أ.طه هادي الحاضري
لكي نفهم ما حصل يوم الغدير فهماً صحيحاً ينطلق من نفس اليوم ولحظاته ووقائعه، لا بد أن نتجرد من المؤثرات التي أثرت على فهم الغدير، وأن نتحرر من العقائد السياسية التي قولبت الولاية في الغدير في إطارها، والتي انبثقت منها المذاهب التي طرأت على الإسلام من بعد رحيل النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وتطورت حتى عصرنا هذا، وأيضاً لا بد أن نخرج من السجن التاريخي في الفهم إلى استلهام الحلول لمشاكلنا المعاصرة، كأمة. وأن نتحسس واقعنا التعيس والمخاطر المحدقة بنا، وأن نكون بمستوى ما حدث، ألا نجعل بيننا وبين ذلك البيان النبوي أي حواجز مذهبية أو طائفية أو مواقف سياسية، وأن نزيل العوائق التي تعترض الفهم الصحيح للولاية في يوم الغدير
لكي نفهم الغدير لا بد أن لا نخضع الغدير لأمرين:
الأول: قضية تقدم غير الإمام علي عليه السلام للخلافة وجعل هذا الأمر حاكماً على ما حدث في يوم الغدير رغم أنه حصل بعد الغدير مما دفع كثير من الناس إلى أن يتأولوا فعل وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يتعارض مع من تقدم الإمام عليًا عليه السلام المنصوص عليه في حديث الغدير بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من كنت مولاه فعلي مولاه)
هذه القضية حين تطفو على السطح تغلق الباب عن أي فهم أو حتى أدنى تفكير في الغدير الذي حصل ووقع فعلاً وحدث في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفعله النبي نفسه. وهذا ما ينبغي أن يُدرس منفصلا عن تأخير الإمام علي عليه السلام وتقدم غيره قبله الذي حصل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولهذا لا يستوعب من يحكم الغدير بما حصل بعده قضية الولاية في الإسلام والتي هي أكبر من قضية قداسة أشخاص أو تخطئتهم وسحبها إلى مربع قضية التطرف والمذهبية والطائفية. بحجة سب الصحابة. رغم أنه لا سب، ولا تجريح وهم بشر يخطئون ويصيبون.
وهذا الفهم للأسف أيضاً يسيطر بشكل أو بآخر على بعض من يؤمن بحديث الغدير وبولاية الإمام علي عليه السلام من باب أنه يجعل الحكم على من تقدم الإمام علياً عليه السلام الأصل وكأنه مخول بالحكم في هذه القضية فيتيه ويُتوّه عن ولاية الإمام علي عليه السلام ويسئ إليها وينفر عنها ويحجز كثيرين عن فهمها ويجيرها كأن المقصود منها نصب محكمة لمن تقدم بالخلافة.
الثاني: العقائد السياسية الدينية بين المسلمين والتي أتت بعد الغدير بمدة طويلة فعقيدة طاعة ولي الأمر الظالم وشرعنة الواقع والغلبة ينسف الغدير عند معتقد هذه العقيدة، وكذلك العقائد المستندة إلى تقدم غير الإمام علي عليه السلام للخلافة في حياته والتي أخذت مسمى أهل السنة. ومن المهم أن نذكر أن العقائد المذهبية الشيعية أيضًا حكمت الغدير بسجنه خلف قضبان تلك العقائد، فمعنى الغدير الواسع والولاية العظمى ينصدم بعقيدة الاثني عشر إماماً معصوماً آخرهم غائب أكثر من ألف سنة، ومُنتظر ظهوره وخروجه وتعجيل فرجه أو بعقيدة أن الولاية لا تصلح إلا في الفاطمي وأنها محظورة ومحرمة على غيره فلا تجوز في غيره ولو كان عادلاً تقياً يتوفر فيه كل ما يؤهله للولاية إلا النسب النبوي.
هذه العقائد التي طرأت بعد الغدير بمدة طويلة فأصبح الغدير مجرد رافعة مذهبية، والدليل على ذلك أن الشيعة المؤمنين بالولاية والغدير يختلفون على الولاية بعد الإمام علي والحسنين عليه السلام عند الإمام جعفر بن محمدعليه السلام والإمام زيد بن علي عليه السلام وهو اختلاف حاد مثل اختلاف الشيعة مع السنة في الإمام علي عليه السلام ومن تقدمه بالخلافة.
وهذا الاختلاف في الأئمة والعقائد السياسية المذهبية يدفعنا إلى القول إننا بحاجة إلى فهم الولاية بشكل أوسع، وأن نتخطى هذه العقائد ونحن هنا نتكلم بإجمال ولا ندخل في تفاصيل الاتفاق أو الاختلاف مع هذا الطرف أو ذاك.
