لشهر رمضان المبارك في اليمن مكانة خاصة عابقة بضوء وعطر الإيمان، وأجواء لها مذاقها ونكهتها الخاصة..
ولهذا الشهر الكريم تجلياته الكبيرة في مختلف ربوع اليمن وقلوب أبناء اليمن..
تبتهج بحضوره المدن والقرى اليمنية، وتعيش معه طقوسها المميزة العابقة بالإيمان والمحبة.
ولرمضان مكانة خاصة في القرى التي تستقبله وتعيش أيامه بصورة غير معتادة في الأيام الأخرى.
وفي كتابه “القرية شيء من الماضي” يسلَّط الأديب والكاتب عبدالله علي النويرة الضوء على طقوس القرية وأيامها خلال شهر رمضان، وما يرافق هذا الشهر الكريم من عادت وسلوكيات وحياة مميزة.
إعداد/محمد أبو هيثم
لرمضان مذاق خاص في القرية يختلف عن أي شهر، فله طقوس وعادات جميلة جداً، بالرغم من أن بعض السنوات يأتي شهر رمضان في مواسم زراعية لا تحتمل تأجيل العمل، فيستمر المزارع في عمله بالرغم من أنه صائم، ويبدأ شهر رمضان من خلال ترقب ظهور الهلال في نهاية شهر شعبان، ويحاول الكثير من السكان البحث عن الهلال بعد غروب الشمس، وذلك بالتجمع في أعالي الجبال، وإجهاد أنفسهم بحثاً عن الهلال، ونادراً ما يشاهدونه وينتظرون إلى الليل فيشاهدون النيران مشتعلة في رؤوس الجبال من جهة الشرق التي تكون قد استقبلت النيران المشتعلة من الشرق حتى يكون المصدر الأول هو العاصمة صنعاء، وأحياناً لا يعلم سكان القرية بدخول رمضان إلا ثاني أيام الشهر الكريم عند وصول أي مسافر قادم من إحدى المدن، خاصة المدن الساحلية، وكذلك انتهاء الشهر يتم العلم به بنفس الطريقة.
استقبال رمضان
بعد التأكد من دخول شهر رمضان يستعد السكان لتجهيز طعام السحور وليس هناك شيء اسمه ساعة لدى معظم السكان، ويعتمدون في تناول سحورهم على دقات طبل يقوم به أحد أفراد أسرة معينة (بيت محمد علي عمر صغير – من أسرة بني أحمد وهي من الأسر القديمة في القرية ويسكنون في موقع يسمى القفل وبه تمت تسميتهم) تتوارث هذا العمل دون أن نعرف منذ متى ولماذا هذه الأسرة دون غيرها هي التي تقوم بدق الطبل الكبير إيذاناً بدخول وقت السحور.
وليس هناك تعقيد في استقبال شهر رمضان في القرية، فليس هناك أشياء معينة يتم تجهيزها، فالأكل هو نفسه في رمضان وغير رمضان، والذي يتغير هو وقت تناول الأكل فقط، اللهم إلا قيام بعض الأسر بتوفير الأرز الذي يعتبر وجوده نوعاً من الرفاهية غير المتوفرة لدى الكثيرين، كما أن بعض الأسر تحرص على أن يتولى الجزار توفير اللحمة طوال الشهر ويرسلها إلى المنزل، ويتم دفع مستحقاته في نهاية الشهر أو عند الصرِّاب.
* مما كان يتكون السحور يقول النويرة :
– ولو نظرنا إلى مائدة الأسرة وقت السحور فسوف نجد أنها تتكون من مأكولات ساخنة (تسمى دافئة) مكونة من (الزوم ، المطيط) وهو عبارة عن دقيق وحليب وبصل مطبوخة معاً، ويؤكل عليه الخبز أو يتم تقديم الفطير أو الأقراص مع الحليب والسمن وهو الأغلب وبعد ذلك يتم تقديم اللحوح مع (العفشة) وهي ناتجة عن طبخ (الرائب – اللبن) على نار هادئة فينتج العفشة وهي شبه صلبة تشبه الجبن و(الوغرة) وهي الماء المتخلفة عن فصل (العفشة) وهي بيضاء اللون وحلوة المذاق وقليل من البسباس الذي يغمس به (اللحوح) ثم يغرف به العفشة حتى يتشبع، ونرى أن الأكل على هذه الصفة محلي في جميع مكوناته وبعد ذلك تقوم الأسرة بشرب القهوة وهي من (قشر البن) بدون سكر، وعندما يقوم المؤذن بالنداء لصلاة الفجر في الأذان الأول يستعد الرجال للتوجه إلى المسجد، ولكن ذلك لا يعني الإمساك عن الطعام والشراب، ويحرص الجميع على شرب أكبر كمية من الماء قبل أذان الفجر؛ لأن المنطقة حارة خاصة عندما يكون رمضان في فصل الصيف، حيث يطول النهار، وتشتد درجة الحرارة مما يجعل الصيام أكثر مشقة، حيث يشعر الناس بالعطش، فيلجأ الكثير منهم إلى الاغتسال في (ماجل) المسجد للتخفيف من العطش.
