لا تُقاس الأمم بكثرة شعاراتها ولا بحجم جيوشها، بل بصدقها مع الله، وبمواقفها حين يُدعى أهلها إلى نصرة الحق.
وفي كتاب الله سنّة ربانية ثابتة لا تتأخر إذا حلّ وقتها، ولا تتخلف عن مقتضاها .. ألا وهي سُنّة ( الاستبدال) حين يسقط المتخاذلون عن نصرة الحق فيأتي الله بغيرهم .
نعم .. سُنَّةُ الاستبدال الإلهي هي تلك اللحظة التي يُقصي الله فيها المتخاذلين عن مواقع الشرف، ويستبدل بهم من هو أصدق وعدا وإيماناً وأشد وفاءً وأقوى ثباتا.
وقد جمع القرآن ثلاثة مؤشرات كبرى على أن أمة ما تقترب من لحظة الاستبدال … الردة عن الدين ومقاصده، عدم النفير في سبيل الله، وعدم الإنفاق في سبيل الله، وسنتوقف عند كل مؤشر كما جاء في ثلاث آيات عظيمة.
المؤشر الأول: الردة عن الدين ومقاصده :
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، الردة هنا ليست مجرد إنكار للعقيدة، بل هي أيضًا ردة عن مقاصد الدين الكبرى … الردة عن فريضة الجهاد، عن نصرة المستضعفين، عن الولاء للأمة ، عن مواجهة العدو الصائل.
وإذا نظرنا إلى واقع كثير من الأنظمة العربية اليوم لوجدنا أوضح صور هذه الردة … تحالف مع أعداء الأمة .. تطبيع مع المحتل الغاصب .. تجريم للمقاومة ووصمها بالإرهاب .. تقديم دعم مالي وسياسي لقتلة المسلمين بدلا عن دعم ضحاياهم.
لكن الله غني عن هؤلاء: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ… يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .. إنه وعد بالاستبدال بقوم لا تحكمهم قيود السياسة ولا يخافون في الله لومة لائم من أي أرض أو نسب كانوا.
المؤشر الثاني: عدم النفير في سبيل الله:-
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ …… إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 38 – 39]، هذا هو مرض التثاقل حين يُدعى الناس إلى نصرة الحق فيُفضلون الراحة والترف والأمن الزائف على التضحية والفداء.
وهل حال حكومات العرب اليوم إلا صورة صارخة لهذا التثاقل؟
غزة تُذبح، أطفالها ونساؤها تحت القصف .. والمسجد الأقصى يصرخ .. ومع ذلك، الجيوش محبوسة خلف الأسوار .. والحدود مغلقة في وجه الملهوفين .. والقرارات الكبرى تُتخذ في سفارات أجنبية لا في العواصم العربية ..
ثم يأتينا التحذير الإلهي الصريح: {إِلَّا تَنفِرُوا يعذبكم عذابا أليما وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} .. إنها رسالة قاطعة .. من لا ينفر سيُقصى من الصف ، والعزّة ستذهب لغيره.
المؤشر الثالث: عدم الإنفاق في سبيل الله :-
قال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ….. وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
غزة اليوم لا تطلب جيوشا، فهي تعلم أنها مصادرة الإرادة ، لكنها تطلب حقها في التمويل ، في فك الحصار، في إيصال الغذاء والدواء والسلاح.
لكن حتى هذا الحق البسيط حُورب .. أُوقفت التبرعات … حملات إغاثة جُرّمت … من حاول الدعم اعتُقل أو حوصر.
إنه البخل في أخطر صوره… بخل عن نصرة الحق، وهو في الحقيقة بخل عن النفس: {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه} … ومن يتولّ عن هذا الواجب، فإن الله يستبدل به قوما آخرين، كما وعد : {ثم لا يكونوا أمثالكم}… أي أنهم سيكونون أصدق وأوفى وأسرع إلى التضحية.
والواقع أن مؤشرات الاستبدال قد بدأت … هذه المؤشرات الثلاثة — الردة، وعدم النفير، وعدم الإنفاق — نراها اليوم ماثلة في خذلان غزة .. خيانة علنية من أنظمة عربية .. فتح أبواب التطبيع في أوج المجازر .. تمويل العدو بدل دعم الضحية .. تشويه المقاومة وتسميتها بالإرهاب .. منع التبرعات وتجريم جمع المال لفلسطين.
والنتيجة بدأت تظهر في ضياع البركة، وفقدان الكرامة، وانتشار الفوضى وشلل الإرادة الجماعية للأمة.
لكن يبقى الأمل في القوم الذين يحبهم الله ويحبونه .. فبالرغم من هذا السواد، يبقى هناك رجال ونساء صدقوا العهد .
في اليمن .. في غزة .. على الحدود وفي الأنفاق، في الإعلام المقاوم، في معامل السلاح، وفي كل من رفض بيع فلسطين.
إنه قانون رباني، ومشاهده تتجلى أمام أعيننا اليوم .. من خذل غزة ، خذله الله، ومن نصرها نصره الله، ومن تقاعس أزاحه الله من الميدان ولو بعد حين …. {وَاللَّهُ غَنِيٌّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ}…