رحل عن عمر ناهز 84 عاماً بعد أن خلَّد قصة كفاح مهجرية قَلَّ نظيرها.. الحاج ناجي علي علاية
رواية اغترابٍ واقعية بَطَلُها مزارعٌ يمنيٌّ في كاليفورنيا
تواصلت معه في سبتمبر 2019م، بخصوص موضوع معاناة المهاجرين اليمنيين في خمسينيات القرن الماضي، ودورهم في مسار الحركة الوطنية.. وحين التقيته كان مبتسماً وبشوشاً ومتفائلاً جداً بالحياة، وكما لو أنه في العشرين من العمر، ظننت تلك الابتسامة والبشاشة رتوشا يقتضيها لقاء عابر، لكن الحديث معه كشف استثنائية الحاج ناجي علي صالح علاية، الذي صدمني خبر وفاته صبيحة الجمعة الماضية 5 يونيو 2020م في العاصمة صنعاء عن عمر ناهز 84 عاماً قضى معظمها مهاجراً في ما وراء السبعة البحور..
خُضْتُ معه نقاشا طويلا -وفي اكثر من جلسة – حول ظروف الهجرة ومعاناة المهاجرين اليمنيين إلى أوروبا وأمريكا، ليستفيض العم ناجي -ذو الوجه اليمني العريق، زياً، وثقافة، وأدباً في الحديث المقرون بالرزانة المتوجة بالابتسامة الصادقة- من ذاكرة تتفتق عبراً ودروساً بالغة الحكمة.. غير أن السؤال الأهم إزاء حديثه وقصة هجرته الريادية، هو كيف ظل بهذه الذهنية الحاضرة والصورة المصبوغة بالابتسامة والسجايا الريفية اليمنية التي لم تغيرها هجرة ثلاثة عقود ونصف في بلد التنوع والحداثة والديمقراطية والتغريب الاجتماعي والثقافي.. فمتى هاجر ؟ وكيف عاش طفولته ؟ وأين ؟ ولماذا هاجر طفلا ؟ وكيف وإلى أين؟ وماذا واجه.. ؟ وغيرها من التساؤلات التي سنجيب عنها في هذا البروفايل الصحفي، حول السيرة العصامية الفذة للعم ناجي علاية (كما يدعوه الجميع) ….. إلى التفاصيل..
الثورة / محمد محمد ابراهيم
تبدأ فصول رواية المزارع اليمني المتيّم بمواسم الجنى، ناجي علاية -المتحدر من أسرة زراعية في مديرية الشعر محافظة إب- من طفولة محاطة باليتم الحقيقي، ليس لموت أحد الأبوين أو كليهما، ولكن بافتراقهما، ليعيش كل منهما في مكان، والابن في مكان آخر، ففي أحد أيام ديسمبر من العام 1936م ولد الطفل “ناجي علي صالح علاية” ليس في قرية أبيه – الشعر إب- ولكن في منزل جده لأمه بقرية الحد بمديرية يافع التابعة لمشيخة يافع، إحدى السلطنات المتاخمة لمدينة عدن، بل كان يطلق مواطنو الشمال، على كل تلك الضواحي “عدن” حيث يستعيد الحاج ناجي ملامح طفولته تلك قائلاً: ولدت في عدن، حيث تزوج والدي من الجنوب وتحديداً من يافع لحج، لكنهما ما لبثا كثيراً بل انفصلا عن بعضهما فعادت أمي إلى قرية الحد التي عشت فيها معظم سنوات الطفولة، وما تتميز به تلك القرية أنها ضمن ريف عدن أي في يافع وهي منطقة مشهورة بالزراعة، فعشت الطفولة عند أمي “حاكمة إسماعيل” وجدتي لأمي “حالية جابر اليافعي” أشاهد المزارعين في الحقول وأشارك أطفالهم اللعب والذهاب معهم في مواسم الزراعة بذاراً وحصاداً وغيرها”.
