د- موفق السباعي
من السنن الكونية التي وضعها الله تعالى للبشر منذ بداية خلق أبيهم آدم وإلى قيام الساعة.. وجود صراع مستمر ودائم لا يتوقف لحظة واحدة بين بني البشر.
ومن هذه السنن الثابتة، التي لا تتبدل ولا تتغير عبر عمر البشرية كلها، سنة التدافع التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم ﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١) ﴾ البقرة.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولولا أنّ الله يدفع ببعض الناس – وهم أهل الطاعة له والإيمان به – بعضًا، وهم أهلُ المعصية لله والشرك به “لفسدت الأرض”، يعني: لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم، ففسدت بذلك الأرض.. ولكن الله ذو منٍّ على خلقه وتطوُّلٍ عليهم، بدفعه بالبَرِّ من خلقه عن الفاجر، وبالمطيع عن العاصي منهم، وبالمؤمن عن الكافر.(1).
وَحَكَى مَكِّيٌّ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِمَنْ يُصَلِّي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي وَبِمَنْ يَتَّقِي عَمَّنْ لَا يَتَّقِي لَأُهْلِكَ النَّاسُ بِذُنُوبِهِمْ، وَكَذَا ذَكَرَ النَّحَّاسُ وَالثَّعْلَبِيُّ أَيْضًا، [قَالَ الثَّعْلَبِيُّ(٧) وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَارَ عَنِ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، أَيْ هَلَكَتْ. وَذَكَرَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:” إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ الْعَذَابَ بِمَنْ يُصَلِّي مِنْ أُمَّتِي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي وَبِمَنْ يُزَكِّي عَمَّنْ لَا يُزَكِّي وَبِمَنْ يَصُومُ عَمَّنْ لَا يَصُومُ وَبِمَنْ يَحُجُّ عَمَّنْ لَا يَحُجُّ وَبِمَنْ يُجَاهِدُ عَمَّنْ لَا يُجَاهِدُ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَا أَنْظَرَهُمُ(٨) اللَّهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ- ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ- وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ”. وَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ لَوْلَا عِبَادٌ رُكَّعٌ وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ وَبَهَائِمٌ رُتَّعٌ لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا” خَرَّجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ. حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “لَوْلَا فِيكُمْ رِجَالٌ خُشَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ وَصِبْيَانٌ رُضَّعٌ لَصُبَّ الْعَذَابُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ صَبًّا” (2).
لا سلام في الأرض
فلا سلام في الأرض؛ طالما يتواجد عليها مؤمنون وكافرون؛ وطالما أن الكافرين يكرهون ويبغضون المؤمنين، ويقومون باحتلال أرضهم، وإذلالهم، وإخضاعهم لسيطرتهم، ووضعهم تحت نفوذهم، وتحت هيمنتهم؛ والتحكم بمصيرهم، ونهب ثرواتهم، وجعلهم عبيداً أذلاء خانعين لهم.
وإذا ما ألقينا نظرة سريعة خاطفة على تاريخ الأمم، والشعوب منذ فجر التاريخ وحتى اليوم.. نجد أن عمليات الغزو واحتلال البلدان الأخرى، كانت تجري على قدم وساق، ولا تكاد تخلو بقعة من بقاع الأرض، دون أن يحصل فيها قتال، وصراع عنيف بين الغزاة، وبين أبناء البلد المغزوِّ للدفاع عنه، أو لتحريره.
فحينما جاء الصليبيون إلى بلاد المسلمين، واحتلوها، واحتلوا المسجد الأقصى لمدة إحدى وتسعين سنة، لم يتم تحريره وتحرير بقية البلاد الإسلامية بالمفاوضات والمناشدات، ولا بالتمنيات والأمنيات، ولا بالدعوة إلى عقد صفقات سلام مع الصليبيين، ولا بالبحث في علوم الرياضيات، ولا بالتفتيش في علوم الكهانة، والتنجيم، والهرطقة، ولا في البحث في أباطيل وخزعبلات (حساب الجُمَل) في القرآن الكريم.. بل تم التحرير بالقتال الشرس والعنيف، والذي استغرق حوالي أربعين سنة، وكانت موقعة حطين هي الأشهر بين المعارك التي خاضها المسلمون مع الفرنجة، والتي كانت مقدمة لتحرير الأقصى بعد عدة أشهر.
وهكذا! نرى أن تحرير الأوطان من المحتلين، ومن الحكام الظلمة، الفجرة عبر التاريخ، لم يتحقق إلا بالقتال، وبقوة السلاح.
