في القضاء بين علم الغيب وعلم الشهادة !

عبد العزيز البغدادي

ماذا يفيد فن المرافعة إن لم يكن أمام المترافع قاضٍ يستوعب ما يرفع إليه ، قاضٍ له قلبٌ حي وضمير يقظ ، يجيد القراءة والاستماع ، يفرق بين الغث والسمين ، الصالح والطالح ،الحق والباطل ، يضبط مشاعره لتكون قناعته خاتمة المطاف معبراً عنها بحكم بذل من أجل الوصول إليه جهده ، يرى الناس بعين المساواة لا ينحاز لقبيلة ولا لطائفة أو حزب أو جماعة أو لأي اعتبار، لا يخاف في الله لومة لائم ، همه الوصول إلى الحق والحقيقة من خلال الأدلة والبراهين المقدمة إليه في مجلس قضائه وليس عن طريق أي علم آخر ، يعطي الخصوم حقهم في تقديم ما لديهم ، يتفحص أدلتهم ويبعث في نفوسهم السكينة والاطمئنان ، يتجنب كل مسلك يوحي بأبسط علامات الانحياز سواءً بتلقين خصم ضد خصم أو شاهد إثبات ضد شاهد نفي أو العكس ، يتمثل جلال العدالة معنىً ومبنى .
فصاحة المحامي لن تجدي نفعاً في الوصول إلى قاضٍ ميت القلب أعمى البصر والبصيرة ؛
والعدالة جسدٌ واحد لا يستقيم حاله ما لم يجد في السياسة والسياسي سنداً يعرف قدرها فيطيعها ولا يطيع عليها يعلِّم الآخرين واجب طاعتها بتواضعه أمامها وتسهيل كل شؤونها ومساعدة السلطة القضائية على إيجاد أفضل السبل لاختيار القاضي بعيداً عن أي اعتبار سياسي لأن الاعتبارات السياسية متحركة والأيام دول ، واعتبارات العدالة قيمة ثابتة تستمد ثباتها من الدين والقانون والأخلاق ، والقاضي الإنسان هو العمود الفقري لهذه القيمة وعنوانها الرئيس ، العدالة لها طريق في الأرض وطريق إلى السماء ، طريقها في الأرض شأن بشري يقوم على الظاهر موزع بين واجب القاضي وحق المتقاضي ، والحق والواجب في الدنيا يجب أن يحتكما للضوابط الموضوعة والمعايير المبينة في الدساتير والقوانين والأنظمة واللوائح كي يستقيم شأنها وإلا بقيت في نطاق الهلامية والضياع ، الشهادة أو علم الظاهر هو طريق العدالة في الدنيا جاء في المادة (149) من الدستور: (والقضاة لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ) ، وما وراء أداة الاستثناء ( لغير) يوضح الفرق بين سلطة الله المطلقة وسلطة القاضي المقيدة المحكومة بالقانون والالتزام بالقانون التزام بالدين لأن حكمه حكم العهد طالما كان ساري المفعول (وأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) من آية (34)سورة الإسراء, والرقابة على القاضي رقابة قانونية لأن السلطة في مجملها أمانة ومسؤولية ، محكومة في الدنيا باحترام مبدأ سيادة القانون وسلطة القضاء في ما يتنازع الناس عليه أمامه تنظم وفق قواعد وأسس علمية ولهذا قيل (الشريعة بالظاهر) وما غاب عن الظاهر وعن إدراك وحس الإنسان فهو لله وحده ابتداءً وانتهاءً (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) ، والنزاع بشأنه مؤجل لما بعد الموت أمام محكمة الخالق الذي يكون فيها أعضاء الإنسان هي أدلة الإثبات ضده (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الآية (24) من سورة النور وهي أدلة قاطعة غير قابلة لأي نزاع لقيامها على علم الغيب والاختصاص في قضاء الغيب ( محكمة الخالق) متروك لعالم الغيب وحده شكلاً وموضوعا الذي لا يحتاج إلى علم وفن المرافعة وليس لمن بيده السلطة الدنيوية القائمة على علم الظاهر التدخل في شؤون قضاء (الغيب ) أو ادعاء امتلاكه وترك واجباته في تنظيم وضبط شؤون قضاء علم الظاهر (الشهادة) الذي يقوم على التحري الواجب قانوناً سواء كان قضاته هيئة أم فرداً ولأنهم بشر والبشر خطاءون فقد أوجب القانون أن يكون القضاء على درجتين موضوعيتين (ابتدائي واستئنافي) والثالثة قانونية ( المحكمة العليا ) لتصحيح أخطاء القاضي الإنسان أما قضاء الله القائم على علم الغيب فهو على درجة واحدة وقاضيه هو الله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) آية (41) س (الرعد) (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) آية (9) من سورة الرعد ؛
إذاً الخلط بين علم الغيب وعلم الشهادة في الدنيا وادعاء البعض امتلاكهما طريق لإضاعة الحقوق وغياب الحقيقة، وواجب القاضي المخلوق أن يحترم الدستور والقانون الذي أقسم على احترامه وأن يتقي الله في حقوق الناس وأن يبذل الجهد اللازم للتمييز بين الحق والواجب في أحكامه والله المستعان.

كل الرسالات عنوانها العدل
جوهرها
الظلامُ مبعثه الظلم * في الغيب أو في الشهادة

قد يعجبك ايضا