بقرار الرئيس التونسي قيس سعيّد حل البرلمان وشروعه في حوار سياسي يقصي الأحزاب الكبيرة في الساحة التونسية لبحث خططه الإصلاحية للنظام السياسي والقانوني وآليات تنفيذ خارطة الطريق التي أعلنها قبل 8 أشهر يكون الرئيس سعيد قد أكمل إجراءاته الاستثنائية بإنهاء النظام البرلماني المنصوص عليه في دستور 2014 تمهيدا لإصلاحات يُنتظر أن تنقل تونس إلى نظام حكم رئاسي ينهي دوامة الأزمات التي عصفت بالدولة التونسية خلال السنوات الماضية، غير أن الكثير من العقبات لا تزال تقف على الطريق.
الثورة / تحليل/ أبو بكر عبدالله
بعد قراره المثير للجدل بحل البرلمان كثف الرئيس التونسي قيس سعيّد مشاوراته مع ممثلي النقابات ومنظمات المجتمع المدني وبعض الأحزاب السياسية الموالية، تمهيدا لحوار وطني، بدا واضحا أنه يسعى من خلاله إلى إنجاح خطوات مقبلة لمرحلة ما بعد حل البرلمان، بالانتقال إلى الاستحقاقات الانتخابية المقبلة خصوصاً الاستفتاء المنتظر تنظيمه يوم 25 يوليو المقبل حول شكل الدولة والنظام السياسي، والانتخابات البرلمانية المنتظرة يوم 17 ديسمبر 2022 بعيدا عن الأحزاب المهيمنة على المشهد السياسي منذ الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي.
في خطواته السياسية التي اتخذها قبل نحو 8 أشهر جمد الرئيس قيس سعيّد البرلمان التونسي المسيطر على أغلبيته من حزب النهضة (إخوان مسلمين) ضمن خطة كبيرة لإقصاء الطبقة السياسية التي يتهمها الشارع التونسي بالتسبب في الأزمات اقتصادية واجتماعية كبيرة خلال العشر السنوات الماضية، غير أن قرار التجميد لم يمنحه المساحة الكافية للمضي بمشروعه الذي حظي بتأييد الشارع التونسي، وواجه عقبات خلال الفترة الماضية قبل أن يقرر الرئيس سعيّد حل البرلمان.
جاء قرار حل البرلمان بعد يوم واحد بعد عقد نواب حزب النهضة جلسة عامة عبر الفيديو، شارك فيها نحو 116 نائبا من بين 217 نائبا، وأفضت إلى تصويت 116 نائبا على مشروع قانون يلغي التدابير الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، منذ نحو ثمانية أشهر ما اعتبر تحديا للرئيس قاده تاليا إلى حل البرلمان مستندا إلى الفصل 72 من الدستور الذي ينص على أن «رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور».
ورغم أن أغلبية القوى السياسية التونسية أيدت القرار الرئاسي بحل البرلمان واعتبرته صائبا، فيما أطراف أخرى اعتبرته «غير دستوري» إلا أنه أنتج حالة انقسام بين القوى السياسية التي طالب بعضها بضرورة أن يعقبه إعلان تنظيم انتخابات برلمانية مبكرة خلال 3 أشهر أو خلال 9 أشهر وفقا لنص الدستور، قبل أن يتم استثمار الحدث لإعادة طرح مشروع الحوار الوطني كبديل للاستشارة الإلكترونية التي أراد قيس سعيد فيها مشاركة السواد الأعظم من الشعب التونسي لصياغة وتحديد نظامه السياسي.
ساهم قرار حل البرلمان -بما أحدث من هزة سياسية كبيرة- في إعادة طرح مشروع الحوار الوطني الشامل الذي وجد هذه المرة استجابة من الرئيس سعيّد بعدما كان أرجأ الحديث عنه لأكثر من شهرين، غير أن المشروع بدا من اليوم الأول مرشحا لمواجهة عراقيل كثيرة، بعد إفصاح الرئيس سعيّد عن رغبته في إقصاء الأحزاب السياسية المعارضة التي نشطت في السنوات العشر الأخيرة من الحوار وهي الأحزاب التي طالما حملها مسؤولية الوضع المتدهور الذي تعيشه تونس الآن، وسط جدل واسع حول إمكانية نجاح الحوار مع إقصاء الطبقة السياسية الأكثر حضورا في المشهد التونسي.
