تزاوج الرقابة المالية والمراجعة الداخلية

 

أحمد ماجد الجمال

عملية الرقابة المالية لمعظم الجهات التابعة للسلطة التنفيذية تمر عبر عدة جهات مثل وزارة المالية وعادة ما يتضمن قانون الموازنة أحكاما تمنع استخدام الاعتمادات والمخصصات لغير الأغراض المحددة لها ولا تسمح بعقد أي نفقة مقابل إيراد معين أو صرف أي نفقة ليس لها مخصصات في الموازنة وتحظر نقل المخصصات من باب لآخر أو من فصل لآخر إلا بضوابط وإجراءات قانونية تضبط عملية نقل المخصصات .
وفي هذا الإطار تقوم وزارة المالية بمتابعة طلبات النفقات من جميع الوحدات العامة وتراجع الموقف المالي الشهري والتحقق من صحة ودقة وحدود وغايات المخصصات المرصودة لكل جهة وتتابع بشكل مستمر النفقات وتدفق الإيرادات .
تستند رقابة وزارة المالية بشكل أساسي إلى النظام المالي الذي استلزم منحها صلاحية بناء هيكل تنظيمي داخل وحدات الحكومة تحت مسمى الشؤون المالية والحسابات بهدف مراقبة تطبيق أحكام النظام المالي والتي تعتبر الذراع الرقابي لها والاضطلاع بالرقابة المالية السابقة والمصاحبة واللاحقة على العمليات المالية وهذا الدور المهم والحساس الذي تقوم به من خلال إعداد وتنفيذ الموازنة أو الإطار العام للإنفاق يتم ويتفق مع التشريعات لاتخاذ إجراءات رقابية بتتبع سير الحسابات الحكومية ومعاملاتها المالية حيث حدد النظام مهامها من قيام تلك الوحدات بتطبيق التشريعات المالية ذات العلاقة والتدقيق لكل أنواع النفقات والتأكد من تحصيل كافة الإيرادات وقيدها بحسب تبويب الموازنة والقيام بعمليات التفتيش المستمر والمفاجئ لمختلف الوحدات بهدف التأكد من سلامة الإجراءات المالية وصحة البيانات المحاسبية وبيان مدى الالتزام بالتشريعات المالية إضافة الى عملية حفظ الوثائق والمستندات والسجلات المحاسبية الورقية وأدوات الحماية لمثل تلك الوثائق إلكترونياً في أماكن آمنة ومن تسجيل كافة المعاملات المالية في السجلات الخاصة بها وأن تقوم جميع الوحدات الحكومية بإعداد التقارير المالية الشهرية والدورية وميزان المراجعة اليومية في مواعيدها دون تأخير.
ومن ثم تأتي متابعة استيضاحات الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وهو الجهة المشاركة في عمليات الرقابة اللاحقة بالتدقيق والفحص والتحقق من المخالفات المالية التي تحدث والرفع بالمقترحات والمعالجات والتوصيات إلى الجهات العليا ومتابعة القرارات التي تصدر بشأنها .
لكن لا أحد يستطيع الانكار بأن هناك الكثير من القصور في أنظمة الرقابة المالية بما في ذلك نقص التأهيل والحاجة لمزيد من التنسيق والتكامل بين كل المستويات داخل الجهة والجهات الأخرى ذات العلاقة وضعف آليات المتابعة لنتائج الرقابة والتدقيق، فالوظيفتان التي تقوم بهما الشؤون المالية لم تعدا ترقيان إلى مستوى أدوات الرقابة الناجحة بسبب تقادم آلياتها المتضعضعة والهشة التي تدفع بمخرجات ضعيفة غير مهيأة حتى للمتابعة والمحاسبة، وعلى عكس ذلك هناك عماد قوي لن تنتجه سوى المراجعة الداخلية وبالتالي لا بد من بذل مزيد من الجهد والاهتمام بهذا الجانب للارتقاء بالرقابة والمراجعة إلى المستوى المأمول وبما يحقق مساهمة نوعية.