ولذلك ينبغي لنا لكي نفهم الغدير أن نفكر بعقولنا لا بعقول غيرنا سواء شخصيات تاريخية أو معاصرة، وسواء أئمة أو علماء. لأن المسألة ليست فقهية وليست تقليدية.
ولكي نفهم الغدير يجب أن نبتعد عن الفلسفات حول “الولاية” التي أخرجتها عن واقعيتها، وعن اعتبارها قضية تاريخية أو مذهبية، بل يجب أن ننظر إليها كحل عملي يمكن تحقيقه على أرض الواقع وإصلاح الشأن السياسي في أي بلاد وعلى مستوى الأمة، وأن نأخذ القضية بجدية ونعتبرها نظاماً سياسياً إسلامياً واسعاً يعالج الاختلالات ويحل الإشكالات والتناقضات في قضية السلطة والحكومة وولاية الأمر.
ولكي نفهم الغدير علينا أن لا نأبه للإرهاب الفكري والتحريض المذهبي وتخويننا وكيل الاتهامات لنا بحجة أننا نخالف. والطريف في الأمر أنه حتى من تتفق معه في كثير من التفاصيل وبمجرد الاختلاف معه في جزئيات سيشن عليك حملة تحريض وتشهير وتنقيص وإن كنت أنت وهو شيئاً واحداً وهذه مشكلة المسلمين بشكل عام حيث لا يهتمون إلا بالخلافيات والولاء والبراء عبرها.
ولكي نفهم الغدير لا بد أن نفرق بين الغدير وبين ومن يسئ له ويستغله ويشوهه. ولا بد أن نرفض المبالغة والغلو في طريقة الاحتفالات بالغدير والرسائل السلبية واعتبار الغدير عيد الله الأكبر وأفضل يوم طلعت عليه الشمس وغيرها مما لا سند له ولا دليل.
ومن أهم الإشكاليات في فهم “الولاية” في يوم الغدير هو نظرتنا إلى بعضنا البعض في قضية “الولاية” نفسها من حيث من لا يؤمن بها كيف ينظر إلى من يؤمن بها والعكس وكيف نتعامل مع الكتب الأصولية في هذه القضية والأحكام القاسية ضد الآخر حتى وصلت الحالة إلى مدخل للتكفير واستغلال الأعداء له والولاء والبراء والتطرف والشحن المذهبي والطائفي وقضية أهل البيت عليهم السلام والصحابة رضي الله عنهم.
ولكي نفهم الغدير يجب أن نفهم معنى الولاية بدءًا من ولاية الله تعالى وأن نفهم ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علينا في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) لأن ولاية الإمام علي عليه السلام وهي الأساس والنموذج والامتداد للولاية بعد الرسول حتى نفهم من نتولى؟ وكيف نتولى؟ وذلك قول رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كنت مولاه فعلي مولاه). وهذا النص هو النص المتواتر والمتفق عليه. ففهم الولاية يبدأ من فهم ولاية الرسول والتي ليس حولها خلاف فكيف ولاية الرسول علينا؟ هل هي مجرد سلطة؟ هل هي حكومة فقط؟ هل هي الأمر والنهي والملك والسياسة؟ أم هي رعاية وهداية وتربية وحرص ورحمة وأخلاق وقيم ومبادئ وعمل صالح؟ وعندما نفهم معنى الولاية سيسهل فهم الكثير فيما يتعلق بها من أمور أخرى.
الفهم العالمي والإنساني
من خلال التأمل لزمن ومكان وطريقة تبليغ وإعلان ولاية الإمام علي عليه السلام تتضح لنا عالمية الولاية وإنسانيتها وسعتها وأهميتها وضرورتها.
فيوم الغدير هو يوم إسلامي عالمي مشهود وعند تناولنا له يجب أن نأخذ في الاعتبار أن الإسلام هو دين الله العالمي ولكل الإنسانية وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسول إلى الناس جميعاً ولكافتهم وأن القران هو الكتاب الإلهي الرباني وهو الوحي الباقي المحفوظ من كل تحريف وأنه نزل لهداية الناس كل الناس بمختلف جنسياتهم وألوانهم ولغاتهم وقومياتهم.
ويوم الغدير بذلك هو يوم إنساني. لأن الإسلام جاء من أجل الإنسان. فبالنظر إلى توقيت يوم الغدير نجد التوقيت ينقسم إلى قسمين عام وخاص.