صيام وعمل
وبعد صلاة الفجر يتوجه المزارعون إلى مزارعهم إذا كان رمضان في موسم من مواسم الزراعة، وتتوجه النساء إلى (الهيجة) وهي (الغابة – المناطق غير المزروعة وبها أشجار حرجية يتم قطعها واستخدام أخشابها كحطب وغصونها علف للحيوانات)، حيث يقمن بإحضار الحطب، أو الذهاب إلى بئر الماء لإحضار احتياجهن من الماء البعيد جداً عن القرية، وتذهب أخريات إلى الحقول لإحضار علف الحيوانات، ويحرص الجميع على العودة قبل الظهر، وقبل اشتداد حرارة الشمس، وينامون فور عودتهم، وعند حلول وقت الظهر يذهب الرجال والأطفال إلى المسجد لصلاة الظهر، ويمكث الكثيرون في المسجد لقراءة القرآن بين صلاتي الظهر والعصر، والبعض يعود إلى منزله للنوم مرة ثانية حتى صلاة العصر، وبعد صلاة العصر تذهب بعض النسوة لجلب المياه من البئر البعيدة جداً عن القرية، ويذهب بعض المزارعين إلى مزارعهم لإكمال ما بدأوه في الصباح، ويذهب آخرون للتمشي (دورة) ويكونون في الغالب مجموعات، والدورة تعني الذهاب إلى الحقول للترويح عن النفس، وقطع الوقت انتظاراً للمغرب.
قبل الإفطار
عند اقتراب موعد صلاة المغرب يتوجه الرجال ومعظم الأطفال إلى المسجد، ويتحلقون (حول الماجل) ويملأون الصرحة (الصوح) انتظاراً لأذان المغرب ومع كل أسرة من الأسر صحن من الشفوت يتحلقون حوله، وبعضهم لديهم صحن من الشفوت المرشوش بالمرق.
والشفوت عبارة عن لحوح مشبع باللبن الرائب المطحون فيه بعض الخضروات مثل (الكراث – القشم – البيعة) والثوم.
وبعض الصائمين يحصلون على (التمر) وهم قلة؛ لأن التمر ليس متوفراً محلياً في القرية، ويجلب من الأسواق وقليل من الناس يقدر على شرائه، وهناك أطفال يجلسون في أسطح المنازل بانتظار الأذان فإذا أذن المؤذن صاحوا بصوت واحد: (من صائم فطر على طلعتي ونزلتي)، ومعناها أن المؤذن قد أذن، وأن على الصائمين الإفطار على طلوع الأطفال ونزولهم، وكانت هذه الطريقة جيدة لإبلاغ سكان المنازل بالأذان؛ لأن صوت المؤذن لا يبلغ سوى للمنازل المجاورة؛ لأنه لا توجد ميكرفونات ولا منارات عالية.
* وماذا عن بعد صلاة المغرب؟ .. يورد المؤلف صور ذلك قائلاً:
– بعد صلاة المغرب التي تتم على عجل يتوجه الجميع إلى منازلهم، ويتحلقون حول مائدة واحدة، وبالكاد يستطيع الشخص في الأسرة الكبيرة إدخال يده إلى المائدة يده من الإزدحام حول السفرة، فيفطرون أولاً بالشفوت، ثم بالفطير واللبن والسمن ثم الأرز (لدى البعض فقط)، وقد تكون هناك لحمة ومرق لدى الكثيرين في شهر رمضان.
بعد الإفطار الجماعي (كل أسرة على حدة) يأخذ كل شخص (جمنته) التي تحتوي على قهوة القشر ويتوجه إلى المكان الذي يرتاح فيه، والأسر الكبيرة يجتمع كل الرجال والأولاد في الديوان لشرب قهوة (القشر)، وعند اكتمال عددهم يقرأون سورة (يس) على هيئة مجموعتين كل مجموعة تقرأ آية، ثم تكمل المجموعة الثانية، وبعد (يس) تتم قراءة آخر سورة (البقرة)، وآخر سورة (الكهف)، وآخر سورة (الحشر)، وبعد ذلك سورة (الإخلاص) و(المعوذتين) و(الفاتحة) ثم الصلاة على رسول الله وآله.
