هل كان من المصادفات التاريخية أن يرتبط يوم العاشر من المحرم بحدثين على طرفي نقيض ؟ حدث ديني عقائدي- كما تقول الروايات الدينية , وحدث ثوري مناهض للظلم والطغيان والجبروت- كما تتحدث كتب الأخبار والتاريخ .
تصوم اليهود يوم عاشوراء وتقول أنه يوم مبارك نجى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من بطش فرعون وملئه , وتحدثت بعض الروايات أن قريشاً كانت تصوم يوم عاشوراء , ويرى أهل السنة من المسلمين وجوب صيام يوم عاشوراء وبعضهم يرى ندوب ذلك , في حين تحول هذا اليوم إلى يوم حزن وندب وعزاء عند الشيعة في العراق وإيران وبعض الديار الإسلامية بسبب استشهاد الحسين- عليه السلام، في هذا اليوم .
وفي الثقافة الشعبية تحول هذا اليوم إلى حالة وجدانية ذات بعد عقائدي، فبعض الشعوب العربية مثل المغرب العربي يسمون يوم عاشوراء بيوم زمزم , وفي عاشوراء من كل عام يقومون برش الماء على بعضهم بعضاً وعلى مقتنياتهم تبركاً ويحاول التجار بيع كل بضائعهم , ويعقب ذلك ” ليلة الشعالة “حيث يجتمع الناس حول نار وهم يرددون الأهازيج التي تحكي قصة الحسين عليه السلام والحسن عليه السلام وتتعالى الأصوات بالنواح والعويل , وفي هذا اليوم تُخرج الأسر عُشر أموالها للفقراء والمساكين .
وفي العراق تقام مجالس العزاء وتتحرك المواكب الحسينية ويبالغون في النواح والبكاء وفي اللطم وشق الجيوب وجرح الأجساد بآلة حادة حتى تسيل الدماء , ويكاد كل بيت عراقي أن تقام فيه مراسم عزاء وحزن وتذكر لحادثة الطف بأرض كربلاء , وقد اتسع التصور الشعبي في جل تفاعلاته آخذاً بعداً عقائدياً عند الكثير من الفرق , وفي التصورات الشعبية العراقية وفي غير العراق .
وفي التصور الثقافي الديني ارتبط عاشوراء بالتحرر من جبروت وطغيان الظالمين ولذلك كانت قداسته بفرض صيامه عند اليهود والنصارى ولم يجد الرسول الأكرم غضاضة بعد أن عرف سبب قداسة عاشوراء عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى من فرض صيامه بقوله : نحن أحق منهم بموسى .
فالثورة على الظلم هي الرابط العضوي , ولذلك حين امتدت ثورة الإمام الحسين على الظلم في زمن يزيد بن معاوية ومعاونيه من قريش وآل زياد لم تكن إلا امتداداً طبيعياً تحقيقاً لمقاصد الله في الأرض , وتلك المقاصد تنحصر في رفض الظلم والطغيان والثورة عليه , فالظلم بين البشر حالة غير طبيعية ولذلك أصبحت الثورة عليه تشريعاً سماوياً يمتد منذ ثورة موسى على فرعون وظلمه إلى ثورة النبي الأكرم على ظلم قريش للمستضعفين وجاءت كربلاء لتقول أن الثورة تمتد في آل بيت رسول الله رفضا للظلم والطغيان كناموس سماوي وقد دلت متواليات التاريخ ووقائعه على أن هذا الناموس ظل ديدن آل البيت منذ ثورة الحسين بكربلاء إلى ثورة حسين عصرنا في مران بصعدة .
كل أحداث التاريخ العربي ووقائعه لم تتحدث عن ثورة في غير آل البيت , تحدث عن جماعات وفرق كانت تبحث عن سلطان وأمجاد لكنه لم يتحدث عن ثورات حملت هموم الفقراء ودفعت ظلم الطغاة وقارعتهم بالكلمة والحق وبالسيف كما هو ثابت ذلك عن آل البيت عليهم السلام , فما خرج منهم أحد على سلطان, أو وال ,إلا دفعا لظلم, ورفضا لجور, أو محاربة لفساد ثقافي أو أخلاقي لا يتسق مع مقاصد الإسلام , أو بحثاً عن عدل , حتى دولة بني العباس لم تسلم من ثورات الطالبيين الذين حملوا هموم الناس وامتدت فيهم الثورات على الظلم والطغيان .
كان الحسين- عليه السلام- نموذجاً ثورياً فريداً في الصبر والثبات ومقارعة الظالمين لذلك كان دمه نهراً متدفقاً يروي ظمأ الباحثين عن العدل في كل حقب التاريخ , فكانت ثورته وكربلاؤه حالة ملهمة، ليس للعرب والمسلمين فقط بل لكل البشرية , والكثير من عظماء العالم الذين ثاروا على الظلم كان الحسين عليه السلام ملهماً لهم في ثوراتهم التحولية التي أحدثت انحرافا في مسار مجتمعاتهم .
ومنذ ثار الحسين عليه السلام على يزيد بن معاوية سنة 60هجرية إلى اليوم الذي نحن فيه لا تزال ثورته مستمرة بصور وأشكال شتى، سواء في المعتقد الثقافي أو في الصورة النمطية التي نجدها في الثقافة الشعبية , فإشعال العامة للنار في المغرب له رمزية ثورية متجددة تشعل براكين الغضب في النفوس على الطغاة والظالمين , ورمزية إخراج الزكاة في مثل هذا اليوم ومواساة الفقراء بها أيضا يحمل رمزية العدالة الاجتماعية والمساواة , والاحتفالات والمواكب والحسينيات في العراق وايران وبعض الدول الأخرى لها رمزيات ثورية، فهي من خلال خاصية الألم والتذكر والتجميع للوقائع والأحداث تعزز من العوامل النفسية والثقافية الرافضة للظلم والطغيان، وتبعاً لذلك نقول إن ثورة الحسين عليه السلام لم تنهزم كما تخيل طغاة زمنه بل انتصرت من خلال استمرار جذوتها في الاشتعال في كل زمان وفي كل مكان، فهي منذ القرن الهجري الأول إلى اليوم دائمة التجدد والاشتعال وكأنها شجرة مثمرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها , وقد قضت حكمة الله ذلك دفعاً للظلم والفساد في الأرض , وتجدداً دائماً للحياة .