سعيد شجاع الدين
وأنت تقلب صفحات كتاب لا بد أن تكون في حيرة تتصل بمسألة اختيار ما تراه مثيراً، مهماً، أو قل ما تشاء، في سبيل الوصول إلى القارئ، أو إلى أي شخص آخر .
في بعض المواقف يجد المرء نفسه مضطرا للحديث، لا سيما ونحن في مجتمعنا كثيرا ما نخوض في جلساتنا أو لقاءاتنا في قضايا متعددة، منها ما له صلة بالشأن المحلي أو الإنساني. أو قد يكون الدافع هو الحرص منك على إيصال ما قرأت إلى الآخرين .
قد يقول قائل إن المسألة ليست بهذه الأهمية وأنت تعمل على تقليب وريقات كتاب، وهي عملية تتم وفق منهجية معتادة، أو وفق كذا وكذا، وقد تصبح هذه المقدمة مدعاة للقيل والقال، مع أن الموضوع أيسر من هذا، والكتاب يكاد يقدم نفسه بنفسه، أو ربما هكذا أشعر.
إذن: ليعذرني القارئ الكريم، كما هو الطلب ذاته لمؤلفي كتاب « رحلتان إلى اليابان» الأستاذ على احمد الجرجاوي 1906، الدكتور صبري حافظ 2012، وأضيف أنا وأنت 2020. فالتواريخ المذكورة، ثلاثتها تكشف لنا عن لعبة الزمن أو قل عن أهمية الزمن، لقراءة الاحداث تحت وقع المؤثرات الحياتية المتعددة قديما أو حديثاً، رأسياً أو أفقياً ، ونزيد : يمنياً أو عربياً. وبخصوص الإضافة الأخيرة فنحن تستهوينا المقارنات بين الدول والشعوب ، مأخوذين ربما و صل اليه هذا البلد أو ذاك. ولعلها من المصادفات أن أشير إلى أننا في مقارناتنا بين دولنا العربية وبين ما نرى انه نموذج جدير نتخذ من مصر البلد العربي كمثل لضياع الإمكانات بأنواعها كافة، ويليه السعودية اذا اتصل الأمر بضياع الأموال، وتحضر اليابان كنموذج النجاح لبناء الأوطان .
مؤلفا الكتاب صاحبا الرحلتين هما مصريان. وفي رحلة له إلى أوروبا قبل ما يزيد عن مائة سنة نقل لنا جورجي زيدان في كتابه «رحلة إلى أوروبا» مشاهداته ذات الصلة بسلوك الناس، إذ قال في مرة انه في احدى العواصم الأوربية صعد الى المترو ـ وسيلة مواصلات داخل المدينة ـ و رأى الكُمسري (المحاسب) يصرّ على الراكب الذي كان الأخير ـ ربما أنه كان واقفاً ـ بضرورة آخذ التذكرة، بعد أن كان الراكب قد أشرّ اليه بما معناه: «أنت أحق بقيمة التذكرة». يقول زيدان ان المحاسب لقنه درساً بأهمية المحافظة على المال العام، وأنه لو كان استجاب ووضع الثمن في الجيب مبقياً السند في مكانه، يكون قد سرق المال العام وألحق ضرراً ببلاده، وتحسَّر زيدان وقال هذا ما لا نراه في بلادنا. ونحن نتساءل: كم من الممارسات، كم من الأشخاص نعمل على افسادهم في المؤسسات الحكومية، أما بدافع العاطفة أو الرغبة في قضاء المصلحة بأقل القليل من الوقت و المال، أو … . حتى أن الموظف أصبح يعتقد أن من حقه الحصول على المال، أو كما يسميه البعض مصروف اليوم، لنصل إلى الزام شاغلي الوظائف العليا بتقديم إقرارات الذمة المالية، في مسعى حكومي، انشاء كيان مُكلّف، لمحاصرة الفساد وصولاً لاستئصاله.
نعود إلى صاحبي الرحلة وتحديداً إلى العقد الأول من القرن العشرين، ومعه في رحلته نتعرف على اليابان، وهي الفترة الزمنية التي جعلت من اليابان موضوعاً متصدرا في نهاية النصف الأول من القرن العشرين الحرب العالمية الثانية و مأساة اليابان . وبالنسبة لفهرس الكتاب فيحتوي على ثلاثة عناوين: الأول: مقدمة : رحلتان و بينهما قرن من المتغيرات: سطرها صاحب الرحلة الثانية. الثاني : الرحلة اليابانية لصاحبها علي أحمد الجرجاوي صاحب جريدة الارشاد. الثالث: استطرادات يابانية: رحلة لثلاث مدن يابانية لصبري حافظ.