دعاء المأثورات
ثم يقوم كبير العائلة بتلاوة دعاء محفوظ، ويكون هذا الدعاء من المأثورات، والجميع يؤمِّن على ذلك الدعاء، وعند الانتهاء يقرأ الجميع الفاتحة بصوت منخفض وفرادى، ويبدأ كبير العائلة بتشغيل (إتريك) القاز وذلك بإضافة مادة (السبرت) لكي يدفأ ثم يشد ويفتح القاز إلى الذبالة فيضيء بشكل قوي معطياً ضوءاً أبيض مبهراً للجميع وخاصة للأطفال الذي يتحلقون حول جدهم مبهورين بما يصنع، ثم يقوم أكبر الأولاد بأخذ الأتاريك إلى المسجد استعداداً لصلاة العشاء ويقوم المؤذن بالأذان ( وطبعاً ليس هناك مكرفونات في المسجد) للناس الذين يتوافدون إلى المسجد للصلاة ويمكثون حوالي نصف ساعة يقرأون القرآن الكريم بصوت مرتفع كل بطريقته وأسلوبه وعند الاقتراب من المسجد يسمع دوي صوت المقرئين كالنحل حول الخلية وبعد صلاة العشاء وصلاة التراويح يعود كل منهم إلى منزله استعداداً للسمرة فيتجمعون في” الدياوين – جمع ديوان” وفي الغالب كل أسرة وما حولها من الأسر في المنازل المجاورة يجتمعون في ديوان ويمضغون القات ومعظم الأوقات يكون لديهم كتاب مثل ” الترغيب والترهيب – رياض الصالحين – صحيح المسلم” يقوم أحدهم بالقراءة منه عدة صفحات يتخللها شرح بحسب فهم القارئ الذي ليس بالضرورة لديه القدرة الكاملة على الفهم السليم نتيجة للقصور الكبير في التعليم ولكن هذه القراءات كانت أكثر من مفيدة لأنها تصل إلى قلوب لينة يملؤها الإيمان المطلق بالله سبحانه وتعالى، وطبعاً الديوان مضاء بالأتاريك الذي يحتاج كل اتريك منها إلى “شد” بمعنى تعبئة الهواء كل ساعة أو ساعتين بمجرد ضعف الإنارة، حيث يقوم أحد الجالسين بإنزاله من السلسلة المتدلية من السقف ويقوم “بشده” وإعادته إلى مكانه وسط الديوان فوق ” المعشرة”.
والمعشرة عبارة عن ماسة دائرية ضخمة الحجم قليلة الارتفاع وهي مصنوعة من الخشب توضع عليها ” المدائع – جمع مداعة” التي يشرب بها المخزنون الدخان الناتج عن حرق ” الحمومي” وهو التبغ المحلي، وفي أوقات الأكل يوضع عليها الأكل ويتحلق حولها الناس للأكل وهي بضخامتها تسمح بجلوس عدد كبير على هيئة حلة دائرية حلو السفرة ويكون كبير العائلة في الزاوية الرئيسية من الديوان ويليه الأكبر سناً ولكل شخص من كبار السن مكان محدد لا يمكن لأي شخص أن يجلس فيه وبقية الأماكن “مشاعة” بين الجميع ” أي مشترك”.
مقالب رمضانية
يحضر الأولاد إلى الديوان لعمل مقالب لبعض الموجودين في الديوان مثل ” رقع – خياطة” مئزر أحدهم بـ”الكرباس – الفراش” الذي يجلس عليه فإذا قام حمل معه الفراش الذي تحته أو أسقط المئزر إذا لم يكن مربوطاً بشكل جيد.
و”الكرباس” هو الفرش الحصير الذي يفرش به الديوان وهناك في طرفي الديوان “رص” وهي ” الدكة المرتفعة بمقدار عشرين سنتيمتراً عن مستوى الديوان” وهو مكان مرتفع يجلس فيه كما قلنا كبير العائلة أو الشيخ ويكون مفروشاً ببعض البطانيات أو بعض “الشمل” المصنوعة من الصوف وعند منتصف الليل يقوم الكبار في السن بالتوجه إلى غرفهم لقراءة القرآن ويصلون صلاة الليل ويأتي الشباب للجلوس في الديوان يتسامرن ويمارسون ألعابهم التي يجتمعون لأجلها أو الاستماع إلى القصص التي يحفظها كبار السن عن الزير سالم وعنتر وسيف بن ذي يزن وقليل من الأطفال “الأولاد” يصمد ويسهر حتى السحور لأن وسائل التسلية محدودة والوقت يمضي ببطء شديد واجسامهم منهكة من العمل في النهار ويفتخر الأطفال الذين يستطيعون الصمود إلى السحور بقدرتهم على ذلك.
وهكذا يستمر الحال طوال شهر رمضان حتى قرب حلول عيد الفطر المبارك فتبدأ كل أسرة بالاستعداد له بشراء ما تيسر من الملابس ومحاولة توفير “حنطة – البر” لغداء العيد أو على الأقل “دخن” وتوفير “عسل” لوجبة الغداء أيضاً وبعض الأسر الكبيرة تحاول توفير فاكهة ” الموز” وهذا يعد قمة الترف وهناك مذبوح العيد الذي يحرص الكثير من المزارعين على تربيته منذ شهر رجب لذبحه للأسرة وقد يكون في الغالب كبيراً يكفي للأسرة.