سكان القرية يهتمون بتربية الماشية والزراعة لا تزال مصدر اكتفاء

معالمها شواهد تاريخية لا تزال تنبض بالحياة في وجدان إنسانها:قرية حمل.. منتجع سياحي يتمتع بدوام الخضرة والمناخ النقي

أشجار العنبرود والجوز واللوز والبرقوق في القرية تحتاج إلى زيارة فنية من (الزراعة)

اليمن عُرفت فيما بين سطور كتب التاريخ أنها مهد الحضارات، وثورة التراث الإنساني، قامت على أرضها العديد من الحضارات كالحميرية والسبئية ومعين وقتبان، وامتزجت بثقافات متعددة، كل بقعة من الأرض اليمنية تختزن في جوفها علامات بارزة لحضارة قامت عليها أو مرت بها أو تأثرت بها.
اليمن أم حاضنة بكور معالم الوجود الإنساني، والزراعة معلم من المعالم التي ترسخت بجذور تمتد إلى أعماق التاريخ الإنساني، حيث ارتبط تاريخ الإنسان اليمني بالأرض منذ الوهلة الأولى لوجوده في سهولها والوديان وفي أعالي جبالها وبين قيعانها وعلى هضابها، حيث وجد الإنسان اليمني كانت الزراعة رفيقه الملازم وديدنه الذي لا يتوقف على مدار فصول العام.
إلى عمق التاريخ ومرورا بمنطقة أرتل جنوب أمانة العاصمة صنعاء توغلنا نحو قرية حمل، القرية الأثرية التي طوت في سجل تاريخها العديد من الذكريات والمآثر التاريخية والحضارية وعلامات الوجود العمراني ومعالم الزراعة والعادات والتقاليد، وتبعد عن العاصمة صنعاء بحوالي 15 كيلو متراً، ويسكنها حوالي 976 نسمة في تعداد 2004م، وتتبع إداريا عزلة الربع الغربي مديرية سنحان محافظة صنعاء.
وهناك في قرية حمل كانت لـ “الثورة” الصحيفة جلسة دردشة مع نخبة من الرعيل الأول والذين امتعونا بحديث شيق عن جوانب ما كانت عليه حياتهم، وكيف هي الآن من وجهة نظرهم، فإلى الحصيلة:
الثورة / يحيى الربيعي

القرية تحيط بها الطبيعة الزاهية بأشجار العنبرود، والجوز، واللوز، والبرقوق، والفرسك والرمان والسفرجل، فضلاً عن جرب الزراعة تتأطر في مربعات حسب المحاصيل بلا عدد على مد البصر وفي كل الاتجاهات، لا يزال إنسانها يحافظ على قيمتها التاريخية كما هي، ويأتي إليها الزوار من كل أطراف العاصمة صنعاء ليقضوا ساعات من المتعة مع المناخ الريفي الصافي والبعيد عن كل مظاهر الزحف العمراني.
لِمَ لا تكون حمل كذلك، وهي من سميت بحمل لأنها كثيرة الأحمال بثمار الفاكهة والذرة والخضروات والبقوليات من كل حبة، لِمَ لا، والعدس “البلسن” والدخن والذرة الشامية والدجرة والحَبّ العزيز، كل ما تشتهي نفس الإنسان يزرع في وادي حمل وفي وديانها.
وفي حمل للتاريخ مسارات متعددة لا يتسع المقام لذكرها جميعا، ونكتفي بالتعريض على مسجد أثري تقول الروايات أنه بني منذ مئات السنين، وتم تجديد بنائه على نفقة أهل قرية حمل في العام 1337هـ، وشقت قناة من عين تقع في أعلى أحد جبال حمل بطول 300 متر في الصخر، وتصب المياه إلى داخل هذا الجامع بنقاوة تفوق جودة المياه المعدنية.