التعليم في بلاد اليابان
العملية التعليمية في اليابان هي مربط الفرس. ذلك أن اليابان بلد سجل حضوره الدولي منذ مطلع القرن الفائت . وأن من يقف على ما طرحه الجرجاوي يهيئ نفسه لتقبل ما قدمه رحّالة أو كتّاب آخرون وطأت أقدامهم أرض اليابان. فلا غرابة أن تكون اليابان حاضرة. ومن خلال كتاب « اليابان رؤية جديدة» لمؤلفه باتريك سميث، نستشف أن التعليم في اليابان تجربة متفردة، تستحق أن تنفرد بدراسة مستقلة، ويكفي أن نشير هنا إلى نقطة من الأهمية ليطَّلع القارئ على طبيعة تناول بعض كتّاب الغرب للقضايا الدولية تحت مسمى الاستشراق، جاء على الغلاف « لليابان صورتان شهيرتان يتمسك بها الغرب في أيامنا هذه ؛ فهناك اليابان القديمة… واليابان الجديدة: يابان الكفاءة الإنتاجية و الآلات … بين الاثنتين توجد منطقة فراغ حيث يعيش الياباني. هذا الكتاب مكرّس لاستكشاف منطقة الفراغ هذه. يناقش الكاتب فيه الصورة المغلوطة التي قدمها المستشرقون عن اليابان الى الغرب».
واذا كان الجرجاوي نقل ما يدعو للإعجاب ، حد قوله، فإننا سنقول ان في كتاب اليابان تتقاطع ثلاثة أصوات تصنع البداية لقراءة وكتابة ما يُفترض عن اليابان. ففي البداية المخصصة للتعليم استحضر المؤلف صوت أول وزير للتعليم في اليابان 1885» التعليم في اليابان ليس الهدف منه تكوين أناس يتقنون تقنيات العلوم و الآداب والفنون، وإنما هو تصنيع الأشخاص المطلوبين للدولة». أما عنوان الفصل الذي سجل صوت الوزير في القرن التاسع عشر فهو « تنشئة النيهونجين» . ليفتح المجال لصوت ثالث وربما يتلوه رابع هو الجهة التي تولت إصدار الكتاب المترجَم، وما تحيل اليه ( عالم المعرفة ) في اعلى الغلاف (الوجه الأمامي) من إحالة على عالم ينفتح بـ و على المعرفة. ومما ورد في الهامش، من عمل المترجِم المصري سعد زهران « وقد لجأ الكاتب إلى كلمة نيهوجين اليابانية والتي تعني الشخص الياباني، للتأكيد على خصوصية وملامح الإنسان الياباني، كما تبرمجه و تدربه العملية التعليمية والتنشئة الاجتماعية» (المترجم )»
لوس أنجلوس
أعود إلى الحديث عن المفردتين المشار اليهما آنفا. الأولى هي تونس ، الثانية الاستطراد. يقول د. صبري في المقدمة: « لكن المدهش في الأمر والذي يبدو من القواسم المشتركة بين الرحلتين ، هو أن الاستطراد يفرض نفسه على بنية الرحلة. وكأن الارتحال الفعلي يستلزم ارتحالات ذهنية في الزمن والمعارف والتذكارات يبعثها في العقل تبدل المكان» ، و يمضي موضحاً سبب استخدامه الاستطراد :» بل انني وجدت أن أفضل عنوان لرحلتي هو « استطرادات يابانية» لأن للاستطراد كتقنية في الكتابة محتواها أيضا الذي يكشف عن مدى تغلغل موضوع في الرحلة في ثنايا الذاكرة وفي عملية بلورة أسئلتها عن الذات والآخر حول المكان المبتغى من ناحية، وفي أكثر من جغرافيا مكانية و زمانية تستدعيها الرحلة من ناحية أخرى». وعليه فإن ذكر المدينة الأمريكية هو من سبيل الاستطراد، وقد عنون الفقرة « اليابان من الشاطئ الآخر للمحيط الهادئ» فقد عمل في أمريكا وهنا تبدأ القصة، حضور اليابان من بوابة الصناعة، حيث تلقى القبول من قبل المستهلك سواء الأمريكي او المقيم. وفي لوس انجلوس سوف يتعرف القارئ على أسباب تفضيل السيارة اليابانية على الأمريكية، وسنكتفي بلمحة سريعة تجنباً للإطالة، لكن لا ضير من نقل رأي المؤلف: « ومع أنني كنت ضد كل ما تمثله السياسة الأمريكية فكرياً وسياسيا … فإنني كمعظم سكان الكرة الأرضية لم أنج من تأثير القصف المستمر لنمط و غواية الحياة الأمريكية التي سوقته هوليود ببراعة كأرض اللبن و العسل ، وموطن الفرص الكبيرة، والبوتقة التي تصهر كل الثقافات»، ليظهر الصورة المناقضة لأمريكا من بوابة الخدمات وأدواتها، في مدينة لوس انجلوس التي كانت المكان الذي يفصح عن الحقيقة.
