المقالح عبدالكريم
على امتداد التاريخ البشري ، طوَّر الإنسان مهارات عدة وابتكر وسائل مختلفة ، تمكنه من التواصل بيسر مع بني جنسه ، داخل وخارج المنظومة الاجتماعية الواحدة ، وذلك من أجل إلغاء الحواجز البينية بحسب اختلاف الخصائص البيئية، كاللغة وموروث العادات والتقاليد، فكان مؤدى تجاوز العلاقات المشتركة ، التي إن سادها السلم أحيانا ،عكَّرت صفوها الحروب أحايين أخر..!
رسائل مفتوحة
الفن كان أهم ما ابتدعه الإنسان من وسائل وأدوات للتخاطب على مر عصوره الحضارية، وهو اختيار موفق تماما لما يمتاز به من خصائص أهمها :
أنه لا يحتاج لترجمة مضمونه ، فهو خطاب بصري، يقول باختصار ويشرح بأشكاله وألوانه ، يصف بحيادية، معانيه مباشرة وإن جاءت مرمزة ، إلا أن إيجاءاته تختزل معاني لا حصر لها وأحاسيس يصعب تجسيدها في كلمات .
أدوات كهذه مكَّنت الفن – وخصاصة البصري منه تحديداً – على امتلاك قوى تأثيرية فتنت الكثيرين وأولهم الملوك والزعماء ، مروراً بالمثقفين في شتى القطاعات الحياتية – العلمية والعملية ، لذا فإن من وجد في الفن وسيلة خلود تتذكره الأجيال من خلاله ، ثمة من رأى فيه غاية استمتاع سامية بالحياة وما تكتنزه من مسرات ولذائذ ، إضافة لكونه جنة خفية يتسلل الإنسان إلى معزوفاتها الخيالية ، كي يهرب وربما ينسى ما تضخه إليه اليوميات الحياتية من أسى وبؤس ومآسٍ .
وما بين الضفتين ، تقبع فئة صامتة غالبا ، تراقب ما يدور ، بل وحتى تستمتع بكل ما يقال عنها أو عن نتاجاتها الإبداعية، التي خلقت وكانت من أجل الجمهور المتلقي ، الذي ستتفاوت استجابته الجمالية تبعا لعوامل كثر، أبرزها ذائقته الفنية ووعيه الفكري و … إلخ.
لحظة الشرق .. !
انتقاله من قريته ” فيتبسك ” إلى باريس ، جعل الفنان الروسي الأصل مارك شاجال ، يكتشف عوالم فنية جديدة ، كما أن تأمله الواعي لشتى التيارات التشكيلية المبتكرة ، قاده إلى استيعاب كل مظاهرها وتجلياتها ، ما أدى به إلى أن يقدم نفسه إلى العالم عبر الاتجاه التعبيري والذي كان أهم السائد حينها ، لكن مع إضافة طابعه الخاص المرتكز أساسا على السرد القصصي .
إن المغامرة والتجريب والتواصل مع الآخر ، عناصر ذات أهمية قصوى ، حيث أن غيابها – حسب د . آمنه النصيري – يعد تكريساً لعزلة الفنان، بل وحتى (جهله لما يدور حوله وتعميقاً لانطوائه على ذاته ، ولتكراره تجربة محدودة يصل أحيانا إلى درجة استهلاكها) مقامات اللون ص/ 19.
وهو فعلاً ما يمثل جوهر الإبداع ، من حيث( اكتشاف الجديد والمزيد من الحقيقة التي كانت مجهولة ) كما ترى فصيحة العرب الروائية غادة السمان .
ولأن الفن أساساً لا يزدهر إلا حيث توجد (روح المغامرة ) كما نبه إلفرد. ن. وايتهيد ، فإن الفنان لا يملك إلا أن يعيش قلقاً دائما، اعتبره هيدجر : دافع الإبداع الأساسي، وأطلق عليه تسمية خاصة هي ” الضمير الخاص بالفنان “، وحسب رؤية د. آمنه النصيري ، فإن ( هذا الضمير يستحيل إلى إرادة شديدة الفردية ) وهو ما شدد عليه هيدجر، معتبراً أن حرية الفنان – كما تضيف د. آمنه النصيري – يجب أن تتجاوز كل أشكال السلطة وجميع القوانين ، لأن الفنان كي يخلق إبداعا لأبد أن تكون حريته غير مشروطة ) ص / 266.
ولعل قواعد ومعايير كهذه، وغيرها الكثير، هي ما جعل “الشرق” أحد أهم مواضيع الفن البصري العالمي في عصرنا الحديث ، وما منذ عصر النهضة الأوروبية، ليمتد ويتسع ويزداد وضوحاً وثراء في القرن التاسع عشر الميلادي ، بفعل كوكبة متنوعة من فناني أوروبا والعالم ، وعلى كثرة العوامل المحفزة وتفاوت اتجاهاتها : بيئي – ثقافي – تاريخي – سياسي – ..إلخ، إلا أن أهمها وعلى رأسها كان الفنان البصري نفسه، التشكيلي أولا والفوتوغرافي تاليا، والذي وجد نفسه أسيراً لدوامات تمور على أرض الواقع: الاستعمار كأزمة رأسمالية وما نتج عنه من حلول متهورة مثل (البحث عن أراضٍ وأسواق ووسائل إنتاج ومواد وموارد جديدة، من أجل الأجيال الغربية المتأخرة المطالبة “بحقوقها الليبرالية”، ومن أجل “مغالبة” زحمة تطوره التكنولوجي المتسارع والمخيف بعد الثورة الصناعية) – كما يخبرنا بذلك د. ناصر أحمد- وهو ما انعكس على الحركة الفنية في أوروبا عامة وفي فرنسا خاصة، وجعلها تعاني من “أزمة حادة” تجلت في مظهرين اثنين حددهما د. ناصر أحمد كالتالي:
1 – خيبة الأمل من تحقيق الأفكار الجمالية والفنية التي نادت بها الثورة الفرنسية).
2 – الموضوعات الفنية ، والتي (أصابها “فقراً شديداً” وتكراراً مملاً، و”أدلجة/ واحتواء سياسياً” فلم يتبق أمام فنانيه سوى البحث عن حلول لتلك “الأزمة” المركبة).
وهو ما قاد إلى النتيجة الحتمية النهائية والأكيدة، المتمثلة بتجريب الجديد من الموضوعات والاتجاهات، فكان الأقرب والأجدى والأكثر إثارة لغرائز الفنانين الإبداعية هو الشرق العربي، والذي وجدوا فيه “انفتاحا” – كما يرى د. ناصر أحمد – (على موضوعات) مواد غنية “غرائبية/ نادرة” لفنهم وإبداعهم (والغرابة والندرة من مقومات الجمال)، كما وجدوا في سحر الشرق المفعم بالحكايا والأساطير والغموض المثير، نبعا تموج به الحياة وتتجدد، وتستشرف من خلاله الروح، قيما فنية – إنسانية – ثقافية زاخرة متجددة، هكذا تحول المشرق إلى وحي وملهم لعدد كبير من الفنانين الغربيين، فرصدوا جملة هذه المظاهر بلغة فنية رصينة متقنة تذكرنا بالمعلمين الكبار من الفنانين التشكيليين الذين وصلوا في فنهم إلى تقنية عالية في تصوير الواقع وصلت إلى حد الإبهار المدهش والمثير، وحملت الرومانسية بذور هذا الانفتاح على العوالم الأخرى.