لم تتوقف مأساة الطفل ناجي– حينها- في حرمانه من والده كون الابن ساكناً على مشارف عدن- جنوب اليمن- الأب في محافظة إب وسط اليمن، ولا مجال لانتقاله للعيش بعيداً عن أمه، بل عاش اليتم مرتين حيث تزوجت والدته، إلى قرية الدخلة مديرية الشعر، محافظة إب، وهو في الرابعة من عمره، لا يتذكر تفاصيل ذلك الزمن لكنه يتذكر جدته “حالية اليافعي” إذ كان جده لأمه “إسماعيل” قد مات وخلف بنتا واحدة لا إخوة لها هي (حاكمة) أم ناجي، التي بدأ بعد زواجها مرحلة عمرية جديدة، بعد تفكك أسرته وذهاب كل منهما إلى جهة مخلفين طفلاً عند الجدة “حالية”، وفي هذا السياق يقول ناجي: واصلت الحياة في كنف جدتي حالية رحمها الله، ولم تدخر جهدا في تربيتي، بل أولتني اهتماما كبيرا، وأتذكر أنها ألحقتني بالمعلامة وكان عُمْري 5 سنوات تقريباً فتعلمت أبجديات القراءة وحفظت السور الصغار من القرآن الكريم على يد الفقيه (مسعد الفقيه).. وكنت دائما مفتونا برؤية الزراعة والانخراط في تلك الحقول، والمشاركة في طقوسها الزراعية ومواسمها الخضراء،
اللقاء الأول بين الابن والأب
لم أعرف والدي رحمه الله، ولا أتذكر أني التقيته إلا وعمري كان في السنة السابعة، قال العم ناجي هذه العبارة وصمت لثوانٍ، ليواصل حديثه: زارني إلى عدن أي إلى بيت جدتي “حالية”، أتذكر تلك اللحظات جيدا وأتذكر ما كانت تحمله من فرح ومهابة من حضور والدي، لقد عرض عليَّ الذهاب معه إلى إب للبقاء مع إخوتي في قرية جرعان باب، فاخترت البقاء في عدن، رغم إنه وعدني أن أكون على اتصال دائماً بالزيارات لجدتي ولأمي، وبعد تلك الزيارة، نادراً جداً ما كنت أحظى بزيارة والدي، حيث كان مشغولاً بالأسرة، وبالزراعة في إب”. أما والدتي فكانت تزورني على الدوام، وكنت أزورها من حين لآخر، وبعد زواجها أنجبت أولاداً كان أكبرهم أخي علي الذي توفي- رحمه الله.
الهجرة كخيار حتمي
في قرية طفولته اختار الابن البقاء ليواصل حياته، عند الجدة “حالية” التي هي الأخرى خسرها ولم يزل في سن الثامنة، غير أن هذه الخسارة لم تفت عضدا في طموحه بل تطلع إلى المستقبل حالما أن يشق طريقه وسط عباب الحياة وأمواجها المتلاطمة، بمفرده، وهو ما صار بالفعل، ففي منتصف الأربعينيات بعد موت جدته بستة أشهر، قرر الطفل ناجي علاية بداية هجرة غير معلومة الوجهة، بل هجرة مركبة وغير مخطط لوجهتها إضافة إلى كونها كانت مبكرة جداً على خلفية طفولته التي كانت مشبعة بالشتات، وفي هذا السياق يستعيد الحاج ناجي علاية اليوم ظروف هجرته كخيار حتمي قائلا: عندما توفيت جدتي – رحمها الله- كان عمري في الثامنة تقريباً، وحينها شعرت بفراغ أكبر وشتات، لكن لم أفكر بالذهاب نحو إب إلى حيث والدي أو إلى حيث أمي، بل بدأت أفكر بالهجرة خصوصا وأنا كنت دائما ما أزور عدن وأرى حركة الناس والمسافرين، فيهزني الشوق للسفر الحر، ودون أن أخبر أبي أو أمي، وفي مطلع العام 1946م، عزمت على السفر إلى الكويت(، وأتذكر أني أبحرت على ظهر سفينة حديثة وكبيرة من ميناء عدن، وكانت محملة بالمسافرين من كل أبناء اليمن وجنسيات أخرى ولم يكن معي أحد أعرفه من القرية أو قريب.
