ارتباط ذكرى مولد المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحياة الإنسان اليمني لم يكن لمجرد أنها مناسبة تحتل مكانة مقدسة في قلب كل يمني فحسب، بل لقد أحدث ما جاء به رسول الله -من قيم دينية وأخلاقية- تأثيرا كبيرا في وجدان وضمير الإنسان وانطباعا روحانيا منقطع النظير ومتصلاً بالهوية الإيمانية، بل إن إحياء المولد النبوي قد مثل في ضمير الموروث الشعبي المتوارث عبر الأجيال وجدان الإنسان اليمني، لاسيما وقد أنتج إرثاً ثقافياً وفنياً كبيراً من القصائد والموالد والأناشيد النبوية.
في هذا التقرير نحاول التعرف على بعض من مظاهر وطقوس هذا الموروث، فإلى الحصيلة:
الثورة / يحيى الربيعي
تتنوع طقوس الفرح والاحتفاء بذكرى المولد الشريف من منطقة يمنية إلى أخرى، ففي تهامة ذكرى المولد متوارثة تشد الناس إلى الألفة والتسامح وصيام يوم 11 ربيع، وطهي اللحوم في وجبة العشاء، وتستمر المجالس إلى ما قبيل فجر الـ 12 من رييع، وتمجد ليلة الـ 12 من ربيع الأول عند أبناء تهامة بعيد «ليلة النور»، كونها فرصة يلتقي فيها أبناء القرى في تهامة على هيئة مجاميع تحتشد في مجالس ليلية جماعية لتلاوة القرآن وذكر سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وتمتزج بهجة المولد النبوي ببساطة أهالي تهامة حين تبدأ بهجة الناس مع شروق شمس صباح هذا اليوم الأغر بإفطار جماعي، ثم يستمر أبناء القرية حتى قرب وقت الظهيرة يرددون الأذكار والأناشيد والمدائح والمقامات الدينية المتنوعة التي تتناول المعجزات التي اكتنفت مسيرة حياته صلى الله عليه وآله وسلم.
وتزداد سريرتهم نقاء وصفاء وهم ينفقون المال لإقامة «المائدة التهامية» وحلوى «الخاجلة» كي تكون مناسبة اجتماعية يعزز فيها الأهالي قيم التسامح والألفة والتعايش، وسمو ورفعة الدين الإسلامي حين يحتفل الغالبية بالمولد كيوم عيد لا يقل في ميزان فرحتهم أهمية عن عيد الفطر أو الأضحى، فالمحال التجارية تغلق أبوابها والأطفال يلبسون الجديد.
وتعد مدينة زبيد في محافظة الحديدة معلماً كبيراً لإحياء مناسبة المولد النبوي الشريف على مدى عقود طويلة، حيث تتميز مدينة زبيد بإنتاجها أهم وأشهر الموالد والأناشيد والقصائد في مدح الرسول الأكرم حتى أصبحت تراثاً شعبياً متعارفاً عليه في جميع أنحاء البلاد.
الشبواني والزربادي
غالبية أبناء هذه البلدة الطيبة اعتبروا مناسبة «المولد النبوي» فرصة للم شمل الأسر اليمنية، إذ تتم زيارة الأقارب، ومعاودة الأرحام، كما تمتاز المناطق اليمنية الأخرى بتنافسية روحانية في تعدد طقوس الاحتفاء بالمناسبة، قفي محافظة حضرموت لا تقتصر الاحتفالات على المقامات الدينية في تجمعات محصورة المكان أو على فئات عمرية معينة فحسب، وإنما تمتد إلى الساحات العامة، حيث يؤدي الكبار والشباب والنساء والاطفال عدداً من الرقصات الشعبية كـ «الشبواني، والزف والزربادي»، يتخللها ترديد أهازيج ومدائح محمدية في أجواء فرائحيه تفوح بروائح البخور الحضرمي الأصيل وتدعو إلى المحبة والألفة بين أبناء المجتمع.
وفي تريم تستمر الاحتفالات على ذات النسق حتى الأسبوع الأخير من شهر ربيع الأول، حيث تتم قراءة الموالد والأناشيد المعبِّرة عن المناسبة في مسجد الفتح في وقت الفجر، ومسجد الحبيب عبد الله بن شيخ العيدروس بحارة السحيل في وقت العصر، وفي آخر جمعة من الشهر ينتقل المحتفلون إلى مسجد الإمام السقاف، ومن ثم إلى مدرسة أبي مريّم لتحفيظ القرآن الكريم، ثم إلى قبة الإمام العيدروس في التربة آخر يوم اثنين، وبعد ظهر نفس اليوم في مصلى أهل الكساء بدار المصطفى، وفي نفس اليوم بعد صلاة العشاء يتم إقامة الزف السنوي في الساحة الشرقية بدار المصطفى، حيث يشارك شباب من كل حارات تريم بزف معين تعبيراً عن فرحتهم بالمولد النبوي الشريف.