ولأن الرقابة المالية لها اتجاهان، الأول: الرقابة الإدارية وتشمل خطة التنظيم والوسائل والإجراءات لتحقيق اكبر كفاءة في العمل ومخرجاته، والثاني: الرقابة المحاسبية وهي كافة الخطوات الهادفة الى تحقيق اختبار دقة البيانات المثبتة بالدفاتر والسجلات والدورة المستندية ودرجة الاعتماد عليها والوقوف على سلامة المعالجة المحاسبية وحماية الأصول، بمعنى أنها تضع الضوابط التي يجب إدارة الأعمال على أساسها، في حين أن المراجعة الداخلية تضع الضوابط التي يجب أن تدار على أساسها كنشاط اكتشافي يحقق التأكد من تنفيذ قواعدها, بمعنى أن الرقابة المالية هي جميع الإجراءات التنفيذية للقوانين واللوائح والأنظمة الموضوعة للحفاظ على المال العام والأصول من أي شكل من أشكال الفساد وصحة التقارير المالية من الأخطاء المقصودة أو غير المقصودة أو الغش والاختلاس، أما المراجعة الداخلية فتهدف إلى التطبيق الصحيح لنظام الرقابة المالية ومراجعة جميع الوثائق والمستندات ومقارنتها مع القوانين واللوائح والأنظمة المنفذة واتساقها مع الأهداف العامة لأنها تصب في مصلحة العمل كما أنها تقدم خدمات أخرى للإدارات والموظفين من خلال بيان الأخطاء والثغرات التي تتسبب في حدوث خلل في العملية التشغيلية والمالية وتحقيق الأهداف، فالإنسان بطبيعته ليس معصوما من الخطأ البشري، وبقدر ما تزداد مشكلة التجاوزات أو الانحرافات والتدليس والرشوة والتزوير، فإنه بالمقابل هناك أدوات متطورة وفاعلة في أعمال المراجعة الداخلية صالحة وقادرة على فهم تلك المخاطر والتحديات، كما أن التثبت من تطبيق السياسات والإجراءات المعتمدة لا يعني أن هناك سوءاً للظن بل لتصحيح مسار العمل، ما يستوجب تطبيقها وأهمية تفعيل دورها بإعطائها الصلاحيات الواسعة وتوفير الوسائل النظامية والمادية والتقنية والبشرية واستخدام أحدث الوسائل والأدلة للمراجعة الداخلية كون دورها مهماً في تحسين الأداء في مجال تطوير النظام المالي والمحاسبي والدفع أكثر بدور الرقابة المالية، حتى تؤدي المهمة المنوطة بها على أحسن وجه وتحقق عدة أهداف، منها حماية الأموال العامة وتوجيه الإنفاق وكفاءة الأنظمة المالية والكشف عن أوجه القصور والنقص فيها وضبط تدفق الإيرادات إلى قنواتها القانونية واقتراح وسائل المعالجة وتلافي الثغرات لخدمة التنمية والنمو.
