العامل الاقتصادي يَصنع التّاريخ والجغرافيا
وليد أحمد الحدي
كان ولا يزال للعامل الاقتصادي أثر كبير في صناعة العالم بشكله الراهن، بحدوده الجغرافية وتركيبته الديموغرافية والعلاقات السياسية التي تربط ما بين بُلدانه، لعب هذا العامل دوراً أساسياً مُنذ الخليقة الأولى حتى هذه اللحظة، فَالأديان والإيديولوجيات السياسية والاجتماعية والثّورات الصناعية والزراعية وحروب العصور الوسطى والاستعمار الأوروبي وظهور إمبراطوريات واختفاء أخرى, والحربين العالمية الأولى والثانية وحرب فيتنام وحرب الخليج والعدوان على اليمن و أحداث ما يسمى بالربيع العربي وحرب النجوم وسباق التسلح ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقاً, والحرب التجارية التي نشهدها اليوم ما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية, و الحروب البيولوجية وحتى الوسائل الترفيهية كالألعاب والسينما وكرة القدم, ما هي إلا أحد نتائج ومخرجات هذا العامل الذي بات يتحكم في صناعة الأحداث السالفة والمعاصرة، في تاريخ الجزيرة العربية لَعب العامل الاقتصادي دوراً هاماً في رفض قُريش فكرة الدين الجديد, حيث كان يشكِّل لها وضع ما قبل الرسالة المحمدية عائداً مادياً دفعها لمحاربة دين يمكن أن يَنال من هيبتها ويحرمها من الأسواق والمنتديات الأدبية والحجيج التي كانت تشكل مصدراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، حيث كانت القبائل تتوافد عليها من مختلف أنحاء الجزيرة العربية فضلاً عن سيطرتِها على طرق التجارة الرئيسة، لذلك لم تترك عبادة الأصنام إلا بعد أن ضَمنت وضعها المادي والاقتصادي في الدين الجديد من غنائم وفيرة كانت من نصيب المؤلفة قلوبهم, وبعد أن استعاد البعض منهم المُلك بعد سنوات من وفاة النبي الكريم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، والظّفر بمناصب في الدولة الإسلامية الجديدة بما يُحقق له مكاسب مادية عن طريق الخراج والإتاوات، ولا يخلو تكوين الإيديولوجيات السياسية والاجتماعية من تأثير العامل الاقتصادي؛ فالرأسمالية والاشتراكية تأسستا انطلاقاً من مبادئ اقتصادية بحته، ونجاح الأولى (الشكلي) كان نتيجة سيطرتها على الأنظمة الاقتصادية بالقوة العسكرية وانهيار الثانية بسبب فشل تطبيق نظريتها، كما أن النظريات الاجتماعية لعلماء الاجتماع أمثال ابن خلدون وروسو وكنْت وهيجل وغيرهم لم تخلُ في معظم حيثياتها ومبادئها من العامل الاقتصادي بحكم طبيعة النفس البشرية الميالة إلى الجانب النفعي والمادي.
لعِب العامل الاقتصادي أيضاً دوراً بارزاً في اكتشاف العالم الجديد بقاراته الثلاث بحثاً عن الثروة والمال والنفوذ، فكريستوفر كولومبوس الذي كان له الفضل في اكتشاف القارة الأمريكية لم يتمكن من تمويل حملته إلا بعد إقناع فرديناند وإيزابيلا حكام إسبانيا الموحدة بوجود أرض ما بعد المحيط الأطلنطي ستعود عليهم بالثروة الوفيرة والنفوذ، وكان له ما أراد واستطاعت أسبانيا بفضل تلك الاستكشافات من غزو واحتلال أرض الهنود الحمر سابقاً (الولايات المتحدة الأمريكية حالياً) والقضاء على إمبراطوريتي الإنكا والأزتيك واحتلال جزر الكاريبي ومعظم دول قارة أمريكا اللاتينية الناطقة باللغة الإسبانية حتى يومنا هذا نتيجة الاحتلال الأسباني، الأمر الذي حقق لها انتعاش اقتصادي جعلها في طليعة الدول المستعمرة، قدْ يستغرب القارئ اذا ما علم أن احتلال واستعمار بريطانيا لشبه القارة الهندية لم يكن له علاقة في بداية الأمر بالدولة البريطانية, وأن هذا الاحتلال الذي استمر لعشرات السنين كان في الأساس مشروعاً استثمارياً خاصاً بشركة تجارية تسمى شركة الهند الشرقية البريطانية، كانت هذه الشركة تمتلك جيشاً من المرتزقة قوامه ٣٥٠ الف جندي, وهو يفوق كثيراً عدد جنود القوات المسلحة البريطانية التابعة للمملكة !! استعانت هذه الشركة بأموالها الخاصة بالإضافة إلى أموال المساهمين من المستثمرين الأوروبيين لتغطية نفقات هذا المشروع وللاستفادة لاحقاً من عائدات الثروات ومن جهود العمالة التي سُخِّرت لصالحها، وفي عام 1858م قام التاج البريطاني بتأميم هذه الأرض مع الجيش التابع لها لصالح وزارة المستعمرات البريطانية، سخِر نابليون من البريطانيين واصفاً إياهم بأنهم أمة من أصحاب المتاجر. مع هذا، هزم أصحاب المتاجر هؤلاء نابليون نفسه وكانت إمبراطورتيهم الأكبر في العالم على الإطلاق.