بركات الثمار
في حمل عاش الناس ولايزال الكثير منهم حياة الرعوية.. ورعوي زمان، كما يروي لنا الحاج المعمر علي بن أحمد عبدالله الحملي: كان دولة لحاله، كنا نبدأ يومنا من قبل صلاة الفجر بالاستغفار والتهجد، فصلاة الفجر وساعتين تلاوة قرآن، ومن الجامع طلقة إلى الشّعِب والأودية، منهم من رعى الغنم في الحبال ومنهم من يبتل بالأبل والبقر والحمير في الوادي من بعد الفجر إلى وقت الظهيرة، يأتي الغداء للرعوي والشقاة ومن يرعى الغنم إلى محله على رؤوس النساء.
ويواصل الحديث: المياه تتدفق من أعلى الجبال من مصادر العيون وتصب في الوديان على مدار العام، تغذيها مياه الأمطار، ومن قلوب الناس تتفجر أنهار الإيمان والأخوة والصفاء والنوايا الحسنة، فلم يكن يغير الله على الناس حالْ.
وقبيل الخريف كان الناس تذري صقلة البر البلدي والشعير، والذرة الرفيعة بأنواعها الحمراء والصفراء والبيضاء والذرة الشامية (الرومي) وكانت الأرض على الخريف ما ترد رعوي خائب أبدا، من شقي لقي، ومن رقد لعذر شل جيران صيفه جايش وعانه، وهو يقضي في عذر غيره، ما كان يرقد عن ماله إلا عاق والديه والمدبر، وقليل ما تجد من هذه السلوكيات، فلم يكن الناس يتركوه في حاله أبدا، كل واحد يقرّح كلمة هكذا وهكذا لما يعتدل حاله، وفزعوا معهم جيد من يعلمه كل يفعل هذه، وآخرون يشغبوا معه تشجيع وتحفيز لما يتمرس المهنة وتتشرب في عروقه يترك له حاله، ونادرا ما تجد مدبر خالص، وهذا كان يسمى بعرف القبيلة “سفيه”، كان الرعية يعطوه من مال الله كسوته وأكله مقابل أن يوظف جهده فيما أمر الله.
موسم الزراعة يكاد لا يتوقف في قرية حمل على مدار العام لما تجود به عيونها من تدفق طوال العام، فما يكاد المزارع يحصد ثمرة وإلا في يده بذرة أخرى.. لذا، فالقرية، كما يفيد سكانها- تزرع من كل ما يخطر على بال إنسان من الخضروات وأنواع الحبوب والبقوليات والعدس والبلسن والدجرة وحب العزيز.
تشتهر القرية بزراعة أشجار الفواكه المعمرة التي يتراوح عمر الشجرة ما بين 300 – 400 سنة، ومنها ما يزرعه الآباء ويحصد ثمره الأبناء، فالعنبرود والجوز لا يثمر شجره إلا بعد عمر الخامسة عشر، كما تشتهر القرية بزراعة البرقوق والفرسك واللوز والسفرجل إلا بعض هذه الفواكه اختفى كالسفرجل،
من بركات هذه الأشجار ما يرويه لنا المواطن محمد الحملي أحد سكان القرية الذي يؤكد أن بعض الأسر في هذه القرية لا تملك سوى شجرتين جوز ومثلها عنبرود، وبعض من الأغنام إلا أن هذا العدد من الأشجار يعطي هذه الأسر ثمارا من قيمتها تستطيع أن تعيش عاما كاملا، فشجرة اللوز الواحدة على سبيل المثال تحمل في أحسن خيرها بما قيمته 400 – 500 ألف ريال سنويا.