والمراجعة الداخلية ليست مهارة فقط بقدر ماهي رؤية جديدة تعود فكرة تشكيلها إلى نهايات عقد التسعينيات من القرن الماضي على مستوى العالم وخاصة بعد الأزمات المالية العالمية المتكررة، فقد تضمن إطار التشكيل تحديد المهام والمسؤوليات والهدف العام ونطاق العمل ومجالاته والموقع في الهيكل التنظيمي وبعدها استمرت التحديثات والنقلات النوعية خلال العقدين الأخيرين من القرن الحادي والعشرين عندما تم تأطيره تشريعيا بشكل متكامل حدد منهجية عملها وأضفى عليها الصفة القانونية برسم معالم تطويرها ورفع مستواها وتكاملها مع الأجهزة الرقابية الأخرى وعززت موقفها بإصدار معايير المراجعة الداخلية باعتماد معايير الرقابة المالية الدولية في الرقابة على المال العام ليتيح العمل بها في كافة وحدات الحكومة سواء كان الجهاز الإداري للدولة أو وحدات القطاع العام والمختلط أو هيئات مستقلة ماليا وإداريا، كون العمل المتقن للمراجعة الداخلية عاملاً داعماً للجهات الرقابية سواء الرسمية أو حتى المجتمعية، لأنه يوفِّر عليها الجهد ويقلِّص العديد من المخاطر خاصة وأن وحدات المراجعة قادرة- ليس فقط على القيام بالأعمال التقليدية مثل التدقيق والفحص على المستندات- وإنما أيضا على إحكام الرقابة وتقييم الأداء وتحسين مخرجات الأعمال المختلفة وتوفير البيانات التفصيلية لكل عملية مالية وإدارية والتي يمكن أن تشكل قاعدة لقرارات جيدة لا تكون أداة لاكتشاف الأخطاء والتجاوزات والمخالفات فحسب وإنما ايضا وسيلة لمنع حصولها مسبقاً من خلال عملها كأداة استباقية وبما يشير إلى مواطن الضعف ويعالج الثغرات ويقرع جرس الإنذار بخصوص المخاطر المحتملة ويوفر نظاماً رقابياً كفؤاً وفعالاً على الأموال العامة وصيانتها وضمان استخدامها وجبايتها وبما من شأنه معالجة جوانب الضعف والاختلالات في نظم الرقابة, وهذا يتطلب إجراءات ميدانية، قد لا تكون الرقابة المالية الخارجية أو حتى رقابة وزارة المالية قادرة على القيام بها .
إن المراجعة الداخلية وجدت لتحقق أهداف الوحدة ورسالتها والتقليل من المخاطر المحتمل حدوثها وإيجاد بيئة رقابية مناسبة وتفعيل دورها بوضع جهاز رقابي مهم داخل الوحدة له معاييره التنظيمية وضوابطه المهنية ،إذ لم يكن هناك للمراجعة الداخلية في السابق وجود الأمر الذي ساعد في تعميق فجوة عدم فهم طبيعة أهدافها ومهامها على وجه العموم .
الإطار التشريعي للرقابة سواء كانت رقابة وزارة المالية أو المراجعة الداخلية يرسي دعائم صلبة وراسخة لرقابة فاعلة ذات كفاءة، ولكي تتحقق هذه الغاية لا بد من رفع كفاءة العاملين بشكل مستمر مع مراعاة اختيارهم وفقاً لأسس علمية بما يتفق مع المهام المكلفين بها، فعندما يتم رفع مستوى كفاءة المراجعة الداخلية تبرز أهمية التجانس والتكامل والتزاوج بين الرقابة المالية والمراجعة الداخلية كمرحلة أولى باعتبارها خط الدفاع الأول في منظومة الرقابة والمتابعة، وكلما كانت منظمة ومرتبة بأسس علمية مجربة تزداد مساهمتها في الحفاظ على المال العام وترسِّخ القدرة على إرساء قواعد عمل مؤسسي فاعل ، ولا شك أن عملية الدمج الفعال بينهما سينتج عنه نظام رقابي متكامل ورقابة كل منهما على الآخر ستساعد على تحسين أداء وحدات الحكومة بطريقة منهجية بما يعزز من فاعليته ويجنب الوقوع في الأخطاء والمخاطر.
ومن ثم تأتي بعدها منظومة رقابية قوية ومنضبطة اساسها المراجعة الداخلية يمكن حينها وبالتدرج إحلالها عن وحدات الرقابة المالية التابعة لوزارة المالية، ناهيك عن أن أثر ذلك سيتيح أكثر تسيير وتسهيل المهام التي يقوم بها الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة في الرقابة اللاحقة وكذا السلطات التشريعية والقضائية مما يعني منحها مساحة أوسع لرفع مستوى تقييم الأداء والمحاسبة.
باحث في وزارة المالية

قد يعجبك ايضا