، وتسبب في معارك بين القوات الفيدرالية والقوات المحلية، بينما أدت الخلافات السياسية التي كان أحد أطرافها إلى انقسام مؤسسات الأمن والجيش الصومالي ما انعكس على مستوى تصديها لخطر “حركة الشباب المجاهدين” المرتبطة بتنظيم “القاعدة” والتي تتبنى نهجا عدائيا يستهدف الإطاحة بالحكومة الفيدرالية.
تحديات وآمال
يعرف أقطاب المعادلة الصومالية أن الرئيس حسن شيخ محمود سيواجه مهام صعبة في ولايته الرئاسية التي تنتهي بعد أربع سنوات، وهو ما عبَّر عنه الرئيس المنتهية ولايته محمد فرماجو الذي قال بعد فوز حسن شيخ محمود ” دعونا نصلي من أجل الرئيس الجديد.. إنها مهمة صعبة للغاية”.
تصريحات فرماجو ذكّرت بالمهمة الصعبة الأولى للرئيس المنتخب في إنهاء تركة الاحتقان وانعدام الثقة التي خلفتها التجاذبات السياسية بين الرئيس السابق من جهة ورئيس حكومته وحكام الأقاليم من جهة أخرى والتي القت بتأثيرات سلبية على المشهدين الأمني والاقتصادي، ثم تحديات التصدي لحركة “الشباب” المسلحة المرتبطة بتنظيم “القاعدة” والتي استغلت أزمة الانتخابات الرئاسية خلال أكثر من عام وفرضت سيطرة على العديد من المناطق في جنوب الصومال وزادت نفوذها وقوتها، بعدما أعدّت نظاما ضريبيا متطورا وقدّمت خدمات ملموسة للسكان لاسيما في تسوية المنازعات بشكل أكثر كفاءة من المؤسسات الحكومية.
وبصورة عامة سيواجه الرئيس محمود تحديات كبيرة في دولة يبلغ قوام سكانها 15 مليون نسمة، وتعاني من اضطرابات أمنية وصراع بين العشائر وضعف الحكومة المركزية وأعمال تمرد مسلَّح وأداء اقتصادي متعثر واعتماد كامل على المساعدات الخارجية، ناهيك عن المخاطر المحتملة لأسوأ موجة جفاف تعانيه الصومال منذ ٤٠عاماً.
ونظرا لكون الصومال لا يزال يعتمد حتى اليوم على الدعم الخارجي للموازنة، فإن التحدي الاقتصادي الأكبر الذي سيواجهه الرئيس المنتخب يتمثل في تحسين العائدات الضريبية للحكومة من أجل الحصول على بعض الاستقلال وتعزيز المؤسسات.
ولا تزال هناك مخاوف جدية من أن حركة “الشباب المجاهدين” تعوّل على غرار حركة طالبان في أفغانستان على إخفاق الحكومة الفيدرالية ونفاد الصبر الدولي، استنادا إلى نجاحها في تعزيز وجودها خلال العام الماضي في العديد من المناطق الجنوبية والذي مكنها من رفع مستوى وعدد هجماتها بشكل ملحوظ.
يضاف إلى ذلك التحديات الناشئة جراء تصاعد حضور الفرع الصومالي لتنظيم” داعش” الذي واصل بناء قواته في منطقته المحصورة في جبال غالغالا وتمكنه من الصمود أمام قوات إقليم بونتلاند المدعومة من الولايات المتحدة.
وبدرجة أقل ستواجه الرئيس الجديد تحديات في تطوير التجربة السياسية في الصومال بالانتقال إلى الانتخابات الرئاسية المباشرة التي تتجنب النخب السياسية والعشائرية الصومالية تنظيمها منذ العام 2008م لأسباب كثيرة.
هذه التحديات ليست سرا، فأكثر النخب الصومالية تعرفها وفي المقدمة الرئيس المنتخب الذي بدا مستوعبا لحجم التحديات التي تنتظره، عندما تعهد في كلمته الأولى أمام البرلمان الصومالي بالعمل على تقريب المسافات بين الصوماليين نافيا نزوعه للانتقام من أقطاب النظام السابق ” علينا المضيّ قدماً.. ولسنا بحاجة إلى ضغائن ولا انتقام.. لا يمكننا أن ننسى الماضي المؤلم ولكن نستطيع أن نسامح.. سأعمل على جمع كل الأطراف على طاولة واحدة لمناقشة مستقبل البلاد”.
