ولاية وإمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) في القرآن الكريم
التطرف الطائفي.. سبب تجاهل أحاديث وشهادات العلماء
المخطط الإلهي للحياة البشرية مخطط حكيم وكامل، ولا يمكن أن يهمل مسألة قيادة الأمة الإسلامية بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) بدون تخطيط أو يترك الأمة من غير راعٍ أو ولي، وهذا مما يدفع بالأمة إلى الانزلاق نحو هاوية الفتن والصراعات والتناقضات، ويكون سبباً لإهدار أتعاب الرسالة، وهو ما لا يقبله العقل السليم ولا يصدقه الشرع طبعاً.. قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَكِعُونَ} (المائدة )آية 55 )) ..
الثورة / أعداد/ يحيى الضلعي
سبب النّزول:
جاء في تفسير مجمع البيان ـ وتفاسير وكتب أُخرى ـ نقلاً عن عبد الله بن عباس أنّه كان في أحد الأيام جالساً إِلى جوار بئر زمزم، ويروي للناس أحاديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقرب إِليهم ـ فجأة ـ رجل كان يرتدي عمامة، ويضع على وجهه نقاباً، وكان كلما تلا ابن عباس حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هو حديثاً عن النّبي مستهلًا قوله بعبارة «قال رسول الله…» فأقسم عليه ابن عباس أن يعرِّف بنفسه، فرفع هذا الشخص النقاب عن وجهه وصاح: أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ولم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري، سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بهاتين وإِلاّ صمتا، ورأيته بهاتين وإِلاّ فعميتا، يقول «علي قائد البررة، وقاتل الكفرة منصور من نصره، مخذول من خذله»..
وأضاف أبو ذر: أما إنّي صليت مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً من الأيّام صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللّهم اشهد بأنّي سألت في مسجد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يعطني أحد شيئاً، وكان علي(عليه السلام) راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان يختتم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فلمّا فرغ من صلاته رفع رأسه إِلى السماء وقال «اللّهم إن موسى سألك فقال (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا) اللّهم وأنا محمّد نبيّك وصفيك.. اللّهمّ فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيراً عليّاً أشدد به ظهري»..قال أبو ذر(رحمه الله): فما استتم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كلامه حتى نزل جبرائيل من عند اللّه عزّ وجلّ فقال(عليه السلام): يا محمّد اقرأ، قال: وما اقرأ؟ قال: اقرأ: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)..وطبيعي أنّ سبب النزول هذا قد نقل عن طرق مختلفة (كما سيأتي تفصيله) بحيث تختلف الرّوايات أحياناً بعضها عن البعض الآخر في جزئيات وخصوصيات الموضوع، لكنها جميعاً متفقة من حيث الأساس والمبدأ..
التّفسير:
إبتدأت هذه الآية بكلمة «إِنّما» التي تفيد الحصر، وبذلك حصرت ولاية أمر المسلمين في ثلاثة هم: الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، والذين آمنوا وأقاموا الصّلاة وأدوا الزّكاة وهم في حالة الركوع في الصّلاة كما تقول الآية (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، ولا شك أنّ الرّكوع المقصود في هذه الآية هو ركوع الصّلاة ولا يعني الخضوع، لأنّ الشارع المقدس اصطلح في القرآن على كلمة الرّكوع للدلالة على الركن الرّابع للصلاة..
وبالإِضافة إِلى الرّوايات الواردة في شأن نزول الآية، والتي تتحدث عن تصدق علي بن أبي طالب (عليه السلام) بخاتمه في الصّلاة، فإنّ جملة (ويقيمون الصّلاة) تعتبر دليلاً على هذا الأمر، وليس في القرآن أثر عن ضرورة أداء الزّكاة مقرونة بالخضوع، بل ورد التأكيد على دفع الزّكاة بنيّة خالصة وبدون مِنَّة..
كما لا شك في أنّ كلمة «الولي» الواردة في هذه الآية، لا تعني الناصر والمحب، لأنّ الولاية التي هي بمعنى الحب أو النصرة لا تنحصر في من يؤدون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون، بل تشمل كل المسلمين الذين يجب أن يتحابوا فيما بينهم وينصر بعضهم بعضاً، حتى أُولئك الذين لا زكاة عليهم، أو لا يمتلكون ـ أساساً ـ شيئاً ليؤدوا زكاته، فكيف يدفعون الزّكاة وهم في حالة الركوع.. هؤلاء كلهم يجب أن يكونوا أحباء فيما بينهم وينصر بعضهم البعض الآخر..
