أمريكا “الظاهرة الترامبية”
أحمد يحيى الديلمي
بكل المقاييس، شكل الرئيس الأمريكي المهزوم إن شاء الله “ترامب” كابوساً حقيقياً مرعباً ليس لأمريكا فقط بل لكل دول العالم، وفي المقدمة من اعتبروه حليفاً خاصاً بهم حيث سمعناه يُعنف بشدة وصلف حُكام الخليج ويصفهم بالعجز التام عن حماية أنفسهم لكي يطالبهم بتكاليف الحماية، وبالفعل دفعوا مُكرهين خاصة بعد زيارته للسعودية، وكان الأكثر انقياداً واستسلاماً له الأمير والشيخ محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، فقد انقادا لكل توجيهاته وأوامره ونفذا كل طلباته مرغمين، وهنا تكمن الغرابة من موقفهم الحالي المتأرجح تجاه ما حدث في أمريكا، فلم يبادرا إلى تهنئة الرئيس الفائز إلا بعد مُضي أيام وكانت تهنئة ميتة، بينما لا يزال الإعلام السعودي والإماراتي والمصري والصهيوني يصب باتجاه دعم فكرة حدوث تزوير وأخطاء كبيرة ستحقق المعجزة وتُعيد ترامب إلى البيت الأبيض بعد إسقاط النتائج المعلنة “عشم إبليس في الجنة ” لأنهم والعالم على يقين أن الرجل ودع الملايات في هذا البيت، بل غادر كلياً صفحات التاريخ فليس من المعقول إطلاقاً أن يُكرر المجتمع الأمريكي الخطأ الفاحش الذي أقدم عليه بانتخاب “ترامب” لأنه مثل خروجاً كبيراً وفاضحاً على القيم والتقاليد التي ترسخت في أذهان الأمريكيين ومثلت خصوصية ميزت نهج هذه الدولة ، وفتحت المجال أمامها للهيمنة على العالم بعد أن تحول النمط الرأسمالي المعولم إلى حضارة العصر ولكن بنكهة أمريكية منذ أن استولت على ناصية القرار الدولي عقب تفكك القطب الآخر الاتحاد السوفييتي، وكما نعلم أن النموذج الأمريكي قام على أنقاض الرأسمالية الأوروبية ، فجاء ترامب ليُمثل تغييراً جوهرياً في السياسة الأمريكية بالذات تجاه الشرق الأوسط وفلسطين على وجه الخصوص، ومع أننا في هذا الشرق لا نعول كثيراً لا على ترامب ولا على بايدن فالسياسة الأمريكية معالمها واضحة وتعتبر دولة الكيان الصيهوني خطاً أحمر ، ولا فرق في هذا إذا كان الرئيس جمهورياً أو ديموقراطياً ، وهذا سبب العداء الصارخ بين أمريكا وإيران مع أن أمريكا ساعدت ثورة الخُميني ورفعت الغطاء عن الشاه الذي كان حليفها لعقود من الزمن، هذا الأمر تغير مباشرة من اليوم الرابع للثورة لأن إيران أقدمت على خطوة جرئية تمثلت في طرد السفير الإسرائيلي من طهران وتسليم السفارة إلى ممثل منظمة التحرير الفلسطينية وهو ما أغضب أمريكا وجعلها تندفع لشيطنة إيران وتعتبرها عدواً وحيداً في العالم، إلى غير ذلك من الاتهامات والحجج حيث تمكنت أمريكا من توظيف هذه العملية لتأجيج بوصلة العداء بين إيران ودول الخليج المجاورة، بل وتحويل إيران إلى بُعبُع يهدد هذه الدول التي سلمت بهذه المقولات الساذجة ، بما يوحي أن رايات الخدور ما تزال هي القائمة في هذه الدول النفطية وهي التي تجمد العقول وتجعل البشر ينصاعون لأي دعايات كاذبة ، مثل قولهم الآن إن إيران هي من تحارب في اليمن بلا دليل أو سند يؤكد هذه المقولة الكاذبة .