زاد من ذلك إعلانه أن الحوار سيكون بناء على مخرجات الاستشارة الوطنية الإلكترونية التي أطلقها منصف يناير الماضي، وأفضت -رغم محدودية المشاركين فيها- إلى تأييد النظام الرئاسي بدلاً عن النظام البرلماني ونظام الانتخاب الفردي بدلا عن نظام القوائم، وهي الخيارات التي رفضتها أحزاب المعارضة الكبيرة وفي المقدمة حركة النهضة وحزب قلب تونس وغيرها من الأحزاب التي تتمسك بالنظام البرلماني كأساس في التجربة الديموقراطية التونسية الناشئة.
هذا الأمر فتح الباب للكثير من الأسئلة بشأن الرؤى التي يتبناها الرئيس سعيد وتأثيرها على مستقبل الدولة التونسية في ظل الصراع السياسي والانقسام الذي يهيمن على المشهد التونسي منذ الانتخابات التشريعية التي أجريت في عام 2019م.
عودة إلى الحوار الوطني
منذ تجميده البرلمان العام الماضي، تجاهل الرئيس سعيّد دعوات أحزاب المعارضة إلى حوار وطني شامل، وأطلق في منتصف يناير الماضي استشارة إلكترونية قال إنها تستهدف «تعزيز مشاركة المواطنين في عملية التحول الديمقراطي» استمرت حتى 20 مارس الماضي، لكنها أفضت إلى مشاركة محدودة لم يتجاوز فيها المشاركون 534 ألفا و915 مشاركا، من إجمالي قاعدة انتخابية قوامها 9 ملايين ناخب.
فشل هذا المشروع كان كافيا لإقناع الرئيس قيس سعيّد بضرورة مراعاة التقاليد السياسية التي الفتها القوى السياسية التونسية لعقود، ومع ذلك فقد اعتبر أن تجربة الاستشارة الإلكترونية ناجحة وأن هناك اطرافاً حاولت إفشالها، ليعلن بعد ضغوط داخلية وخارجية استجابته لمبادرة الحوار الوطني الشامل التي تبناها الاتحاد التونسي للشغل واضعا شروطا مسبقة باستبعاد بعض القوى السياسية من الحوار وأن تكون مواضيعه قائمة على أساس نتائج الاستشارة الإلكترونية التي أفصحت عن ميل معظم المشاركين نحو النظام الرئاسي الذي يجاهد الرئيس سعيّد من أجل فرضه كخيار وحيد بعد تجربة العشر السنوات للنظام البرلماني التي أفضت إلى أزمات داخلية عميقة.
ورغم أن العدد المحدود للمشاركين في العملية لم يعكس الواقع الحقيقي لحجم الأحزاب التونسية المعارضة التي قاطعت العملية، إلا أن نتائجها وضعت الرئيس سعيّد في مأزق سياسي من مخاطر اعتمادها كأساس في وضع تعديلات دستورية وقانونية ينتظرها الشارع التونسي منذ أمد طويل، في شأن طبيعة النظام السياسي والنظام الانتخابي وغيرها من القضايا التي طمح سعيّد إلى إنجازها اعتمادا على استشارة إلكترونية لم تكن مطابقة للإرادة الشعبية.
هذه النتيجة لعبت دورا مهما في إقناع الرئيس سعيّد بتنظيم حوار وطني شامل، وفقا للمبادرة التي قدمها الاتحاد التونسي للشغل، والتي أجرى سعيّد على ضوئها مشاورات ومداولات مع عدد من ممثلي الأحزاب السياسية والنقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني، قبل أن تعكرها الشروط المسبقة بتحديد المكونات السياسية والنقابة التي ستشارك في الحوار واستبعاد مكونات سياسية كبيرة منها.
وخلال مداولاته الأخيرة مع ممثلي الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع أعلن الرئيس سعيّد بوضوح أن «لا حوار مع اللصوص» كما اعتبر أن بعض الشخصيات المطروحة مشاركتهم في هذا الحوار مطلوبون للعدالة وشدد على رفضه الحوار مع الضالعين «في نهب مقدرات الشعب وأرادوا الانقلاب على الدولة» وان «الحوار سيجمع الصادقين والثابتين على مبادئهم»، وهو كان يعني حركة النهضة (إخوان مسلمين) وكذلك حزب «قلب تونس» اللذين يعدان من أكبر الأحزاب المعارضة التي هيمنت على أغلبية البرلمان بعد الثورة التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي وفقدت شعبيتها في السنوات الأخيرة بسبب فشلها في إدارة الدولة لأكثر من 10 سنوات.