وأضاف: كانت رحلة البحر مضنية جداً على طفل في سن الثامنة، ولم يكن معه رفيق من أسرته أو قريته، ومع ذلك لم تؤثر كثيرا عليَّ قسوة السفر، فقد كنت مشغولاً بشوق السفر وبمشاهد البحر والجزر والسواحل التي نقترب منها بين الحين والآخر، حيث قطعت السفينة المسافة البحرية الفاصلة بين ميناء عدن وميناء مدينة الكويت، في ثلاثة أسابيع، عبر مياه خليج عدن ومياه البحر العربي، ثم الخليج العربي عبورا من مضيق هرمز، وعندما وصلتُ الكويت عملت في وزارة المعارف كخدمات مبان أو مراسل مع العمال. كما أتذكر أنه بعد وصولي الكويت بعامين، كنت أسمع أحاديث من الناس والمذياع حينها أن الإمام يحيى بن حميد الدين قُتلَ في منطقة حزيز بصنعاء، جراء ما يُعرف بقيام الثورة الدستورية التي قامت في شمال اليمن وتمكنت قوات بقيادة عبد الله الوزير من السيطرة على مقاليد الحكم، ولكن سرعان ما سقطت الثورة واستعاد الإمام أحمد عرش والده بعد وصوله من تعز، وقد استمررت في الكويت أربع سنوات ثم عدت إلى اليمن..
العودة إلى إب
بعد قضاء اربع سنوات في الكويت قرر المهاجر الصغير العودة إلى اليمن، ولكن بالتأكيد إلى وجهة غير “يافع”، فجدته التي تربى في كنفها قد توفيت، غير أن والده وأخوته كانوا ينتظرونه بلهفة وشوق كبيرين، يقول ناجي علاية في هذا السياق: كانت عودتي من الكويت جوا إلى البحرين ثم إلى عدن، ولكني لم اعد إلى يافع، بل إلى حيث والدي في إب، فقد تزوج بعد أمي في العام الذي طلقها فيه، وأنجب من زوجته الثانية أحمد ومحمد وعلي ومصلح وصالح وعبده وثلاث بنات.. وأتذكر أن أول أخ تعرفت عليه من إخوتي هو أحمد، بعد عودتي من الكويت، وحين وصلت عند والدي، وأسرتي كان يوماً عامراً بالفرح..
وأضاف: لم أستمر كثيراً في القرية باب، رغم إصرار والدي وإخواني عليَّ بالبقاء، بل عدت إلى عدن وعاملت على تذكرة طيران وسافرت إلى البحرين التي كانت حينها مستعمرة بريطانية، وكانت مزدهرة بعد اكتشاف النفط فيها وتنامي بيئة الاستثمارات النفطية، وعملت في البحرين جندياً في إدارة مرور السير بمدينة المحرق بالمنامة، لكني لم أستمر عامين، فبدأت التفكير بالهجرة صوب الغرب..
الهجرة إلى أمريكا
في الأربعينيات والخمسينيات، من القرن الماضي كان معظم اليمنيين يهاجرون بجوازات أوروبية فرنسية أو بريطانية، وبعضهم يتهرب ضمن قوافل التجارة البحرية في مراكب وسفن من بلد لآخر حتى وصلوا إلى أمريكا، وذلك بسبب عملهم كبحارة مع سفن التجارة المسافرة بين موانئ اليمن وموانئ أوروبا ثم أمريكا، أو كانوا جنود ضمن الجيش البريطاني في عدن أو الفرنسي أو الإيطالي في بلدان جنوب شرق، وشمال أفريقيا، وبسبب الأوضاع السياسية في اليمن. فلا يوجد علاقات مؤسسية ودبلوماسية، تمنحهم الهوية والجوازات وتأشيرة السفر المباشر إلى أمريكا، لكنهم بوصولهم أمريكا وتحقيقهم أهداف هجرتهم المالية عادوا إلى اليمن بأوضاع مالية ميسورة دفعت بكثير من الشبان في أوائل الخمسينيات إلى الهجرة بحثاً عن فرص عمل أفضل، وحياة كريمة لهم ولأسرهم، وكان ناجي علي يسمع عن بعض من تجارب هؤلاء الشباب. وهو مهاجر في البحرين، وكيف سافروا إلى أميركا وتحسنت أوضاعهم المعيشية وبدأوا يستقطبون مهاجرين جدداً.
