اليمن وأئمة أهل البيت.. كيف صنعت الحكمة والإيمان دولة لأكثر من ألف عام؟
ق. حسين بن محمد المهدي
أمير المؤمنين الفاضل التقي الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب -عليهم السلام-، انتشر فضله في الآفاق، وبلغ مرتبة الاجتهاد في عصر الشباب وعمره ١٥ سنة. ذكر ذلك العلامة المحقق أحمد عبدالله الجنداري. ولمكانته العلمية التي اشتهر بها، وأخلاقه الرفيعة التي كان يتحلى بها، كاتبه أهل اليمن واستقدموه واختاروه أميراً للمؤمنين وخليفة يحكم المسلمين، وبايعه أهل اليمن كما بايعه أبو العتاهية ملك صنعاء وجاهد معه، واستشهد في بعض حروبه.
وقال المؤرخ النسابة أحمد بن محمد القرطبي: “كان قدوم الهادي يحيى بن الحسين إلى صعدة لست خلت من صفر سنة ٢٨٤ هجرية. وكان بين خولان فتنة عظيمة وربيعة، فأصلح بينهم واتفقت كلمتهم. فملكوه بلاد خولان، وساروا معه فملك اليمن، وكانوا عمود أمره ونظام دولته”.
وقال المؤرخ الذهبي: “إنه ملك اليمن ودعي له بصنعاء وما والاها، وضربت السكة باسمه”. وعده ابن حزم الظاهري من الأئمة القائمين بأرض اليمن، وأنه تلقب بالهادي، وله رأي في أحكام الفقه لم يبعد فيها عن الجماعة. وذكر النسابة علي بن أبي الغنائم العمري: “أن الهادي إمام جليل، وأنه الفارس الورع إمام الزيدية، وأنه كان مصنفاً وشاعراً، وكان يتولى الجهاد بنفسه”. وقال المؤرخ النسابة أحمد بن علي المعروف بابن عنبة: “إن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين كان إماماً من أئمة الزيدية جليلاً، وفارساً ورعاً، ومصنفاً وشاعراً، ظهر باليمن ولقب بالهادي إلى الحق، وكان يتولى الجهاد بنفسه ويلبس جبة الصوف، له تصانيف كبار في الفقه قريبة من مذهب أبي حنيفة”.
ليس ذلك فحسب، بل إن الإمام الهادي -عليه السلام- كان من أئمة أهل البيت، عُرِف بالحكمة والتقوى والفضل والشجاعة. وكان أهل اليمن من سبق إلى بيعته واختياره بعد أن تبين لهم ما حصل من الاستبداد في الدولة الأموية ثم العباسية، الذي انتشر آنذاك الفساد في حكمهم وتحويل المؤسسات الحكومية إلى أدوات لخدمة المصالح الشخصية بدلاً من الصالح العام. ولما ظهرت الفتن في اليمن، هرع أهل اليمن أهل الإيمان والحكمة إلى اختيار الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين من أهل البيت النبوي؛ بغية إزالة الآثار المدمرة للزظاستبداد التي حصلت بسبب ظلم وطغيان الدولة العباسية، وإصلاح ما نجم من فتن في اليمن.
فهو لم يأت بجيوش جرارة ليوطد حكمه، ولكنهم أهل اليمن أهل الإيمان والحكمة، أهل الصدق والوفاء، هم الذين اختاروه. فنشر علوم القرآن، وكانت سيرته عطرة على أخلاق النبوة. ولهذا امتد أثره، وكثر أتباعه، وبقيت الدولة والشوكة في أئمة أهل البيت عليهم السلام لأكثر من ١٢٠٠ عام؛ وذلك دليل على وجود الإدارة الحسنة، والالتزام بالتوحيد والعدل في العقيدة والسيرة. وحب أهل اليمن المتواصل في الأخذ بيد أهل بيت النبوة، أمر تفرد به أهل اليمن أهل الإيمان والحكمة.
فقيام دولة الزيدية في اليمن كانت استجابة لطلب قبائل اليمن، خاصة قبائل خولان وصعدة، فانتهت الفتن وانتشر العدل. وهي أول حكومة يمنية مستقلة في العصر الإسلامي أسسها الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، وخطب له على منابر مكة سبع سنوات. وحقق إنجازات علمية وسياسية رائدة، وأعلن مبدأ ثلاثياً يتلخص في قوله لأهل اليمن: “لكم عليَّ ثلاث: أن أحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وأقدمكم عند العطاء، وأتقدمكم عند لقاء الأعداء”.