وهنا لابد أن نعود إلى الوراء لنستعيد ذلك التصريح الخطير الذي أطلقه الرئيس الأمريكي الاسبق “جيمي كارتر” أثناء احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران، حيث قال (إيران تعتبر الخليج الخاصرة الناعمة للانتقام من أمريكا استناداً إلى الأوضاع الهشة لقيادة هذه الدول وما لديها من وفرة مالية )، انتهى كلام كارتر ، كان هذا أول مؤشر للعداء جعل أمريكا تُراهن كثيراً على دول الخليج وتدفعها مكرهة إلى دعم الخزينة الأمريكية والعداء الصارخ لإيران، مما حول إيران إلى بُعبُع ومصدر لإثارة الخوف والرعب والقلق لدى دول الخليج .
وعلى هذا الأساس اكتمل الحلف الحالي بين كل من مصر ودولة الكيان الصهيوني ودول الخليج تحت غطاء ما سُمي بدول الاعتدال لمواجهة محور المقاومة، وربما هذا هو ما جعل الخليج وبالذات السعودية والإمارات ومعهم إسرائيل ومصر يراهنون على ترامب ويعتبرونه المنقذ، ويهرولون باتجاه التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني كحليف مُكمل للدور الأمريكي، لأن العدو الوهمي المعني بإيران أفقد قادة هذه الدول الرُشد وأصبح الخيار الوحيد لهم هو التحالف مع دولة الكيان الصيهوني وإسقاط القضية الفلسطينية من دائرة اهتمامات هذه الدول ، وبذلك نفسر موقفهم الحالي الرافض للاعتراف بالرئيس الفائز ووقوف إعلام هذه الدول الجنوني مع “ترامب” وكأنهم اتفقوا على أن الجنون هو الطريق الأمثل للخروج من دائرة الخوف ، إنها مجرد تهويشات ملأت رؤوس هؤلاء الأمراء .. فأين الحقيقة ؟! أنا أزعم أنه لا يمكن لأحد الآن أن يقرر الحقيقة بكامل تفاصيلها إلى أن يُصدر القضاء الأمريكي حُكمه، فالواقع أن من حق دول الخليج وترامب أن يُشككوا في كل شيء ، لكن ليس من حقهم أن يسقطوا إرادة الناخب الأمريكي ، ولا أن يصنعوا السياسة في هذه الدولة لأن الانحياز لطرف دون آخر في وضع شائك مثل هذا شيء سيؤثر على سياسة هذه الدول في المستقبل ، بصرف النظر عن التصريحات التي صدرت عن بايدن في فترة الحملة الانتخابية، إلا أن التصرفات الشخصية لترامب تدخل في إطار الظاهرة الترامبية التي حاول إسقاطها على الواقع منذ أن دخل إلى البيت الأبيض، فأصبح مصدر الاختلافات والصراعات ، ومن المؤكد أن معطيات الواقع أصبحت هشة بعد أن أصُيبت بعلة هذه الظاهرة ، وإلا ما كانت الأمور ستصل إلى هذا الحد في أمريكا المعروفة بتقاليدها الديمقراطية ، ولن يُسمح لشخص مثل ترامب بإطلاق تلك الصرخات الهستيرية متهماً الدوائر الانتخابية بالتزوير والتعصب ضده .
دعونا نتأمل الواقع لنعرف من هو الأجدى بالثقة وعندها سنُسلم بدون جدال ، أن مساحة العلة بدأت تتسع في أمريكا وتُنبئ بأشياء غير حميدة لهذه الدولة وهذه هي سنة الحياة، فأي حضارة تسود وتُهيمن سرعان ما تضعف وتتآكل تمهيداً للزوال وانتقال الهيبة والهيمنة إلى جهة أخرى ، إنها حقيقة موضوعية لا يرقى إليها الشك تؤكد أن الرؤى والنظريات البشرية معرضة للزوال وأن المنهج الثابت والدائم المتسم بالخلود هو المنهج الإلهي وهذه أعظم حقيقة لا يمكن تغييرها مهما تعددت الظواهر بما في ذلك الظاهرة- الترامبية ، لكن الشيء الذي لا يمكن تجاهله أن الموقف الخليجي وإن حاولت هذه الدول تجاوزه بعد رسوخ العملية- سيظل غصة لدى الرئيس المنتخب ولا أستبعد في هذه الحالة أن أمريكا هي التي ستتخلص من دول الخليج وستعتبرها عبئاً ثقيلاً عليها في القريب العاجل إن شاء الله .. والله من وراء القصد ..