إقصاء حزب النهضة
حتى اليوم لم تفصح الرئاسة التونسية عن الآلية التي سيتم على ضوئها تنظيم الحوار الوطني، بينما اكتفى الرئيس سعيد بالحديث عن رابطة وطنية ستتولى تنظيم الحوار، وأن الحلول لن تنفرد بصياغتها جهة واحدة، بل ستقوم على الحوار الذي لا يمكن أن يكون مع من نهبوا مقدرات الشعب، أو مع من أرادوا الانقلاب على الدولة وتفجيرها من الداخل ومع من أرادوا الإطاحة بالدولة ومن نهبوا مقدراتها ومن يلجأون للعنف ويقسمون الشعب « في إشارة إلى حركة النهضة المعارضة.
ولم تعلن الرئاسة التونسية حتى اليوم قائمة بالمشاركين في الحوار، غير أن الأوساط السياسية التونسية تحدثت في الأيام الماضية عن مشاركة كل من الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنية للمحامين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والاتحاد الوطني للمرأة التونسية»، وبعض الأحزاب الموالية للرئيس سعيد والمؤيدة لإجراءاته الاستثنائية.
والصورة الأكثر وضوحا بالنسبة للأطراف المقرر مشاركتها في الحوار الوطني لخصها رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان جمال مسلم الذي أعلن بعيد لقاء جمعه بالرئيس سعيّد أن الحوار «سيشمل كل القوى المدنية الوطنية والأحزاب التي ليس لها ماضٍ في العشرية الأخيرة، ولم تسهم في الوضع السيئ للبلاد، ولا تتحمل مسؤولية الوضع الراهن».
ومع ذلك لم يخل المشهد من إشارات إلى عدم وجود نية لأقصاء جميع الأحزاب التونسية سوى حزب النهضة الذي يواجه انخفاضا حادا في شعبيته، بعد الاتهامات التي وجهتها له السلطات التونسية بمحاولة زعزعزة استقرار البلاد والسعي لخلق شرعيتين متنازعتين، خصوصا بعد الجلسة الافتراضية التي عقدها للبرلمان والتي اعتبرتها السلطات التونسية خيانة ومحاولة للانقلاب على الدولة بدعم خارجي.
عقبات الحوار
المعطيات المتوفرة حتى الآن تشير إلى أن الحوار الوطني التونسي المرتقب سيكون مختلفا عن تجارب الحوار السابقة خصوصا الحوار الوطني الذي عقد في 2013 والذي جمع كل الأحزاب الوطنية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات العمالية على مائدة واحدة وانتهى بتوافق وضع خريطة طريق كانت موضع أجماع.
المشهد اليوم يبدو مختلفاً كليا، فغياب بعض الأحزاب السياسية سيقلل من شرعية الحوار ونتائجه خصوصا أن الأحزاب المستبعدة كانت تقود البلاد لعشر سنوات، وإقصاءها الكلي اليوم يُخفي نيات بإقصائها من الاستحقاق الانتخابي المرتقب، وهو الأمر الذي لم يعد سرا بعد تأكيد الرئيس سعيد أنه لن يعود للانتخابات من حاول الانقلاب ومن يحاول العبث بمؤسسات الدولة في إشارة إلى كل النواب الذين شاركوا في الجلسة الافتراضية، ما قد يؤدي إلى اضطرابات سياسية وحملات مقاطعة ستلقي بآثار سلبية على كل الخطوات التي سيترتب عنها الحوار الوطني مستقبلا.
عن أن التونسيين ينتظرون ما ستفسر عنه المشاورات بشأن القوى السياسية التي سيسمح لها بالمشاركة فإن الحديث يتزايد عن مخاطر ستواجه تونس في حال تم إقصاء أحزاب المعارضة وفي مقدمتها عدم القبول بمخرجات الحوار الوطني في ظل الضغوط الدولية التي تطالب الرئيس سعيد بأن يكون المسار الانتقالي تشاركيا دون إقصاء.
يزيد من ذلك تلك العقبات التي تتحدث عنها الأوساط السياسية التونسية، ومنها عدم التوافق حول محاور الحوار، والتباينات العميقة في تشخيص وطرح الحلول اللازمة التي تتجاوز الملف السياسي إلى الاقتصادي والاجتماعي.