فالتوقيت العام هو أن الغدير جاء في النبوة الخاتمة وفي ختام سلسلة النبوءات والرسالات وبعد سلسلة طويلة من الأنبياء والرسل وتتويجاً لجهود الأنبياء والرسل فيما يتعلق بمستقبل البشرية من بعد انقطاع الوحي وختم الرسالة والنبوة، ولذا فيوم الغدير يوم مفصلي في تاريخ البشرية منذ أن خلق الله أبا البشر آدم عليه السلام حتى قيام الساعة، يوم لن يتكرر في المستقبل ولم يحدث في ماضي البشر قبله، لأنه حصل في أدق توقيت يخص البشر وبداية مرحلة جديدة من الحياة وطريقة الهداية بعد رحيل خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم. إنها أول مرة تعيش البشرية بدون أنبياء ولا رسل أحياء ولأنها كذلك كان لا بد من شخص غير نبي ولا رسول أن يتسلم ولاية الأمة والبشرية فكان أكمل بشر وأسمى إنسان في الوجود بعد الأنبياء والرسل الإمام علي عليه السلام والذي مثل في نفس الوقت النموذج الكامل لمن يتولى الأمة من بعده ويحافظ على معالم الهداية والعدل ونظام الولاية في ظل الفتن التي تحصل عقب رحيل الأنبياء.
والتوقيت الخاص هو أن يوم الغدير جاء في نهاية النبوة الخاتمة وكأن تبليغ الولاية بمثابة الختم للنبوة الخاتمة وبعد تبليغ كل الفرائض والأحكام من صلاة وزكاة وصيام وغيرها من الفرائض وبعد حجة الوداع التي حجها النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وهي الحجة الوحيدة التي حجها وعلم الناس فيها مناسك الركن الخامس والأخير من أركان الإسلام ونعى نفسه للأمة، بالإضافة أن يوم الغدير كان آخر اللقاء بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعشرات الآلاف من المسلمين (من الصحابة) – الذين يُقدر عددهم بأكثر من مائة ألف مسلم – حيث لم يرجع معه إلى المدينة إلا بضع مئات وكان آخر مشهد رأى فيه السواد الأعظم من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو رافع ليد الإمام علي عليه السلام وكانت آخر كلمات سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حضوره (من كنت مولاه فعلي مولاه).
هذا التوقيت للولاية في يوم الغدير بقسميه العام والخاص يدل على أن يوم الغدير في الحقيقة يوم عالمي حيٌّ حتى عصرنا هذا وسيبقى حتى تقوم الساعة.
من خلال ذلك يتضح لنا “عالمية الولاية وإنسانيتها وسعتها” وأنها حل للمشاكل العالمية وتسلط الدول الكبرى إذا ما فهم المسلمون ذلك، إنها تعني عدم التسليم للدول الكبرى ومجلس الأمن بالولاية على العالم، لأنه بأي حق جعلت خمس دول وهي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين لنفسها الحق في الولاية على العالم وبأي حق تعترف بمن تريد من ولاة الأمر على مستوى كل دولة من عدمه.
لو عقل المسلمون “يوم الغدير” “ومفهوم الولاية” فيه لتطلعوا لقيادة العالم ولعرفوا حجم المشكلة التي هم واقعون فيها والولاية اليهودية والنصرانية التي يعيشون تحت ظلها على العكس تماماً مما أراده الله تعالى لهذه الأمة ولصلاح البشرية من ولايته التي لا تتحقق إلا بولاية على مقتضى دينه وهدايته.
“يوم الغدير” هو اليوم الذي من خلاله يستطيع المسلمون أن يدخلوا وبقوة ميدان السياسية العالمية بدون تبعية وبكل وحدة وتماسك فيما بينهم وخصوصاً وهم يمتلكون الموقع الجغرافي الاستراتيجي على مستوى العالم ويمتلكون الثروات والقوة البشرية وكل شيء لو التزموا بتوجيه الله لهم في يوم الغدير من تولي الشخص المسلم الكفوء الشجاع العالم المجاهد وكل الصفات التي تجسدت في النموذج الكامل للولي والقائد والحاكم بعد ختم النبوة الإمام علي عليه السلام.
يوم الغدير هو يوم من أيام الله المشهودة وهو يوم استلهام الحلول لمختلف القضايا الإسلامية وعبرها الإنسانية هو يوم المراجعة والمرجعية السياسية الشاملة بكل ما يتعلق بها من اقتصاد وثقافة وفكر وجهاد و…الخ وبالخصوص العقائد السياسية المذهبية والأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي.
هو يوم نقيس من خلاله كل حكام وزعماء العالم الإسلامي بمقاييس الإسلام لا المقاييس المذهبية ولا بالمقاييس الأمريكية والغربية. هو يوم الوقاية من ولاية اليهود والنصارى والذين هم في هذا العصر على شكل دول كأمريكا وإسرائيل ودول الغرب هو يوم الوحدة الإسلامية حول مواصفات ولي الأمر ومعايير الحاكم الإسلامية لا المذهبية هو يوم الصدع بالحق وعدم الاكتراث بردود الأفعال حول قضية من أهم القضايا بل أم القضايا يوم الغدير هو يوم رفعة الأمة من العالم الثالث إلى العالم الأول الحر بقيمه وأخلاقه الإنسانية العالية يوم الغدير هو يوم إصلاح النظام العالمي.