حدد الرئيس محمود أولوياته بالتأكيد على تحقيق الاستقرار السياسي، وإنشاء دولة ديموقراطية، معتبرا ذلك اهم الأولويات بعد تحقيق الأمن، كما بدا مدركا للمعضلات التي عاشها الصومال في السنوات الأخيرة، وقال إن الصومال لم ينجح في حل مشكلاته الأمنية رغم كل الخطوات والمبادرات التي تم تنفيذها وإن معضلة الأمن تزداد بالمشكلات الموجودة في المجالات الأخرى، مؤكداً أنه سيحرص على عدم تكرار أخطاء الماضي، وأن تسليم المهام الأمنية إلى الحكومة الصومالية سيصبح ممكناً بعد فترة قصيرة من تأسيس النظام الأمني في البلاد.
ومن الواضح أن لدى الرئيس الصومالي المنتخب فرصا لإنجاز ما فشل فيه أسلافه، بالنظر إلى الدعم الإقليمي والدولي الذي يحظى به والذي بدا واضحا في قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن بإعادة نشر قوات أمريكية في الصومال بعد أن انسحبت منها في العام قبل الماضي، وهو ما عبَّر عنه الرئيس محمود بشكره نظيره الأمريكي على قراره إعادة الوجود العسكري الأمريكي إلى الصومال واعتباره الولايات المتحدة شريكاً موثوقاً به في سعي الصومال لتحقيق الاستقرار ومكافحة الإرهاب.
وكان شيخ محمود قد أعلن خلال حملته الانتخابية أنه سينتهج سياسة خارجية مبنية على التعايش السلمي” مع العالم بعيداً عن خلق عداوة خارجية قد تؤثر سلباً على العلاقات الدبلوماسية مع العالم، وأكد أنه سيعمل على تعزيز العلاقات الخارجية الصومالية مع دول العالم خصوصاً التي دعمت بلاده في شتى المجالات إلى جانب حربها ضد الإرهاب.
آمال ضئيلة
في كل الأحوال يمكن اعتبار خطوة انتخاب الرئيس الجديد للصومال نقلة مهمة في معادلة استقرار الصومال سياسيا واقتصاديا وأمنيا، خصوصا أنها مكنت الصوماليين من تجاوز تداعيات أزمة عاصفة خلفها تمسك الرئيس السابق محمد عبدالله فرماجو بتلابيب الرئاسة وسط صراع محتدم مع رئيس حكومته كاد أن ينزلق بالصومال إلى دوامة عنف جديدة، بعدما تعافت منه لسنوات.
لكن آمال الصوماليين في أن تتجاوز بلادهم الأزمات الاقتصادية والأمنية تبدو حتى الآن ضئيلة، فالتقديرات تشير إلى أن الرئيس محمود قد يواجه عقبات في المضي بملفات المصالحة الصومالية واستكمال صياغة الدستور المؤقت وإقراره، وتعزيز حالة الوفاق بين الحكومة الفيدرالية والأقاليم الصومالية، وهي قضايا كانت في الفترة الماضية أشبه بمعضلات عصية على الحل، إضافة إلى أن الانسداد السياسي الذي أخر إتمام الانتخابات خلال العام الماضي أدى إلى تجميد العديد من الأطراف الدولية المساعدات التي كانت تقدم للحكومة الصومالية، فضلا عن الآثار التي تكبدتها الصومال جراء الأزمات الاقتصادية وارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود إلى جانب الجفاف الذي يضرب البلاد للعام الثالث على التوالي.
وتشير التقديرات الأممية إلى أن نحو 70 % من الصوماليين البالغ عددهم قرابة 14 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر، في حين لا تمتلك الحكومة الصومالية سوى موارد قليلة للغاية، فيما لا يزال اقتصاد الصومال المثقل بالديون يعتمد بصورة كبيرة على المساعدات الدولية.

قد يعجبك ايضا