وقد اشتهر بالعلم والحكمة، فألف كتباً نافعة منها: “الأحكام”، و”المنتخب”، و”الفنون” وغير ذلك. واشتهر بالزهد وإخلاص العبادة لربه، والحب لشعبه ورفاق دربه من أبناء اليمن والأمة الإسلامية. وكان يلبس جُبة الصوف، ويصرف الزكاة في مصارفها، ويقضي بالعدل، ويتولى بنفسه علاج الجرحى وإطعام المساكين. ويعتبر المؤسس الأول للمدرسة أهل البيت الفقهية في اليمن، والتي أصبحت مرجعاً كبيراً يقوم على العلم والإنصاف، حتى جاء من أحفاده وأتباعه الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى عليه السلام، مؤلف “البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار” وغير ذلك من المؤلفات النافعة. وكذلك الإمام يحيى بن حمزة مؤلف “الانتصار على مذاهب علماء الأمصار”.
فهذه المدرسة تحكي أقوال مذاهب الأمة وأدلتهم، وقليلاً ما يجد المطلع لـ”البحر الزخار” مثيلاً. وكذلك “شرح الأزهار” للعلامة ابن مفتاح فإنه حفل بأقوال العلماء جميعاً دون تعصب. فمدرسة أهل البيت في اليمن التي أسسها الإمام الهادي، تعتبر حافلة بأقوال العلماء، ونافعة لأبناء الأمة جميعاً.
كما أن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين حقق الإصلاح الاجتماعي في دولته، فقضى على الانقسامات بين قبائل خولان وبني الحارث وغيرها، وعمق روح الأخوة التي دعا إليها الإسلام. وحارب البدع والعقائد الفاسدة، مثل التشبيه والتجسيم في الدين، وذلك ثابت بشهادة المؤرخين السنة. فهذا الإمام ابن حجر يؤكد صحة نسبه القرشي الهاشمي ويقول: “لا شك في ذلك، وأنه لا يتولى الإمامة فيهم إلا من يكون عالماً متحرياً للعدل”، مشيراً إلى أنه تحقيق للحديث النبوي: “لا يزال هذا الأمر في قريش”. وكذلك ابن حزم الظاهري فإنه أشاد بفقه الإمام الهادي. وكذلك الذهبي فقد وصف الإمام الهادي بأنه: “حسن السيرة”، وأنه “خطب له بأمير المؤمنين”.
وقد توفي الإمام الهادي عام ٢٩٢ للهجرة أثناء استعداده لقتال القرامطة، الذين هددوا الكعبة وأخذوا الحجر الأسود منها آنذاك ثم أعيد.
وقد تتابع أئمة أهل البيت على نفس المنهاج الذي أسسه الإمام الهادي، وأثنى عليهم الإمام الشوكاني في مؤلفاته. وقد استمرت دولة أهل البيت لأكثر من ١٢٠٠ عام، وهي أطول دولة إسلامية متواصلة في التاريخ.
فالإمام الهادي -عليه السلام- فخر اليمن، ورمز العدل فيها. حيث لم يكن مجرد حاكم، بل كان مجدداً ومصلحاً جامعاً بين السيف والقلم. فقد جمعت سيرته بين التجديد الديني والعدالة الاجتماعية، فصنع دولة استمرت اثني عشر قرناً.
وها هو قائد المسيرة القرآنية السيد العلم عبدالملك بدر الدين الحوثي يجدد مسيرة الجهاد والاجتهاد، ويعلن الحرب على الصهيونية اليهودية نصرة لشعب فلسطين المسلم في ظروف عصيبة. وها هم أنصار الله من أبناء يمن الإيمان والحكمة يضربون أعلى مثل في الصدق والوفاء وإعلان الجهاد تحت قيادة قائد المسيرة القرآنية، يجاهدون بأموالهم وأنفسهم ويحققون انتصارات عظيمة في إعانتهم للشعب الفلسطيني، وصناعتهم الطائرات المسيَّرة والصواريخ فوق الصوتية.
فمواقفهم الإنسانية والإسلامية ستبقى محل فخر واعتزاز للأمة الإسلامية على مر العصور، وسينهضون بأعباء المسؤولية الإسلامية لإصلاح شؤون الأمة ونشر الإسلام في كل أنحاء المعمورة. فلهم من الله الأجر، ومن أبناء الأمة الثناء الحسن: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.