كان العم ناجي – كما يقول- يُعرف بالمهاجر البحَّار محمد أحمد الفهد- من مديرية النادرة- الذي كان قبطاناً في إحدى السفن البريطانية، والمهاجر حزام حميد البرطي، من منطقة الدخلة مديرية الشِّعِر، وناجي علي عيسى من الأملوك، أيضاً من نفس المديرية.. ما جعله أكثر حماساً بأن يذهب جواً في أطول رحلة في حياته.. وقد بقى مصرّاً على عدم البقاء في البحرين رغم أن الأوضاع فيها كانت مزدهرة جداً وكانت فكرة الهجرة تلح عليه بقوة. يقول الحاج ناجي علاية مسترجعاً ماضي هجرته في البحرين والكويت: كانت الكويت والبحرين أفضل بكثير يومها عن الولايات المتحدة الأمريكية لكن لم يرق لي البقاء في ظل قيود كانت تحاصرني في الكويت، حيث لا يسمحوا لك بالعمل سوى مرة فإذا زرت بلدك كان من الصعوبة دخولك مرة أخرى، وفي البحرين لم أنسجم مع عملي كنجدي مرور مقيد بعمل محدد في مكان ما، وكنت تواقا إلى خوض مغامرات حقيقية في السفر والاستطلاع للعالم كغيري من الذين غامروا وحصلوا في نفس الوقت على فرص عمل حسنت مستوى معيشتهم، فشرعت وأنا في البحرين في المعاملة على استخراج جواز بريطاني، وتمت موافقة المعتمد البريطاني في البحرين على منحي الجواز، وسافرت جوا إلى عدن، كان ذلك في شهر ديسمبر 1952م.
وأضاف علاية: بدأت معاملة السفر في عدن ولم تكن صعبة إذ حصلت على الفيزا وتأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة الأميركية من قبل القنصل الأميركي آنذاك في عدن، لا أتذكر اسمه، لكني أتذكر أن شخصاً ساعدني في إنجاز المهمة، كان يقال له بازرعة، وكان يعمل في القنصلية مترجماً، المهم أنجزت كل أمور السفر وأنا في شوق كبير للسفر إلى أمريكا”.
أطول رحلة جوية
لا يتذكر اسم شركة الطيران التي سافر عبرها، لكنه يخمن أن الطائرة كانت تابعة للمملكة المتحدة البريطانية، وقد أقلعت من مطار عدن الدولي -الذي كان حينها يُدار من قبل الإنجليز- متوجهة إلى مطار نيويورك، في أحد أيام عمره التي لا تُنسى والتي يتذكر انه من أيام شهر ديسمبر من عام 1952م، ليعيش أطول رحلة في حياته حتى اليوم حسب وصفه : كانت رحلتي الأولى إلى أميركا، هي أطول رحلة جوية أجتازها، وكان عمري يومها لم يتجاوز السادسة عشرة، وكنت بمفردي، وكانت رحلتين الأولى عدن- نيويورك، والثانية، نيويورك- دترويت..
وأضاف علاية: وأتذكر من تلك الرحلة أن الحرارة في مطار عدن كانت على أشدها قبيل الظهيرة، وأن ضابطاً أو موظفاً إدارياً اسمه بازرعة- كان مترجماً للقنصل إلى جانب عمله في المطار- هو من تابع لي معاملة التأشيرة في المطار، وسألني إلى أين أريد ومن معي سيدلني على وجهتي، فقلت له إني بمفردي، وأن اتصالاً قد أجريته من عدن إلى أمريكي لشخص اسمه أحمد حوتر، وأنه سيتولى استقبالي في مطار دترويت، وقبيل صعودي الطائرة جاءني وبرفقته مضيفة أمريكية وكتب لها في ورقة صغيرة باللغة الإنجليزية أن هذا الشخص بعهدتك إلى مطار نيويورك، دلّيه حتى يركب رحلة أخرى إلى دترويت ميشقان.
وقال أيضاً: أقلعت الطائرة قبيل الظهيرة تماماً، وظللنا نسافر في السماء نحو 13 ساعة متواصلة، شعرت في الساعات الأولى بالضيق والخوف، لكن معظم الساعات الأخرى قضيتها نائماً، وكانت المضيفة تلاحظني بين الحينة والأخرى، حتى وصلنا مطار جون كنيدي في نيويورك، ولحظة وصولنا جاءتني المضيفة كما حدد لها ضابط مطار عدن، واصطحبتني إلى صالة الانتظار المخصصة للرحلة المتوجهة إلى دترويت وسلمتني لمضيفة أمريكية أخرى، ستكون معنا في الرحلة إلى دترويت وأعطتها الورقة التي كتبها الضابط.. بقينا ترانزيت ثلاث ساعات..