احتلال هولندا لإندونيسيا هو الآخر مشروع تجاري كان عن طريق مرتزقة شركة الهند الشرقية الهولندية, وهي شركة خاصة استعمرت ذلك البلد لمدة ٢٠٠ عام استفادت خلالها من الثروات الكامنة فيه بعد أن حوَّلت سكانه إلى عبيد مسخرين لخدمتها، ومن ثم سُلِّمت تلك الأرض إلى الحكومة الهولندية لمدة 150 سنة تالية حتى نالت إندونيسيا استقلالها، حرب الأفيون أيضاً كانت بسبب خسائر فادحة مُنيَت بها شركات بريطانية نتيجة قرارات مُلزمة من الحكومة الصينية منعت الشركات البريطانية من تصدير المخدرات إلى الصين متسبّبة لها بخسائر فادحة، وبموجب معاهدة سلام ونتيجة لفارق القوة ما بين الدولتين سَلِّمت الصين هونج كونج للإدارة البريطانية كعقوبة على الخسائر التي لحقت بشركاتها، كما أن الاستعمار الفرنسي لجُزء كبير من القارة الإفريقية وتحويلها إلى منجم عملاق للألماس والذهب واليورانيوم بأياد عاملة من أصحاب الأرض كان احتلالاُ اقتصادياً ومشروعاً منظماً سُرِقت من خلاله الكثير من ثروات الشعب الأفريقي.
إن العمل على تقسيم العالم إلى شِق مُنتِج ومُستهلِك مردُّه اقتصادي صرف, وما انتشار العديد من المنظمات في دول العالم الثالث إلا لتدعيم اقتصاد دول الهيمنة التي تنظر إلى شعوب العالم وثرواتها على أنه حق أساسي لها لا يجوز المساومة عليه، كثير من هذه المنظمات أثبتت أنها مجرد أدوات لجمع المعلومات وتكبيل الشعوب وإغراقها بالديون..!!
ذلك يقودنا إلى حقيقة لا مَناص عنها وهي أن الاقتصاد باتَ هو العامل الرئيس الذي يصنع التاريخ والجغرافيا، وأن ما يتعرض له بلدنا اليوم من حرب وحصار وتجويع ومحاولة تقسيم لا ينفصل عن ما تعرَّض له كثير من بلدان العالم نتيجة الرغبة في السيطرة على الثروة والجزر والممرات المائية التي تشكل مصدراً اقتصادياً هاماً على مستوى المنطقة والعالم، هذه الثروة كفيله بإحداث تحوُّل اقتصادي كبير يُمكِّن البلد من الاستقلال بالقرار الأمر الذي يُشكل خطراً على كثير من دول تتأبَّط في اليمن شراً وترى في استقرارِه ونهضتِه خطراً يُهدّد أمنها الاستراتيجي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية..!!
ومن المُؤلم والمُحزن أن الحرب على بلادِنا التي ابتدأت بعدوان عسكري وبذرائع واهية أسقطها صمود يمني لم يسجل له التاريخ نظيراً, ثم لم يلبث حيناً من الزمن حتى كشف عن وجهه الأقبح بعدوان اقتصادي شَرِس نُهبت خلال سنواته خيرة ثروات الشعب اليمني من غاز طبيعي ونفط خام وأسماك وذهب، وتدمير ممنهج للمصانع والمزارع ووسائل الإنتاج لإحلال سلع و منتجات بلدان العدوان، وقد ثبت ذلك بالأدلة القاطعة التي لا يُنكرها عاقل لنكتشف في وقت متأخر أن الحرب والعدوان على الشعب اليمني المظلوم مُوِّل بثروات وعرق الشعب اليمني نفسه !!
ونتيجة لارتباط العامل السياسي الوثيق بالعامل الاقتصادي فقد سَعَت الأنظمة المعادية إلى إفقار اليمن ومُصادرة قراره السياسي عن طريق دعم نظام هزيل يتحكم في مصيره واقتصاده ومستقبله بالريموت كنترول لعقود خَلَت، وما الواقع البائس الذي نعيشه اليوم إلا أحد نتائج ذلك الزواج غير الشَّرعي!! ولإدراكها العميق أن الاستقرار والاستقلال بالقرار يعني استغلال أمثل للثروات المكدسة على ظاهر وباطن هذه الأرض؛ لذلك دأبت على تعطيل أدوات الإنتاج وخلْق حالة من الاستقرار السياسي انعكست سلباً على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلد والفرد اليمني ولا زلنا ندفع ثمناُ باهظاً لتلك السياسة.
* رئيس الجمعية اليمنية لحماية وتشجيع الإنتاج المحلي