ثنائية القبيلة والسلطة في البعد الثقافي
عبد الرحمن مراد
كل الثقافات التي هزمتها الحركات الثقافية التجديدية عبر التأريخ أعادت إنتاج نفسها في سياق الثقافات المنتصرة، فالإلغاء والفناء للثقافات لا يمكن أن يتحقق لأي قوة في الأرض.
ولا يمكن التعامل مع الثقافات إلا من خلال البعد التراكمي والتهذيب والتشذيب وإحداث الهزات العنيفة من داخلها بمنهجية تفكيكية ومنهجية مقارنة، مع قدر من الرؤى الحداثية والمناهج التغييرية وما سوى ذلك عبث لن يكون قادراً إلا على مضاعفة المقاومة للجديد والمتغير، وهو الأمر الذي نلمسه في كتابات العديد من الكُتاب في الصحف السيارة، فالذين رأوا في الهدم طريقاً وحيداً للتغيير يعانون الآن هول الصدمة الارتدادية وهول النكوص النفسي، والذين رأوا أن لحظة سقوط النظام هي البساط السحري الذي سوف يطير بهم إلى أرض الأحلام وقعوا تحت طائلة الهوس النفسي والشرود الذهني وهول الاحتلال وهول التطبيع .
ومن هنا دعونا نعجّ على المضمون الذي هدفتُ اليه من هذا الموضوع والمتمثل في ثنائية القبيلة والسلطة كإشكالية تاريخية لم تزل تشكل حضوراً حيوياً وفاعلاً في المشهد العام للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.
فالثابت تاريخياً أن الدولة اليمنية القديمة كانت قائمة على تحالفات مجموعة من القبائل والعصبيات، وعندما يشعر أي فصيل من تلك التحالفات بالضرر أو الامتعاض ينفصل.. وقد تحدث التأريخ عن نشوء دويلات صغيرة في إطار الدولة المركزية الكبيرة، وثبوت ذلك في السياق التاريخي دلالة على ثقافة الندية والضدية التي شهدنا ملامحها في القرن الثالث الهجري في حركة الهيصم الحميري التي كانت التمهيد الأمثل لمشروع الملك علي ابن الفضل والمنصور ابن حوشب الذي كاد أن يشمل اليمن التاريخي كله.
ولعل فشل الإمام الهادي يحيى ابن الحسين في حملته الأولى المحددة تاريخياً في بعض المصادر بعام (268هـ) كان بسبب عدم إدراكه لذلك البعد الثقافي، إذ اضطر للعودة إلى الرس بعد أن شعر بخذلان القبيلة له، وحين عاود الكرة عام (286هـ) كان مدركاً لذلك البعد، فاتخذ من البعد الثقافي للمجتمع بعداً تشريعياً إذ أصبح من الخصائص التشريعية للمذهب الهادوي، فكان مبدأ الخروج على الحاكم الظالم وجواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل امتداداً لثقافة الندية ورفض الضيم عند القبيلة، وشكل مثل ذلك أفقاً واسعاً تحركت فيه الثقافة التاريخية للقبيلة اليمنية.
وبقدرٍ من التأمل في المسار التاريخي نجد أن المناطق الجبلية بكل تعقيداتها ووعورة مسالكها لم يلن جانبها إلا للسلطات التي كانت الاقرب الى طبيعتها وامتدادها الثقافي، ولذلك تحدث التأريخ عن مقاومتها للتيارات التي لا تلامس تلك الطبيعة وذلك الامتداد الثقافي.. ولعل الأقرب إلى الذاكرة مقاومتها للتيار السني ونتائج صلح (دعان) الذي انتزعت من خلاله الحكم الذاتي لنفسها دليل قاطع على سيطرة الثقافة التاريخية وقدرتها على تحديد المآلات.. ولم تكن الدولة المتوكلية (1918-1962م) التي كانت امتداداً للدولة القاسمية منفصلة عن ذلك الواقع بل كانت تجسيداً أمثل لذلك الامتداد الثقافي التاريخي، إذ دلت حركات التمرد لقبيلة حاشد على ثنائية السلطة والقبيلة وجدليتهما الوجودية، وتبعاً لذلك فحاشد لم تذهب إلى خيار الثورة في مطلع ستينيات القرن الماضي إلا حين شعرت باختلال تلك الثنائية وفقدانها لكثير من رموزها، كما أن الثورة لم يستقر حالها إلا حين أعادت القبيلة إنتاج نفسها في حركة (5 نوفمبر 67م) وعلى إثر ذلك تم التصالح وتقاسم السلطة في واقع لم يكن إلا مضطرباً وقلقاً ظلت تشيع فيه الفوضى إلى أن جاءت حركة (13 يونيو 74م) التي حاولت أن تبعث فيه روح الاستقرار والتنمية، فلم يطل عمرها بسبب محاولة الحركة فك الارتباط بين ثنائية السلطة والقبيلة، وحين جاءت سلطة (17 يوليو 78م) كانت تدرك تلك الثنائية فتماهت القبيلة في السلطة التشريعية وفي المؤسسة العسكرية وفي السلطة التنفيذية فغابت الدولة وحضرت العصبية القبلية وظلت الدولة تراوح بين الحضور والغياب إلى أن بلغت حالة الاحتقان ذروتها في احتجاجات 2011م التي حضرت فيها القبيلة بجناحيها الاجتماعي والعسكري في محاولة لحجز موقعها في خارطة المستقبل السياسية.
من حق القبيلة أن تشارك في صناعة الفعل السياسي لكن من خلال المؤسسات المدنية ومن خلال العملية الديمقراطية والتماهي والتكيف مع قيم ومبادئ الدولة المدنية الحديثة، التي يجب أن يكون القانون فيها هو الفيصل، وعدالة التطبيق للقانون وتحقيق سيادته له مرجعيته في البنية الثقافية المجتمعية، فالعرف القبلي لم يكن حاضراً إلا حين غابت بدائله، والطبيعة اليمنية هي الأقرب إلى التنظيم والانتظام، فالعرف في بعض قواعده كان وما يزال هو الأقرب إلى قيم ومبادئ الدولة المدنية التي أبدع الإنسان مكوناتها في عصور مختلفة من التأريخ.. وقضية الإنسان منذ فجر التأريخ هي قضية حق وعدل ومساواة وشعور بالوجود وقضية حرية، ولم تكن صراعاتها إلا بحثاً عن تلك القيم والمبادئ، وحين يشعر بها فهو بالضرورة الأقرب ميلاً إلى السلم والحياة الآمنة والمستقرة.
إذاً يمكن أن يقال إن قضيتنا في هذه اللحظات التحولية هي إدراك الأبعاد التاريخية الثقافية والاجتماعية والتهذيب والتشذيب والبناء، ذلك أن الهدم يخلق كيانات مقاومة ومتصارعة، والبناء وتحديث المتراكم صناعة جديدة لمستقبل أجد يمتد من ماضيه ويتغاير عنه ويتفاعل مع لحظته.