وتداعيات قرار الرئيس سعيّد بحل البرلمان لن تكون بعيدة عن مسار الحوار الوطني، خصوصا مع بدء السلطات التونسية إجراءات مساءلة قانونية لمعظم النواب المشاركين في الجلسة الافتراضية، بعد اتهامهم بمحاولة الانقلاب على الدولة ومؤسساتها وعلى الانتخابات المقبلة.
ومن جهة أخرى فإن الرئيس سعيّد ما يزال يميل إلى تكريس النظام الرئاسي في مشروعه للإصلاحات الدستورية والتشريعية، في حين أن المعارضة تعمل بكل قوة من أجل تكريس النظام البرلماني كخيار وحيد لمستقبل التجربة الديموقراطية التونسية، وضمانة لعدم تفكك المؤسسات الديمقراطية وتكريس الحكم الفردي المطلق.
هذه المعطيات وغيرها تُرجح فشل الحوار الوطني بالصيغة التي يريدها الرئيس سعيّد، بما ينطوي على ذلك من تداعيات على غرار تكريس مزيد من الانقسام الذي يهيمن على المشهد التونسي خصوصا مع دعوة العديد من الأطراف الدولية الرئاسة التونسية إلى أن تكون أي إصلاحات قائمة على أساس التشاور مع جميع القوى السياسية بما في ذلك النواب الذين شاركوا في الجلسة الافتراضية والذين يتعرضون حاليا لمحاكمات بتهم الخيانة.
تطورات محتملة
رغم أن البعض رأى في التوجهات المعلنة لإقصاء حزب النهضة من الحوار والانتخابات المقبلة خطوة لتخليص تونس من سيطرة مرحلة حكم حركة النهضة التي دامت عشر سنوات بكل ما فيها من مشكلات وعقبات وإخفاقات، إلا أن هناك مخاوف جدية من أن تقود هذه الخطوة إلى أخرى باتجاه إحكام القبضة على كافة السلطات في البلاد، خصوصا في ظل التوقعات التي تؤكد أن ما يدور الآن من ترتيبات في مسار الحوار والأطراف المشاركة ستقود حتما إلى عرقلة تنظيم الاستفتاء وكذلك تنظيم الانتخابات بعد 9 أشهر وفقا لنص الدستور.
من المعلوم أن تونس واجهت مشكلة كبيرة بعد الإطاحة بنظام الديكتاتور زين العابدين بن علي في صياغة الدستور والقوانين الانتخابية التي تم تفصيلها لتلبي طموحات بعض القوى السياسية بهدف الإمساك بمفاصل الحكم، غير أن إقصاء الأحزاب السياسية التي أبدت خلال السنوات الماضية ميلها نحو الديموقراطية والمجتمع المدني عن المشاركة في إجراءات تمس الدستور والتشريعات السياسية سيفضي إلى مشكلة أكثر فداحة.
ذلك أن الدستور التونسي رغم كل الملاحظات بشأنه، إلا أن أفضل ما فيه أنه جعل الديموقراطية البرلمانية أساسا للحكم، وهي وحدها الكفيلة بحل آفة الطغيان وضمان الحقوق والحريات، وسواها قد يمهد الطريق في المستقبل لإعادة تونس إلى النظام الاستبدادي الفردي الذي عانى منه التونسيون لعقود.
ولا يمكن إغفال مخاوف بعض القوى السياسة من أن الرئيس سعيّد قد نجح في استثمار سخط الشارع التونسي من الفشل والفساد والاقتتال السياسي وسوء الحكم لإضفاء الطابع الرئاسي على السلطة في تونس وهو مسار محفوف بالمخاطر تؤكده العديد من حالات الأزمات الدولية التي انزلقت فيها العديد من الأنظمة إلى حكم استبدادي وصراع أهلي مزمن، بعد تجارب سياسية كان يمكن تطويرها لبناء دول ديموقراطية مستقرة.
ومن المهم الإشارة إلى أن تأييد الشارع التونسي لقيس سعيّد في إجراءاته لتقليص أو إنهاء النفوذ السياسي والبرلماني لحزب النهضة لم يكن يعني تأييدا لكل توجهاته السياسية، فقدر كبير من ذلك التأييد يمكن اعتباره تصفية حسابات مع مكون سياسي يظن التونسيون أنه السبب في تدهور أحواله الاقتصادية.
والمؤكد أن المساس باركان التجربة الديموقراطية الناشئة في تونس لن يحل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها الدولة التونسية لا الآن ولا في المستقبل، بل ستقود إلى تداعيات سياسية قد تذهب بتونس نحو المجهول.