« فهي أول مدينة أمريكية تبنى للسيارات وليس للخطوة البشرية، وهي لهذا مقلوب فكرة المدينة القديمة الكبيرة. لأنها جغرافيا في مساحة القطر التونسي كله، وتُقاس فيها المسافات بالسيارة على سرعة 90 كم في الساعة، وليس بالخطوة البشرية او المواصلات العامة. فحينما يقول لك أحد أنا قريب منك فإنه يعني ربع ساعة بالسيارة وبتلك السرعة. أي انه قريب منك على مبعدة عشرين كيلومترا على الأقل».
المسافة هي تعبير عن التباعد الذي تحاول أمريكا بل أنها تعمل جاهدة على تحقيقه في الدول المستهدفة. ولولا أن اليابان فرضت نفسها بقوة حضورها القوي لكانت هدفا سهلا، وهنا نستشهد بما نقله الينا الدكتور، يقول انه درس في الجامعة الأمريكية (صـ 101) ما أتاح له التعرف من قرب على العديد من الخصائص، بل انه تأكد، وليس أدل على ذلك حديثه بخصوص الصناعات الأمريكية وغزو المنتجات اليابانية للسوق الأمريكية. يقول: «وكنت قد سمعت بالطبع عن المعجزة اليابانية، فقد كان أكثر الكتب مبيعاً في أمريكا … كتاب بعنوان ( اليابان كرقم 1: دروس لآمريكاـ لأستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة هارفارد عزرا فوجل. وهو الكتاب الذي ينطلق حقيقة مما رأيته عند وصولي لأمريكا … أي قدرة البضائع اليابانية على التفوق من الناحيتين التقنية والإنتاجية معاً … على نظيرتها الأمريكية، وتفوقها عليها في المزايا و التقنيات، بصورة مكنتها من طردها من السوق الدولي و حتى المحلي، … , وكيف ان اليابان فعلت ذلك بنفس قواعد اللعبة: لعبة السوق الرأسمالي التي تتبناها أمريكا. وكيف يمكن لأمريكا، كما يقول الكتاب، ان تتعلم من التجربة اليابانية كي تنقذ اقتصاد بلادها».
من مأساة اليابان مع أمريكا
العنوان أعلاه مجتزأ من فقرة أوردها الكاتب في أثناء حديثه عن رحلته: «لكنني في رحلتي الأمريكية التي استمرت لأكثر من عام، عرفت جانباً جديداً عليَّ وعلى جلّ القراء العرب فيما أظن من مأساة اليابان مع أمريكا، حيث لانعرف من هذه المأساة الا حكاية هيروشيما و نجازاكي. لأنني اكتشفته في لوس أنجلوس بمحض الصدفة حينما حضرت ندوة عن الموضوع نظمتها الجامعة، حيث كان ضحايا هذه المأساة يطالبون الدولة بتعويضات عما لحق بهم من ظلمٍ فادح، وقد صدمني هذا الأمر بل شاقني لمعرفة المزيد، و أرهف شغفي بالمعجزة اليابانية بعد كل ما جري لليابان في الداخل و الخارج».