القتال هو السنة الربانية الثابتة
وهذه سنة كونية ربانية ثابتة، لا تتبدل، ولا تتغير. وإذا ما تصفحنا القرآن الكريم، سنجد فيه عشرات الآيات، التي تدعو وتحض وتحث وتحرض المؤمنين على القتال في سبيل الله، وتعتبر من يُقتل في سبيل الله شهداء، أحياء عند الله، وفي جنات الخلد يسرحون ويمرحون (ولا تَحسَبَّنَ الذينَ قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عندَ رَبِّهم يُرزَقونَ * فَرِحينَ بما آتاهم اللهُ منْ فَضلِهِ) آل عمران (( 169-170)).
(يا أيُّها النَّبِيُ حَرِّضِ المؤمنينَ على القِتالِ) الأنفال 65. (فقاتِلْ في سبيلِ اللهِ لا تُكلَّفُ إلا نَفسَكَ وحَرِّضِ المؤمنينَ) النساء 84، (يا أيُّها الذين آمنوا قاتلوا الذينَ يَلونَكُم منَ الكُفَّارِ وليَجدوا فيكُم غِلظةً) التوبة 123.
غير أن بعضاً من ذراري المسلمين القاعدين، الخاملين، المتثاقلين إلى الأرض، والملتصقين بترابها، ويعجزون عن القتال، والجهاد، ومناوأة المحتلين الغاصبين للأرض المقدسة، التي فيها المسجد الأقصى، حيث القبلة الأولى للمسلمين، وإليه أُسرِي بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة، ومنه تم عروجه إلى السماوات العلا، حيث سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى.
والذين يكرهون منازلة المحتلين، وطردهم بالسنان؛ فيلجأون إلى التنجيم والكهانة، والتلاعب بآيات القرآن، وتحريف كلماته، ولي أعناق نصوصه، واتخاذها هزواً وسخريةً، والاستنباط منها تاريخاً محدداً، لانتهاء الاحتلال الصهيوني، وزواله من الوجود والشهود، للتلاعب بعقول عوام الناس، ودهمائهم، وتخديرهم وخداعهم، وكأن القرآن، قد أُنزل (بضم الهمزة) لتحديد تاريخ انتهاء، أي احتلال يحصل في بلاد المسلمين؟!
وإذا كان كذلك فلماذا لم يستخدمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فتح مكة والطائف وهو جالس في المدينة بدلاً من تجهيز جيش عرمرم كان قوامه حوالي عشرة آلاف مقاتل؟!
فهل كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم غافلاً عن هذه الأمور، أم أن ربه نسي – سبحانه وتعالى عن ذلك (وما كان ربك نسياً) مريم 64. – أن يبلغه، أن في القرآن علماً، بليغاً، فريداً من نوعه اسمه (حساب الجُمَل) يستطيع وهو جالس في بيته، يحتسي الشاي والقهوة، أن يعلم متى سيتم الفضاء على الأعداء، وطردهم من البلاد، دون أي عناء، ولا مشقة، ولا لأواءٍ، ولا حرب، ولا سفك دماء.
ما أسهل هذه الطريقة، وأيسرها، وأهونها – لو كانت صحيحة – في طرد المحتلين، وفتح البلاد!
لماذا – يا ترى – لم يستخدمها الصحابة – رضوان الله عليهم – في فتح الشام، والعراق، وفارس، وبلاد السند، والصين، ومصر، والمغرب، والأندلس بدلاً من التضحية بآلاف الشهداء؟!
الجواب في قوله سبحانه وتعالى:
﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (٤١)﴾ التوبة، ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ (١١١)﴾ التوبة، ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)﴾ البقرة.
هذا هو كلام الله الحق، الداعي إلى القتال، والجهاد في سبيل الله؛ لرد كيد المعتدين؛ وطردهم من الأرض التي احتلوها.. وليس كلام ذلك الدجال، المشعوذ، المتكهن، المهرطق الذي يجلس في بيته يشرب الشاي والقهوة، ويزعم أن الاحتلال اليهودي سيتبخر ويتلاشى ويضمحل ويزول نهائياً.. يوم التاسع من ذي الحجة 1443هـ، أي بعد ستين يوماً تقريباً.
﴿ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨) كَلا! سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ، وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ: وَيَأْتِينَا فَرْدًا ﴾ مريم.
وحينئذ، سيتخلى عنه كل الذين اتبعوه وصدقوه وسيتركونه لوحده ليلقى العذاب الأليم؛ بما كذب على الله وافترى.
﴿ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (١١)﴾ الذاريات.
ويقول الطبري في تفسيره:
لُعِن المتكهنون الذين يتخرّصون الكذب والباطل فيتظننونه.(3).
إذاً، القتال هو: الوسيلة الوحيدة، لتحرير الشعوب من الاستعباد والاستبداد والطغيان، وتحرير الأوطان من المحتلين، وتحرير المسجد الأقصى وكل فلسطين من الغزاة الصهاينة الغاصبين.