الثروة الحيوانية
أما عن الثروة الحيوانية في القرية فيحدثنا الحاج حمود محمد الحملي أن خير الله كان يجود بما كانت تجود به نفوس الناس من الرحمة والتآخي فيما بينهم، فكان الراعي كما قال الحاج علي يبكر مستضئ بنور الله، فقد استغفر الله وأدى الصلاة وتلى القرآن، وما يرجع إلا مع غروب الشمس، الصبوح معه، والغذاء تلحقه أخته وإلا الزوجة، والماء من أقرب عين شرابه ومنها وضوؤه وشراب الأغنام والشاه.
الحليب خير كثير، والسمن كذلك، والزبادي (الريبة) منها، لا بنت ولا قمرية من الشحوم، ولا زبادي مصنّع من البودرة.. نشرب الحليب طازج من ضرع الماشية، الرجال والنساء والابناء والبنات كل له دور في مشغل الحياة، الأسرة هي تصلح الغذاء وتربي العيال وبناتها يساعدنها، والأبن يأخذ الأغنام والشاه إلى المراعي، وهو ومن كبر منهم يبكر يبتل الأرض ويسوي المساقي ويعرم الجرب.. هي تلحق بالغداء، وتعلف للأبقار ومعاً يعودان إلى المنزل لتبيت الأغنام والشاه بعد المرعى، ويطرحا للأبقار.. وفي المذاري هو يحرث وهي بالذري بعده، هكذا المرأة شريكة فعلية للرجل في كل تفاصيل الحياة الريفية.
الناس في القرية الكل يأكل من عرق جبينه، ومن خيرات أرضه، ويشرب من ضرع ماشيته حليبه، ويصبغ من سمنها لقمته، ومنها لحومها يأكلون وجلودها وأوبارها كان يصنع منها الرعوي خُرْجَ حماره، وجِرْم البرد، وقرع ومسبّات لحفظ الأدوات (مثلما تقول الشنيط اليوم).
المهم الرعوي موظف مع الله بكفايته ولا يحتاج من السوق إلا ما هو حديد وإلا قاز وملح، ونبات البعض كان يشتريه، وإلا بن بلدي من منتجات قرى يمنية أخرى، ما نعرف المستورد أبدا.. حتى الملابس كان الناس يصنعونها هنا في اليمن فتل وخياط يدوي، ولا يزال البعض يتفاخر بالفوط البيضاني واللحجي والتهامي وغيرها من المنسوجات.
وعن الأمراض النباتية والحيوانية التي كانت تصيب المحاصيل والثروة الحيوانية في زمان هذه النخبة من الآباء الأفاضل يواصل الحديث الحاج حمود قائلا بلهجته كما هي: “عندما يحصل اختناق في الشاه نتيجة الرعي الزائد، نرفع يدها إلى رقبتها، وهي تبخر، وعندما يجي لها صٌراع نشل أي شيء مثل الصلصلة ونحميه فوق الموقد حتى يحمر، ونكوي لها في الجبهة خفيف يذهب عنها الصٌراع. ما كان يجي للقراش مرض من حق هذه الأيام أبدا، مرة أذكر في حياتي جاء الطاعون.
والحديث لايزال للحج حمود: “الماشية كانت تشرب من الغيل مياه صافية، عليها حراسة مشددة ما تشرب مياه راكدة أو ملوثة مطلقا.. وفي أيام الخير، عندما يأتي المراعي كثير، كنا نعطي الماشية ملح من أجل تأكل كثير ثم نحرسها حتى لا تشرب ماء مطلقا بعد الملح مباشرة، لأنها ستموت مباشرة، وكنا نسقيها وقت الظهيرة بعد ما ترعي وتشبع وتعود عاطشة، وهذه الطريقة تفيد في تسمين الماشية وتزيد من ضرعها”.

