ما إن وضعت الحرب الهمجية على قطاع غزة أوزارها، وانتهت العمليات الحربية العدوانية عليه، حتى بدأ المستوطنون الإسرائيليون يصبون جام غضبهم على الذين أوردوهم موارد الهلاك، وألحقوا بهم الهزيمة، وتسببوا لهم بالنزول إلى الملاجئ والهروب، وعرضوهم للتهكم والاستهزاء، وجعلوا منهم أضحوكةً ومثاراً للسخرية، وهم الذين كانوا يتشدقون بأن جيشهم لا يقهر، وأن كيانهم لا يهزم، وأنهم أقوى دول المنطقة وأكثرها تسليحاً وقدرةً، لكنهم أمام هول الصدمة وشدة الصفعة، َعَلَا صوتُ نحيبهم صاخباً، وخَشُنَت كلماتهم انتقاداً، وفَحُشَ ردهم غضباً وألماً، وتوالت الدعوات للمحاسبة والمساءلة، والتحقيق والعقاب والإقصاء.
فقد فوجئوا جميعاً – حكومةً وجيشاً ومستوطنين ومراقبين – أن ثلةً قليلةً من المقاومين في قطاع غزة قد هزموهم، وأمطروا سماءهم بآلاف الصورايخ، التي وصلت إلى عمقهم وشمالهم، وجنوبهم وأقصاهم، وألحقت بهم خسائر حقيقية، بشرية ومادية ونفسية، يصعب محوها بسهولة، أو تجاوزها ببساطة، إذ تركت أثراً بالغاً وجرحاً غائراً لا شفاء منه ولا نجاة من عاقبته، وقد زادت المقاومة الفلسطينية بانتصارها قوةً واشتدت عزماً، بينما ازداد جيشهم بهزيمته اهتزازاً وخيبة، وفقد سمعته وردعه، ولم ينفعه تدريبه وتأهيله، ولا ترميمه ومناوراته، واضطربت حكومتهم واختلت، وازدادت تفككاً وضعفاً، وحيرةً وقلقاً.
كثيرون هم أولئك الذين ألهب المستوطنون ظهورهم، وأوجعوهم بكلماتهم، وسلطوا عليهم سيف انتقادهم، وحملوهم المسؤولية عما نزل بهم وحل فيهم، فهم مجموعة واسعة وفريقٌ كبير، لكنهم ركزوا في هجومهم على ثلاثي الهزيمة وشركاء الفشل، الذين تشدقوا بالعلو والغلبة، وادَّعوا الفوز والنصر، وسوقوا بين مستوطنيهم نصراً مزعوماً كاذباً، وباعوهم الوهم والسراب غبناً، وظهروا أمام وسائل الإعلام يبتسمون ويضحكون، ويهزأون ويتوعدون، بينما التقارير العسكرية تكذبهم، وما يصل من صورٍ من مختلف المدن تفضحهم، لكنهم بقوا مصرين على كذبتهم، وأرادوا من المجتمع الصهيوني أن يصدقهم، وأن يثق في وعودهم ولا يشك في قدراتهم.
أما كبير الثلاثة وزعيمهم، وأولهم وأخزاهم، وأغشهم وأكذبهم، فهو رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو، الذي استخدم الإسرائيليين واستنوقهم لخدمة أغراضه وتحقيق منافعه، وأجَّجَ المشاعر وألهب حماس المستوطنين، وهو يجيشهم في القدس ضد الفلسطينيين، ويعدهم بالسيطرة على «جبل الهيكل»، والصلاة فيه بلا مسلمين، ويمنيهم بــ«استعادة» البيوت التي اغتصبها الفلسطينيون في حي الشيخ جراح، وقد كان يعلم أنه يكذب ويغش، ويخدع ولا يصدق، فعينه على مقعد رئيس الحكومة، الذي هو حبل النجاة من مقصلة المحكمة وغول السجن ومرَّ العقاب، ودعاؤه أن يسقط خصومه ويفشل منافسوه في تشكيل حكومةٍ بديلةٍ، فافتعل الحرب وسوَّق لها، ودافع عنها وبشر شعبها بنتائجها.
أما ثاني الملعونين وأهبلهم، وأضعفهم وأسخفهم، فهو وزير الحرب بيني غانتس، الذي استخدمه نتنياهو في التوقيع والمصادقة، وحمله مسؤولية القرار وتبعة النتائج، وقدمه أمامه كبشاً للفداء أو مطيةً للكسب والربح، لكن بيني غانتس دار بين الأول والثالت كالحائر المضروب على رأسه، فتارةً يجره الجيش وقيادة الأركان، فينفخون فيه كالطبل، ويستثيرونه كالثور، وتارةً يستخدمه نتنياهو ويقدمه ليورطه، أو يرفعه ليسخطه، فكان بينهما كالصبي يتنقل، فلا قراراً أصدر ولا حكماً أبرم، ولا نصراً أنجزَ ولا ردعاً حقق.
أما ثالثهم فهو الدعي المتغطرس، المنتفخ الريش المتعجرف، رئيس هيئة أركان جيشهم أفيف كوخافي، الذي درب جيشه، وأجرى له العديد من المناورات، وأعلن جاهزيته أكثر من مرةٍ لحربٍ قاسيةٍ مؤلمةٍ، يوجع فيها المقاومة ويكسرها، ويفكك بنية فصائلها وينزع سلاحها، ويؤمن للمستوطنين في بلدات الغلاف سنيناً من الهدوء والراحة، وأخرى مثلها من الدعة والأمان، وتغنى خلالها بخطة تنوفا، واعتبرها العصا الغليظة والسكين الحادة، التي سيضرب بها بقوة، ويقطع بها أوتار المقاومة بسرعةٍ، ويهدم عليها أنفاقها ويجردها من سلاحها، وقد بنى مدناً تشبه مدنهم، وشكل مجموعاتٍ تشبه مجموعاتهم، لكن الميدان أثبت كذبه وأظهر عجزه وخرفه.
ستكشف الأيام القليلة القادمة أنهم ليسوا ثلاثة فقط، بل هم جمعٌ كبيرٌ من الشياطين، ورهطٌ غير قليلٍ من المجرمين، وإن كانوا هم الذين سعروا الحرب وأشعلوا أوارها، وتولوا قرارها وخططوا لاستمرارها، وأوهموا أنفسهم بالنصر وفيها، وخدعوا شعبهم بنتائجها، ولكن يسعدنا أنهم في الساقية كالثيران يدورون، وبالسياط يكتوون، ومن العامة والخاصة يشتمون، وعلى مدرجات المذبح يهيأون، ليكونوا كبش محرقة الغباء، وضحية الخرف والجهل، وضحالة الفكر وعقم التجربة، ألا تعساً لهم وتباً عليهم، ولعنةً عليهم وشماتةً بهم.