يواصل الحاج ناجي علاية -الذي يبلغ اليوم من العمر قرابة 48 عاماً- حديثه قائلاً: استقبلني في مطار دترويت أحمد حوتر وهو من منطقتي في إب وكان يعرف والدي ويعرفني، وكان بحاراً أيضاً، هاجر قبلي بسنوات طويلة، واستقر في دترويت. وأخذني معه إلى حيث يسكن في مبنى جوار ورشة فورد كلسلر، وأتذكر أن مجموعة من اليمنيين كانوا في العزبة (الشقة) التي نزلت فيها، وهم كبار السن جداً، لا أتذكر أسماءهم جميعاً، وأتذكر أن أحدهم كان يدعى الحاج عبد البدح، كان كبيراً في السن فوق التسعين، وآخرين من بيت الصايدي، لا أتذكر أسماءهم، لكني عرفت من أحاديثهم أنهم قد هاجروا منذ وقت طويل، منهم من هاجر هجرة شرعية لكن بهوية غير يمنية، ومنهم من سلك طريق التهرب مع السفن البحرية حتى وصلوا إلى أوروبا ثم واصلوا رحلاتهم غير الشرعية فرادى إلى ضفاف نيويورك ثم إلى ميشجن.. لم يكن الحديث بيننا طويلا لغياب الصحبة الطويلة التي تجمعها الحكايات والذكريات، وكثيرا ما اقتصر حديثهم معي على تحذيري من الخروج بمفردي إلا مع جماعة وفي أوقات محددة، خوفا عليَّ من العبيد. بقيت معهم ثلاثة أسابيع، لأسافر إلى كاليفورنيا.
كاليفورنيا الجنة الخضراء
مثلت كاليفورنيا وجهة لطالبي فرص العمل العرب واليمنيين بالذات، المتمرسين في المهن الزراعية التي كانت تعد أهم أعمدة الحضارات اليمنية المتعاقبة، حيث هاجر اليمنيون إليها منذ بداية القرن العشرين لكننا لم نجد مراجعا لنقطة زمنية محددة لإبحار اليمنيين إلى كاليفورنيا، وفي سياق سرده لقصة سفره إلى كاليفورنيا يقول العم ناجي : لم أكن مخططا الذهاب إلى كاليفورنيا، ولكن بعد ثلاثة أسابيع، لم تلح لي فرصة عمل في ورش السيارات، أولا لصغر سني، وثانياً لم يكن لدي خبرة في هذا المجال ولا تروق لي، فقررت مواصلة الرحلة صوب كاليفورنيا التي تكثر فيها الزراعة وفيها مزارعون يمنيون سمعت بهم من قبل، فذهب معي العم أحمد حوتر إلى المطار وعاملنا على تذكرة للسفر، ضمن رحلة جويَّة إلى كاليفورنيا استمرت سبع ساعات.. وقبل صعودي الطائرة كان العم أحمد – رحمه الله- قد اتصل بشخص يعرفه كبير في السن من قرية المقالح، اسمه محمد حزام الجوفي، وأخبره بقدومي وأن عليه استقبالي في مطار كاليفورنيا، واصطحابي إلى المزرعة التي يعمل فيها هو والعم ناجي علي عيسى كان كبيرا في السن، إذ كان على مشارف العقد الثامن من عمره، لكنه قوي البنية حاضر البصيرة، وكان ذا خبرة زراعية واسعة، بحكم عمله الطويل في كاليفورنيا، وكان يعمل مشرفا على مجموعة من المزارعين من مختلفي الجنسيات يمنيين وعربا وأجانب.. كان يعرف والدي تماماً، وقد احتفى بي وأخذ بيدي إلى العمل الزراعي في شركة “آمكو كامبني”، التي كانت تدير عدداً من مزارع العنب في كاليفورنيا.
حرب الفيتنام
كان أغلب المهاجرين اليمنيين في كاليفورنيا يعملون في الزراعة، وقلة منهم ارتادوا مجالات وفرص أعمال أخرى كالوظيفة العامة.. ومنهم من انضم إلى الجيش الأمريكي في الحرب الفيتنامي.. وفي هذا السياق يقول الحاج ناجي علاية: استمررت أعمل في المزرعة نحو 12 عاماً، وعندما سمعت بإعلان تجنيد الشباب للخدمة ضمن ألوية وفيالق الجنود الذين تعدهم وزارة الدفاع الأميركية للمشاركة في معارك الحرب الفيتنامية، راق لي تغيير وجهة عملي حيث انضممت للجيش الأميركي في عام 1964م للمشاركة في الحرب بغية القضاء على المتمردين الفيتنام، وكان ذلك أيام الرئيس الأمريكي “ليندون جونسون”.
