خليل المعلمي
إن التفكير في المستقبل يختلف عن دراسة المستقبل أو إجراء الأبحاث العلمية والأكاديمية عنه بطرق علمية ومنهجية، فالمستقبل هو اللحظة الحالية في حالة حركة للأمام، فلا انقطاع في الزمن، ولا مفر من التعامل معه بطريقة صحيحة..
فدراسة المستقبل ليست قراءة كف أو طالع أو تخمين، بل هي عملية بحث علمي في مجال ما، تبدأ من الماضي وتدرس الحاضر بعناية لاستبصار آفاق واتجاهات المستقبل وعوامل التغير فيه بشكل كلي، وتوقع إمكان اختلاف هذه الرؤى مع ما قد يحدث بالفعل في المستقبل.. فماذا أعددنا لذلك؟.
لقد أخذ الاهتمام المتزايد بالمستقبل وتوسعت الدراسات المستقبلية في مجالات شتى لدى الدول المتقدمة خلال العقود الماضية وساعد على ذلك التقدم التكنولوجي المذهل واختراع الحاسبات الإلكترونية والأقمار الصناعية، وكذلك التقدم الحاصل في الدراسات الإنسانية كالاقتصاد والسياسة والفلسفة وعلم الاجتماع وغيرها، ومن ذلك تغير الاقتصاد من اقتصاد يعتمد على الصناعات التقليدية إلى اقتصاد يعتمد على نظم المعلومات والتجارة الإلكترونية.
وأدى هذا التسارع إلى قلق متزايد لدى المجتمعات والخوف من المستقبل وما يحمله من مفاجآت وأحداث وإنجازات واختراعات ونظم وتسارع في نقل المعلومات وتبادلها والاعتماد الكلي على التكنولوجيا في كافة مسارات الحياة.
إن الدراسات المستقبلية لم تقتصر على الجامعات والمعاهد الأكاديمية، بل وصلت إلى إنشاء مراكز متخصصة للدارسات المستقبلية، تم إنشاؤها من قبل حكومات وبرلمانات بعض الدول كاليابان والولايات المتحدة الأمريكية، ولكننا نحن العرب لم نصنع أي شيء حيال ذلك.
علم المستقبليات
علم المستقبليات أو الدراسات المستقبلية: هو علم يختص بالمحتمل والممكن والمفضل من المستقبل بجانب الأشياء ذات الاحتماليات القليلة لكن ذات التأثيرات الكبيرة التي يمكن أن تصاحب حدوثها، حتى مع الأحداث المتوقعة ذات الاحتماليات العالية، مثل انخفاض تكاليف الاتصالات أو تضخم الانترنت أو زيادة نسبة شريحة المعمرين ببلاد معينة، وخلال الثمانينيات والتسعينيات تطوَّر علم دراسات المستقبل ليشمل مواضيع محددة المحتوى وجدولاً زمنياً للعمل ومنهجاً علمياً يتحدث مع عالم اليوم الذي يتسم بتغيير متسارع.
وقد تعددت سبل توجه الإنسان بفكره نحو المستقبل على مدار الفترات المتعاقبة تاريخياً وذلك من حيث الكيفية التي ينظر بها الأفراد إلى مستقبلهم من ناحية ومن ناحية أخرى من حيث تأثير القيم المعاصرة في كل زمان على وجهات النظر التي تسعى إلى تقديم إطار ما، لتفسير المستقبل، فعلى سبيل المثال: قدَّم أفلاطون رؤيته نحو ما يجب أن يكون عليه المجتمع مستقبلاً مستنداً على فكرة العدالة، فالدولة الفاضلة لدى أفلاطون وصفت من وجهة نظر فيلسوف يتعامل مع سياق اجتماعي وسياسي وحضاري معين، وكان أفلاطون يعتبر المستقبل رؤية لحياة أفضل.
نماذج للدراسات المستقبلية
وهناك أربعة نماذج للدراسات المستقبلية، وهي النموذج البديهي الذي يعتمد على الخبرة العملية، ولكنه يفتقر إلى وجود قاعدة كبيرة من البيانات والمعلومات، والنموذج الاستكشافي والذي يشير إلى مستقبل ممكن من خلال مثال يوضح العلاقات والتشابكات وهذه العلاقات والتشابكات تقوم على ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل والعلاقة التناغمية القائمة بينها، فمستقبلنا نرسمه في حاضرنا وحاضرنا كان مستقبل ماضينا.