أظن ان الموضوع لا يحتمل المزيد من التعليق، ويكفي ان نصغي لصاحب الشهادة، ليعرفنا عن الجانب الجديد/ القديم، يقول: « هذا لجانب الجديد هو موضوع معسكرات الاعتقال اليابانية في الولايات المتحدة أو ما يعرف أحيانا ب اسم معسكرات إعادة التسكين بسبب الحرب War Relocation Caps. فلم يكن عار استخدام القنبلة الذرية هو العار الوحيد لأمريكا أثناء الحرب العالمية الثانية، و إنما كان هذا العار الآخر المسكوت عنه أيضاً، هو وضعها لأكثر من مئة ألف من مواطنيها من أصول يابانية في معسكرات اعتقال داخلية، عقب هجوم الجيش الامبراطوري الياباني في 8 ديسمبر 1941 على قاعدة بيرل هاربر العسكرية الأمريكية، وتدمير معظم عتادها الحربي، وقتل أكثر من ألفين من جنودها. بعد استصدار الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في 19 فبراير 1942 الأمر الرئاسي رقم 9066 الشهير، والذي يجيز التحفظ على الأمريكيين من أصول يابانية في « مناطق عسكرية» أو «معتزلات تحفظ». فقد كان هناك خوف بأن تحتل اليابان الشاطئ الغربي للولايات المتحدة، وأن يصبح الأمريكيون من أصول يابانية، وكان أغلبهم يعيشون في الساحل الغربي للولايات المتحدة طابوراً خامساً لليابان. ومع المخاوف تنهض كل أشكال التعصب و التحيز و العنصرية.
وبدأت الإدارة الأمريكية … في إصدار الإجراءات التنفيذية له وتعليق منشورات، تشبه تلك المنشورات سيئة السمعة في الوجدان الأمريكي منذ أيام رعاة البقر، ومطلوب حياً أو ميتاً تظهر في كل الأماكن التي يعيش فيها أمريكيون من أصول يابانية، تطلب منهم تسليم أنفسهم للإدارة بعد التخلص من كل ممتلكاتهم خلال 48 ساعة، حتى يتم ترحيلهم إلى معسكرات اعتقال في قلب العمق الأمريكي» وبإمكان القارئ الرجوع إلى الكتاب لمعرفة المزيد من التفاصيل، حيث حرص الكاتب على الإحاطة الكاملة بالموضوع، وعلى تدعيمه بالصور، التي نعرض بعضها للمزيد من الايضاح، و نختتم مع الدكتور صبري: « ولك أن تتخيل ما جرى لأكثر من 128 الف أمريكي من أصول يابانية، ولد أكثر من 80 ألفاً منهم في أمريكا، ولا يعرف الكثير منهم اللغة اليابانية، حينما وجدوا أنفسهم في مواجهة هذا الأمر الرئاسي الغريب. فقد أضطر بعضهم لبيع بيوتهم ومتاجرهم بثمن بخس، وحتى الذين رفضوا بيع أملاكهم، وتصوروا أنهم سيعودون اليها قريبا، وجدوها مخربة ومدمرة، بعد أن لم يعودوا ليها إلا بعد ان وضعت الحرب أوزارها، وما أكثر أوزار الحرب التي لم تنته إلا بعد ثلاث سنوات، وبالاستخدام البشع للقنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي» وقد عمل الضحايا على مواجهة الأمر الرئاسي عن طريق المحاكم التي أيدت بادئ الأمر ما قامت به الحكومة، واستمرت المطالبة بالتعويض. يقول الكاتب: « وحينما عملت في أمريكا عام 1985، كان هؤلاء الأمريكيون من أصول يابانية، أو أبناؤهم لا يزالون يطالبون بالاعتذار والتعويض عن تلك الممتلكات التي دُمّرت أو بُيعت بثمنٍ بخس، وعن أكثر من ثلاث سنوات من أعمارهم أمضوها في معسكرات اعتقال بشعة، دون ذنب اقترفوه، اللهم الا لون بشرتهم، أو الأصل الذي انحدروا منه، في بلد يزعم أنه بوتقة الأجناس والثقافات. ولم تستجب الحكومة لمطالبهم إلا بعد أكثر من أربعين عاماً، ففي عام 1988 أصدر الكونجرس اعتذاراً لهم عما اقترفته الحكومة في حقهم، واعترافاً بأن الأمر الرئاسي كان ظالما وقائماً على العنصرية وليست له أي مبررات حربية، وإقراراً بأن حكم المحكمة العليا في قضية Korematsu وفي ثلاث قضايا أخرى مثلها كان خاطئاً، لأن الحكومة أخفت الكثير من الأدلة عن المحكمة، قدم تعويضاً مقداره 20 ألف دولار لكل منهم».