ما تشهده اليمن اليوم من انقسام وتشظ له مماثل في تاريخها، فهو حالة ملازمة لكل حالات التحول التي نشهدها في حقب التاريخ المختلفة , ولذلك سيمتد الماضي في صميم التجربة التحولية الجديدة ويحد من أثرها في المستويات الحضارية المتعددة، إن لم يسارع قادة المرحلة إلى التوافق على رؤية وطنية للبناء إدراكا منهم لعثرات التاريخ وتموجاته وتبعاته خوف الوقوع في حفرها .
فاليمن التي صهرتها الحرب أصبحت أكبر حجما من مستوى تفكير رجال الحرب والصراع والتدمير من قادة الشرعية والتحالف, ولذلك سيصعب عليهم اليوم فهم المستوى المتقدم للحالة السياسية اليمنية وفي مجمل الأحوال كل رموز الحرب اليوم من الذين وقفوا في صف العدوان سيطويهم التاريخ في صفحات صفراء بائسة من كتابه , ومثلما كان للحرب والصراع والتدمير رجال سيكون لليمن الجديد رجال آخرون وتلك هي سنن الله في كونه .
ووفق قانون التاريخ فإن الحرب تقود إلى السلام والسلام في مجمل حالاته – مهما طال مكوثه – يقود إلى الحرب وتلك من سنن الله في كونه، بالمعنى الأقرب أن السلام هو ما سيؤول إليه المشهد السياسي اليمني في قابل أيامه – ومهوده ورموزه يبعثها الواقع اليوم – ولن يطول بنا الزمن حتى نراه حقيقة واقعه بأي شكل من أشكاله، سواء كان بالتوافق أم بالحسم العسكري لكن سيكون بالتوافق وعلى مثله جرت سنن التاريخ اليمني .
لسنا في اليمن أقل شأنا من أي بلد يمتد عميقا في التاريخ , فلنا حضورنا الحضاري المؤثر في المجتمعات الحضارية القديمة ونحن قادرون اليوم أن نسجل ذات الحضور وبذات الفاعلية التي كنا عليها وأكثر إذا تمكنا من تفعيل الدور التاريخي والحضاري والثقافي في مساراتنا الجديدة , فثمة مقومات نحن نملكها اليوم، بها ومن خلالها سوف نستعيد وعينا بذاتنا وبقيمتنا وبأثرنا في رسم السياسات للخارطة الدولية .
لا يمكن للتنين الصيني أن يستعيد طريق الحرير دون أن يكون اليمن حاضرا في مسار ذلك الطريق بل وفاعلا بقوة حضوره الجغرافي والحضاري والتاريخي, فالتفكير في هذا الاتجاه سوف يجعل الحسابات مرتبكة لبعض دول التحالف كما أنه سيفتح أفقا حضاريا متفاعلا مع المستقبل من حيث البناء والتحكم بمسارات المستقبل ومن حيث استعادة مركزية اليمن في البعد الاقتصادي الدولي وأثرها فيه وحيويتها التفاعلية في رسم مساراته والتحكم ببعض خيوط اللعبة في السياسات الدولية, فالحضور التفاعلي في رسم السياسات الدولية يجعلك تنتقل من حالة المستقبل – الذي يتقبل الواقع – إلى حالة الصناعة من خلال حضورك وتأثيرك .
علاقة الصين في ظل مشروعها الاقتصادي العملاق “طريق الحرير ” باليمن علاقة ضرورة, وعلاقتنا بها في ظل ما لحق بالبنية التحتية من أضرار جراء الحرب والعدوان علاقة احتياج لذلك فمبادرة الصين ” الحزام والطريق ” يمكن التفكير بها وبما يخدم المصلحة الوطنية والبنى التنموية المدمرة , ومثل ذلك قد يحد من كلفة الإعمار والبناء الذي يحتاج جهدا ووقتا ومالا, فالتعاضد بين الحضارتين اليمنية والصينية تعاضد تاريخي ولا يمكن الفصل بينهما عبر حقب التاريخ المختلفة, كما أن الصين قد تشكل بديلا اقتصاديا فاعلا يحفظ لليمن حالة التوازن بعكس المشاريع التي تريد فرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية .
يفترض بنا الوقوف عند فكرة البناء كرديف لفكرة النصر كدال يرشد ويهدي إلى المستقبل وبمثل ذلك نملك مقومات الاستمرار والتكامل إذا كثفنا الدراسات حول الآفاق والمقدرات والمعضلات، ولا يمكن لذلك أن يتحقق دون استنفار العقول والقيام بالدراسات التي تعين صناع القرار في هذا البلد على اتخاذ القرار اللازم في الزمن الفارق .
لقد قال التاريخ إن الحرب قد تصنع واقعا جديدا لمن يحمل مشروعا وطنيا للبناء , وليس مشروعا تدميريا إلا عند الذين يقتاتون من نزيفها أما صاحب المشروع فالانتصار هو محور ارتكازه لبناء المستقبل .
ومن محاسن الحروب والصراعات أنها تحدث فرزا وتمايزا، فيمتاز أهل الخير والبناء ويمتاز أهل الشر والبغي وتكون الصورة أكثر وضوحا للناس , وهذا هو عين ما قالت به الحرب في اليمن على مدى السنوات التي سلفت، فالذين يدعون الشرعية اتضح أنهم لا يملكون قرارا وأنهم ليسوا أحرارا والذين وقفوا إلى صف الوطن دفاعا وذوداً عن حياضه رفعوا شعارا مضمونه ” يد تحمي ..ويد تبني ” وقد دل الواقع أنهم عند مستوى الشعار من حيث الدفاع وهمٍّ البناء .
كل مؤشرات الواقع اليوم تقول إن فايروس كورونا هو حرب بيولوجية وهو يدير الحرب العالمية الثالثة التي سوف تسفر عن واقع يتغاير كل التغاير عما قبله , فالتراجع في الدور الأمريكي في إدارة النظام العالمي وفرض مضامين الهيمنة سجل تراجعا مذهلا مع الوباء العالمي، في حين تقفز الصين وروسيا إلى الواجهة بقوة الأثر والتأثير , ولذلك لن يطول بنا الأمد حتى نرى التنين الصيني يقود العالم الجديد متفردا كما تفردت من قبله أمريكا , ومثل ذلك يفرض علينا تفكيرا استراتيجيا بما يخدم أمتنا ووطننا ومجتمعنا واقتصادنا , فلدينا مع الصين مصالح مشتركة إذا أحسنا إدارة تلك المصالح في بداية التكوين أفضل لنا من بعده , لأننا في البداية نملك القدرة على فرض الشروط المناسبة .
ليكن شعارنا القديم – الجديد حاضرا بقوة ” يد تدافع .. ويد تبني ” حتى نخرج بمعادلة سياسية جديدة لنشعر أن الدم المسال لم يذهب عبثا بل فرض حضورا قويا ومؤثرا في إدارة مصالح الأمة وبما يحفظ لنا العزة والكرامة والقوة والحرية والسيادة .