والنموذج الاستهدافي أو المعياري وهو تطوير للنموذج البديهي ولكنه يستفيد من مختلف التقنيات العلمية المستخدمة، ونموذج التغذية العكسية ويركز هذا النموذج على جميع المتغيرات في إطار موحد يجمع النموذجين السابقين وذلك على شكل ردود فعل ولهذا فهو يعتمد على التفاعل على عدم نسيان الماضي وعلى عدم تجاهل الأسباب الموضوعية التي ربما تتدخل لتغيير مسار المستقبل، فهو يجمع بينها بما في ذلك البحوث الاستكشافية والبيانات والوقائع والبحث التنظيمي وأنه يعلق أهمية خاصة على الإبداع والخيال والتقدير، وهذا النموذج يمثل خطوة إلى الأمام بالنسبة للبحث المنهجي المستقبلي.
نجاح نسبي
لا شك أن نتائج الدراسات المستقبلية تكون نسبية إلى حد ما وتعتمد عناصر النجاح النسبي لدراسات المستقبل كما يحددها المختصون على توافر أقصى قدر ممكن من المعلومات الصحيحة والمتكاملة حول موضوع البحث، وتوافر الجدية والحيادية والموضوعية لدى الباحث بعيداً عن مشاعر التفاؤل والتشاؤم، وكذا توافر المناخ الملائم للبحث بعيداً عن الضغوط السياسية أو الدينية بالذات.
ولكي يصل الباحث إلى تصور مستقبلي يجب أن يقوم بخطوات أساسية منها: تحديد الموضوع المراد دراسة مستقبله جيداً، أو صياغة السؤال أو الأسئلة المراد الإجابة عليها صياغة واضحة دقيقة، وتحديد الإطار الجغرافي للموضوع والمدى الزمني المستقبلي المراد بحثه، والعمل على قراءة ماضي وحاضر هذا الموضوع جيداً والربط بين الظواهر واستخلاص نتائج ومؤشرات عامة.
ولا بد أيضاً من الربط بين الموضوع المراد دراسة مستقبله والموضوعات الأخرى المؤثرة فيه، سواء داخلياً أو إقليمياً أو دولياً وخاصة مع المتغيرات الأخيرة في ثورة الاتصالات والتكنولوجيا والمتغيرات الاقتصادية والسياسية الكبرى في العالم، والأخذ بالواقعية والموضوعية، والمرونة في التفكير وتصوير بدائل أو احتمالات للمستقبل.
أهمية الدراسات المستقبلية
للدراسات المستقبلية أهمية في منحنا الفرصة للحيطة ضد مخاطر المستقبل، وتمنحنا الفرصة لمحاولة التأثير في مستقبلنا، وأن نكون فاعلين لا مفعولا بهم، وتمنحنا الفرصة لفهم صحيح لما يجري حولنا، وكذا إتاحة الفرصة لنحسن من ظروف الحاضر أيضاً للوصول إلى مستقبل أفضل، أما على المستوى العلمي وتطبيقاته فإنها تحفظنا من أجل مزيد من الاهتمام به والابتكار فيه، كما تساعدنا على تنمية ملكات الخيال.
ولأهمية ذلك فمن المهم بمكان أن تتضمن مناهج التعليم في المدارس العربية ما تيسَّر عن دراسات المستقبل والتدريبات الممكنة عليه منذ المرحلة الإعدادية.
الحديث عن الماضي
وفي عالمنا العربي نلاحظ فقراً في الدراسات المستقبلية بمعنى الدراسات النظرية التي تتناولها مناهج وأساليب البحث في المستقبل بشكل علمي، أو الدراسات التطبيقية التي تطبق هذه المناهج والأساليب العلمية على حالات محددة وربما يكون ذلك أيضاً من علامات التخلف العربي، ويلاحظ النقاد أن الكتب العربية التي تظهر كلمة المستقبل في عناوينها تتحدث عن الماضي والحاضر أكثر مما تتكلم عن المستقبل، وليس بها أي تطبيق لمنهج علمي في البحث، لكننا نرجو في المستقبل الكثير من العزيمة والإرادة واستغلال عناصر العلم والعمل بها.