ميلاد وتاريخ
لقد عرفت معظم القرى اليمنية طقوساً وعادات احتفائية بالمولد النبوي، حيث كانوا يعملون على إحياء المولد أثناء جلسات القات فيقومون بالإنشاد وترديد أبيات شعرية بألحان مختلفة بحسب عادات المنطقة أو المدينة، فأهالي مديرية شرعب السلام/ تعز، مثلا، كانوا ينتظرون بشغف مناسبة مولد الرسول الأعظم كل عام للاحتفاء به، وذلك لإلقاء القصائد التي تنشد على وقع الدف، وتزين المساجد وتنظم زيارات إلى أضرحة الأولياء، ثم بعد ذلك يقام سمر لتلاوة القرآن وإلقاء الأحاديث ليلة الـ12 من ربيع الأول.
أما في منطقة يفرس جبل حبشي/ تعز، فقد كان المشائخ يقيمون كل عام احتفالاً كبيراً بالمولد النبوي، حيث يتوافدون من مختلف القرى إلى المنطقة ويقيمون فيها وليمة كبيرة يوزعونها على الفقراء والمساكين. ويتم خلال الفعالية -التي تستمر أسبوعاً كاملا قبل وبعد مولد الرسول- قراءة القصائد الخاصة بالمناسبة.
وفي مناطق من اليمن السعيد كذمار وإب وتعز تتنوع الطقوس الروحانية، فبالإضافة إلى مجالس الذكر تنظم قصائد المديح في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد يمتد المولد النبوي بترديد أناشيد التزكية والترحيب إلى ما بعد منتصف الليل، بل لقد ارتبطت ذكرى المولد النبوي بذاكرة من تصادف المناسبة ولادة طفل له أو زواج أو ذكرى غالية، إذ ترى البعض يؤرخ تلك الذكريات بعبارات (قبل المولد، بعد المولد).
ماء الورد
مدينة صنعاء القديمة امتازت هي الأخرى بطقوس وعادات لإحياء المولد النبوي، وقد جرت العادة أن يبدأ الاحتفاء بمولد الحبيب المصطفى من بعد صلاة مغرب ليلة المولد، حيث يجتمع الجيران وأهل الحارة في جامع من جوامع الحي أو في ساحة أو منزل واسع، ويقوم خطيب الجامع بالصلاة على الرسول وآله وعلى أصحابه وسرد جوانب من سيرة رسول الله- مولده ونشأته وحياته وأخلاقه وصفاته- مع ترديد الحاضرين الصلاة على النبي، يليه أحد المنشدين بالإنشاد ويتولى الاطفال رش ماء الورد على الحضور، وهم يرددون الأناشيد بعد المنشد، وكانت المنازل وأماكن الاحتفال تبخر بالعودة من ساعتين إلى ثلاث ساعات متتالية. وكذلك هو حال النساء يجتمعن ويقمن بعمل مولد نبوي، بالإضافة إلى إعداد الحلويات وتزيين المنازل باللون الأبيض ناهيك عن إعداد الطعام وتوزيعه على الفقراء والمساكين كل في حيّه الذي يقيم فيه .
أبرز الطقوس
تعتبر محافظة صعدة من أبرز المحافظات اليمنية إحياءً لذكرى مولد الرسول عبر القرون السابقة، إذ تقام مراسم الاحتفال بالمولد النبوي فيها طيلة أيام شهر ربيع الأول، حيث يقوم مشائخ وأعلام المحافظة بتجهيز ولائم عشاء كبيرة في مركز المدينة.
ويعد جامع الإمام الهادي أحد أبرز الأماكن التي يقام فيها الاحتفال، حيث تتم قراءة سيرة الرسول كل ليلة من ليالي شهر ربيع الأول، ويلقي الكثير من الشعراء قصائد في مدح رسول الله.
هذه كانت هي حياة الإنسان اليمني بسيطة وخالية من التكلف والتصنع إلى أن غزتها تلك المفاهيم المضللة التي ترى في الاحتفال بالمولد النبوي «بدعة»، والتي تمكنت في غفلة من الزمن من أن تستغل حب اليمنيين للدين، وارتباطهم بتعاليمه بشكل وثيق، فحاولت بمغالطات نسبتها إلى الدين أن تبعد الناس عن الاحتفاء بمولد خير خلق الله، ليس هذا وحسب، وانما صرفت البعض إلى تمجيد النقائض من الاحتفالات الدنيوية.