وقال أيضاً: كنت أعمل في البحر ضمن مركب الأس آي آوه.. نادلاً أو مباشر مطعم على إحدى سفن البحرية الأميركية,, لكني لم أستمر معهم سوى ثلاثة إلى أربعة أشهر.. حيث انتهت جولة الحرب في تلك الفترة بهزيمة أميركا فقررت الإدارة الأمريكية تسريح المجندين الجدد وإعطاءهم الترشيح والأولوية للالتحاق بالوظيفة العسكرية في أي دورة تجنيد جديدة، وقد أعطوني أوراقاً بهذا الخصوص، لكني عدت بعدها إلى كاليفورنيا، وقررت عدم الالتحاق ضمن المجندين، ولم يحصل أن طلبونا للتجنيد، لأستمر بعد ذلك في كاليفورنيا 8 سنة أخرى، أي قضيت فلاحاً في كاليفورنيا 20 عاماً، وكنت أزور اليمن بين الحينة والأخرى..
قرار الزواج
كان يتمتع المهاجر ناجي علاية بإصرار عجيب، وعصامية قل نظيرها في أي مغترب يمني، فالشاب الناضج الذي صار عمره على مشارف الـ 35 عاماً عاش منها عشرين عاماً مهاجرا زراعيا في ولاية كاليفورنيا نحو 20 عاماً، لم يزل أعزبا، ولم يفكر بالزواج طيلة تلك الفترة، ربما كانت تحين فرص كثيرة سواء في أميركا أو في زياراته الدورية لليمن لكن لم يصل إلى القناعة باتخاذ القرار، فكل هدفه أن يكون له رأس مال ومستوى معيشي أكثر استقراراً، ولا أقول هذا جزافاً بل من واقع معطيات تتبع سيرة كفاحه، ودفعني استغرابي أثناء مقابلته والنقاش معه عن الهجرة إلى سؤاله بإلحاح: ألم تفكر بالزواج في أميركا طوال هذه الفترة.. ؟!
فواصل حديثه مبتسما بثقة: “كنت أزور اليمن بين الفينة والأخرى .. وفي مطلع العام 1971م قررت الانتقال من كاليفورنيا إلى نيويورك في رحلة جوية استمرت 8 ساعات، لكن لم أبق في نيويورك بل واصلت طريقي إلى الوطن الأم اليمن، إلى حيث قريتي “قرية جرعان” في مديرية الشعر محافظة إب، وفي هذا السفر قررت الزواج من الأقارب في القرية، كان ذلك في مايو من العام 1971م وكانت “أم فتح” هي الزوجة الأولى والوحيدة -رحمها الله- أم أولادي: “فتح، وعارف، وجميل، وأربع بنات” حفظهم الله جميعاً وأصلح شأنهم”.
لم يستمر الحاج ناجي علاية في قريته بعد الزواج كثيراً بل قضى شهرين وأيام قلائل ثم عاد إلى نيويورك بعزيمة أكثر إصراراً وبرأس ماله الذي جمعه من سنوات كفاحه في المزارع، وهذا المعطى الأهم على عصامية هذا المهاجر الذي يواصل حديثه قائلاً: بعد الزواج قررت العودة بمفردي دون أن أخذ الزوجة معي، إلى نيويورك، حيث اشتريت سوبر ماركت (بقالة مركزية) على شارع “داكمان استريت”.. في منطقة منهاتن.. بما يقارب (100) الف دولار، وكان ذلك في شهر يوليو من العام 1971م، أي تساوي اليوم 500 الف دولار.. وقد شهد العمل والحمد لله نهضة سريعة وانتعاشاً غير عادي، وفي عام 1988م استخرجت أوراق السفر لابني الكبير “فتح” ودخل إلى نيويورك وعمل معي في البقالة وواصل دراسته، واستمرت البقالة إلى العام 1989م حيث تم إغلاقها من قبل مالك العمارة الذي أراد تحديث عمارته.. أي استمرت 18 عاماً، مع إعلان إعادة الوحدة اليمنية المباركة في 22 مايو 1990م كنت قد قررت العودة إلى اليمن والاستقرار في الوطن فيما واصل ابني “فتح” مشاريع بقالات جديدة واستمر بنجاح كبير وهو اليوم رئيس الجالية في نيويورك.