مواسم اللقاح
ويواصل: “إذا شربت القارشة من المياه الملوثة أيامنا كان يجي لنا “طلب”، وما كان يظهر هذا المرض إلا حينما تجي التسع “الصواب”، ما عاد بش ما تأكل، وعندما تضرع الحيد، المرض يبين أكثر في الشاه التي قد تضررت قوي، تضعف قواها ما تقدر الجبل أولا، وأول ما تبدأ ترتعي تموت”.
أما الحاج حمود علي الحملي فيضيف: “عندما يلقحوا الغنم، ما يلقحوا لهن إلا مع “حصاد الرومي”، ما هو مثل هذه الأيام، فوقه فوقه.. وحين يجي مطر السبع، أينما حلت السبع حليت، إن تمطر التسع والسبع ماشي، فلتنزل سكاكين؛ إذا ما رحم الباري الماشية بالمطر حد السكاكين.. وإن ربك رحم، فجهز أمورك، الشاه قد هن جاهزات للوضع، عندها يلدن، وهنا نترك لأولادهن الحليب ثلاث أشهر، تأتي والدسم على ظهورهن، علامة على أن أجسامهن راوية حليب، أما إذا أخذ عليهن الحليب يأتين ضعاف وهزيلات مثل شاة هذه الأيام التي فقد الناس فيها أصول الرعي والزراعة، كل واحد يفعل الشيء من رأسه”.

العناية بالتربة
عل أيامنا كنا نفعل قصبة من الذرة، وبعدها نشغب في المال طوال السنة، اشغب، حر، اقلب يابس وأخضر، وسبسب وأنظم أعرم الجرب، فما تجي الرحمة، وقدك مسبسب منظوم، وما بعدها إلا تسير تطوف، وقد الزرع مسبل. وبعدها نصيف المال الغيل على حال، والعقر على حال.. المال كان يثمر ثمرة خيرة، نطرح مؤنة السنة، ونخزن في مدافن الجبال، وفي مخازن البيوت، ويأكل الضعيف والفقير من فضل الله.
الآن، ما شاء الله كان، الواحد منهم يبحث عن حق القات فقط، وأيش الغداء يا أمه، وايش العشاء يا مرة، مكيفين ويسدوها بعودي، ومع ذلك يحصدوا على قدر ما يقدموا لهذه الأرض من رعاية.. يحرثوا مطلع منزل، والأرض تدي ما جاء منها.. لم يعد الخير هو ذلك الخير، ولا سريان الغيل كما كان.

ثمن الإهمال
الأشجار من العنبرود والجوز واللوز والبرقوق تصاب الآن بآفات لم تكن فيها من قبل بسبب نقص الرعاية، خاصة منها تلك التي تقع في مجري الوادي هي تحتاج إلى عناية خاصة فالسيل يحمل تربة صلبة من أعلى الجبال، وصاحب الشجرة لابد يتابع هذه التربة ويعمل على خلطها برمل ورماد وتربة صالحة ويقلبها مرة ومرتين وثلاث لما تصير تربة تسمح بمرور المياه من خلالها إلى جذوع الشجر وإلا مع الوقت تموت، وكم قد ماتت من الأشجار بسبب هذا الإهمال.
أما نصيحة نخبة الآباء فتختصر في” ضرورة أن يفكر الأبناء في العودة إلى أمجاد الآباء والأجداد التي لم تكن إلا حينما اهتموا بالأرض واعطوها حقها من الرعاية والعناية، وقبل ذلك صفت قلوبهم من الأحقاد والضغائن وكانوا عباد الله أخوانا، أدوا حق الباري من معرفته حق المعرفة ثم الصلاة والصيام والحج لمن استطاع، واخرجوا حق الفقراء والمساكين من الزكاة والصدقة، وشلوا ما عليهم من غرم، وقاموا بالعانة والجايش، وما أبكوا أو أوجعوا أنسان في مال أو عرض، تراحموا وتعاطفوا واعطوا النساء حقهن من الميرات والعشرة، ففتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، ولما أضاع الناس هذه القيم نزل بهم بلاء النقص في المال والبنون والثمرات وسلطة الطغاة والجبروت، وشماتة القريب والبعيد فيهم بل صارت لقمتهم وكسوتهم بيد الأعداء، فلا حول والله وقوه إلا بالله، ونسأل الله العافية فيما حصل من التغيير، مؤملين فيه الخير الكثير وبالله التوفيق”.

قد يعجبك ايضا