ومن هنا يتّضح لنا أنّ المراد من كلمة «ولي» في هذه الآية هو ولاية الأمر والإِشراف وحق التصرف والزعامة المادية والمعنوية، خاصّة وقد جاءت مقترنةً مع ولاية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وولاية الله، حيث جاءت الولايات الثلاث في جُملة واحدة..
وبهذه الصورة فإن الآية تعتبر نصّاً قرآنياً يدل على ولاية وإِمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) للمسلمين..
شهادة الأحاديث والمفسّرين والمؤرخين:
لقد قلنا إنّ الكثير من الكتب الإِسلامية ومصادر أهل السنّة تشتمل على العديد من الرّوايات القائلة بنزول هذه الآية في شأن الإِمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد ذكرت بعض هذه الرّوايات قضية تصدق الإِمام علي(عليه السلام) بخاتمه على السائل وهو في حالة الركوع، كما لم تذكر روايات أُخرى مسألة التصدق هذه، بل اكتفت بتأييد نزول هذه الآية في حق علي(عليه السلام)..
وقد نقل هذه الرّوايات كل من: ابن عباس، وعمار بن ياسر، وعبدالله بن سلام، وسلمة بن كهيل، وأنس بن مالك، وعتبة بن حكيم، وعبدالله بن أبي، وعبد الله بن غالب، وجابر بن عبدالله الأنصاري، وأبي ذر الغفاري، بالإِضافة إِلى الرواة العشرة المذكورين، فقد نقلت كتب الجمهور (أهل السنة) هذه الرواية عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) نفسه..
والطّريف أنّ كتاب (غاية المرام) قد نقل 24 حديثاً عن طرق أهل السنة و19 حديثاً عن طرق الشّيعة، وقد تجاوز عدد الكتب التي أوردت هذه الرّوايات الثلاثين كتاباً، كلها من تأليف علماء أهل السنة، منهم: محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص88، والعلامة القاضي الشوكاني في تفسير فتح القدير ج 2، ص 50، ومن هذه المصادر المعتمدة أيضاً: جامع الأُصول ج 9، ص 478، وفي أسباب النّزول للواحدي ص 148، وفي لباب النقول للسيوطي ص 90، وفي تذكرة سبط ابن الجوزي ص 18، وفي نور الأبصار للشبلنجي ص105، وفي تفسير الطبري ص 165، وفي كتاب الكافي الشافي لابن حجر
العسقلاني ص 56، وفي مفاتيح الغيب للرازي ج 3، ص 431، وفي تفسير الدرّ المنثور ج2، ص393، وفي كتاب كنز العمال ج6، ص391، وفي مسند ابن مردويه ومسند ابن الشيخ، بالإِضافة إِلى صحيح النسائي، وكتاب الجمع بين الصحاح الستة، وكتب عديدة أُخرى نقلت حديث الولاية..
إذن كيف يمكن ـ والحالة هذه ـ إنكار هذه الأحاديث والمصادر التي نقلتها، في حين أنّها اكتفت في مجال أسباب نزول آيات أُخرى بحديث واحد أو حديثين؟! لعل التطرف الطائفي هو سبب تجاهل كل هذه الأحاديث والشهادات التي أدلى بها العلماء في مجال سبب نزول هذه الآية..
فلو أمكن التغاضي عن كل الرّوايات التي وردت في تفسير هذه الآية- وهي روايات كثيرة- للزم أن لا نعتمد على أي رواية في تفسير النصوص القرآنية، لأنّنا قلما نجد أسباباً لنزول آية أو آيات قرآنية جاءت مدعومة بهذا العدد الكبير من الرّوايات، كما ورد في هذه الآية الكريمة..
إِنّ هذه القضية كانت بدرجة من الوضوح بحيث أنّ حسان بن ثابت الشاعر المعروف الذي عاصر وصاحب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) جاء بمضمون آية الولاية في قالب شعري من نظمه الذي قاله في حق علي بن أبي طالب(عليه السلام) حيث يقول:
“فأنت الذي أعطيت إِذ كنت راكعاً.. زكـــــاة فــدتك النـفس يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية.. وبينها في محكمات الشرائع”
وقد وردت هذه الأشعار باختلافات طفيفة في كتب كثيرة، منها كتاب تفسير (روح المعاني) للألوسي، وكتاب (كفاية الطالب) للكنجي الشافعي، وكتب أخرى كثيرة.