المتابع لمسار الحرب على اليمن وما شهدته من تطورات ميدانية وعسكرية، وما كان لها من تأثيرات وتداعيات إستراتيجية، في المنطقة والعالم، لن يجدها مسارًا طبيعيًا أو عاديًا، لناحية التفاوت في القدرات بين أطراف هذه المواجهة، وما آلت إليه نتائجها حتى الآن، من تبدل في الموقع أو في النفوذ أو في القدرة على فرض الموقف، والتي جاءت مخالفة بالكامل للتوقعات.
نتكلم اليوم عن يمنٍ قوي، ثابت وعنيد، لا يرضخ للضغوط الخارجية، لا ينجر وراء المشاريع أو الاقتراحات المغرية، قادر على التمييز بين ما هو لمصلحته ومصلحة أمنه القومي، وبين ما يحاك له من أفخاخ، غير آبه بكل أشكال المناورات والألاعيب الدولية، والتي ترضخ أو تضعف أمامها دول قادرة وقوية ومتمكنة، فما هو سبب ذلك؟ وهل يوجد أي دور للعدوان في ما وصل إليه اليمن اليوم؟
في السياسة
لليمن اليوم موقف متميز ومستقل وخاص به، فهو لا يربط موقعه ومواقفه بأية جهة إقليمية أو دولية، وفيما تتهم إيران بأنها توجه سياسة ومناورة واستراتيجية الجيش اليمني واللجان الشعبية ووحدات أنصار الله، كان يظهر جليًا زيف هذا الادعاء خلال كافة المواجهات والمعارك التي خاضها اليمنيون، والتي كان قسم كبير منها يتزامن مع مسارات دبلوماسية ومفاوضات سياسية أو تواصل إقليمي ودولي مع إيران. ولو كان هناك تأثير أو توجيه إيراني لليمنيين، كنا شهدنا حينها على الأقل هدنة معينة أو هدوءًا معقولًا في الميدان أو ابتعادًا محددًا عن التصعيد في بعض الفترات الحساسة، الأمر الذي لم يكن يحدث بتاتًا، إلا ما كان يحدده فقط مسار الميدان ومعركة الدفاع ضد تحالف العدوان، والتي وحدها كانت تفرض إيقاع المعركة، وربما هذا كان من الأسباب الرئيسة للانتصار الذي حققه اليمنيون.
اليوم، هناك الكثير من الإغراءات التي تقدم لـ “أنصار الله” من قبل الغرب وخاصة من الأمريكيين، منها فقاعة وقفهم لدعم العدوان السعودي بالأسلحة الهجومية، والتي عمليًا لم تترجم في الميدان حيث يتزايد مستوى القصف الجوي السعودي، ومنها على سبيل المثال أيضًا، رفعهم من لائحة الإرهاب، الأمر الذي لم يعن لهم شيئًا وحتى لم يعلقوا عليه، وبقيت مواقفهم ثابتة، إطارها الأساسي: وقف الحصار والعدوان والشروع بتفاوض نحو تسوية سياسية منصفة للجميع.
في العسكر
عسكريًا، مسار المعركة والحرب، والتي شهدت عدة مراحل صعبة وقاسية، بدأت بصمود منقطع النظير، ولاحقًا بتبدل متدحرج في مواقع السيطرة التي خسرها العدوان تباعًا، ولم يتبق له من تلك المواقع المؤثرة إلا مأرب، والتي يتخبط اليوم جاهدًا للحفاظ عليها بدعم إقليمي ودولي فاضح ومكشوف، في الوقت الذي تتقدم فيه وحدات الجيش واللجان وأنصار الله بثبات نحو أسوارها النهائية، وآخرها سد مأرب الاستراتيجي، والذي مع اكتمال السيطرة الميدانية عليه، أصبحت وحدات الجيش واللجان تملك قاعدة انطلاق جنوب غرب المدينة، ستكون مناسبة لتنفيذ الخطوة الأخيرة من مهاجمتها لتحريرها، تزامنًا مع إكمال محاصرتها عبر قطع أي ترابط ميداني معها، بعد السيطرة على مفرق طريق حضرموت – مارب – عتق (شبوة)، والذي يبعد شرقًا عن سد مأرب فقط حوالي السبعة كيلومترات.
مسار التطوير والتصنيع العسكري كان مسارًا لافتًا وصادمًا، وما حققته القوة الجوية والصاروخية اليمنية في الميدان اليمني أو في عمليات توازن الردع خارج اليمن، مع ما تم عرضه مؤخرًا في معرض الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي، من صناعات عسكرية واستراتيجية، لهو خير دليل على المستوى الدولي الذي وصلت إليه تلك الصناعات.
السعودية اليوم، وبعد أن فقدت المبادرة داخل الميدان اليمني بالكامل، تتوسل العالم ليجد حلًا لما تتعرض له من استهدافات استراتيجية يمنية، حيث فقدت أية إمكانية أو قدرة ذاتية لوقف أو منع أو عرقلة أي استهداف نوعي لمنشآتها الحيوية، وهي اليوم، تبدو وكأنها لا تملك في هذا الإطار شيئاً إلاّ حين أن يقرر أنصار الله وقف ذلك.
الكيان الإسرائيلي، وبعد أن كشفت صحيفة «جيروزاليم بوست» قلقها من تحول صنعاء إلى قوة إقليمية، نشرت تقريرًا كتبه مراسلها لشؤون الشرق الأوسط سيث فرانتزمان أشارت فيه إلى إمكانية أن «نرى اليوم قيام واشنطن بإرسال فريق للتفاوض مع أنصار الله، الأمر الذي كان منذ عدة سنوات فكرة سخيفة، حيث كان من المفترض أن يؤدي التدخل بقيادة السعودية في اليمن إلى القضاء على انصار الله باستخدام أفضل المعدات العسكرية الغربية»، وبعد أن لفتت الصحيفة الى أن كل هذا اليوم تغير، وحيث أن أنصار الله يمطرون الصواريخ الباليستية وطائرات الدرونز على السعودية كل يوم تقريبًا، أصبحوا إحدى القوى المهمة في المنطقة، ويريدون محادثات مباشرة وعلنية مع واشنطن، وهذا شيء لم يكن أحد يتخيله»، حسب قولها.
نعم وبكل تأكيد، لم يكن أحد يتخيل حدوث ذلك، إنها أشبه بمعجزة، سببها الرئيس طبعًا هو قدرة أبناء اليمن وجبروتهم، وصمودهم المدعوم بإيمان راسخ، أولًا بالله سبحانه وتعالى، وثانيًا بالدفاع عن الوطن والأرض والعرض والمقدسات، ولا شك أن السبب الآخر لكل ذلك، كان دور العدو بطريقة غير مباشرة، والذي من خلال عدوانه، أولًاً خلق الفرصة لأبناء اليمن على خوض هذه التجربة التاريخية والنجاح فيها، وثانياً، بفضل غروره وإنكاره للواقع، رفض الانسحاب والإقرار بالهزيمة، فكان ما كان ووصلت الأمور به وباليمن إلى ما وصلت إليه اليوم.
عميد متقاعد في الجيش اللبناني
Prev Post
Next Post