محمد المولد العنسي
يستقبل المسلمون شهر رمضان في كل عام بالفرحة والابتهاج، ويستعدون له بإعداد أطعمة وأشربة لوجبات ومشروبات لا تكاد تعد إلا في رمضان، وكأن هذه صارت ميزة تميز هذا الشهر عن سواه. ولا شك في أن الاستعداد لاستقبال رمضان هو سلوك إيجابي؛ كونه يبين اهتمام المسلمين بالشهر الكريم، وأن هذا الاهتمام والحفاوة في الاستقبال هي متوارثة توارثها المسلمون عن أسلافهم، بيد أن الملفت للنظر هو أن الاستقبال والاستعداد لشهر رمضان لدى المسلمين غالبا قد تحول من استعداد روحي لأداء شعيرة من أعظم شعائر الله إلى مجرد عادات وتقاليد وطقوس تؤدى مفرغة من جانبها الروحي، بل إن الأدهى في زمننا هو الاستعداد لرمضان في بعض المجتمعات بشراء ألعاب خاصة خصصت لرمضان، والأدهى والأمر ما تعده القنوات الفضائية من مسلسلات خاصة برمضان، وبهذا تحول الاستعداد لاستقبال رمضان من استعداد للقاء الله والتشرف بضيافة الله وتكريمه لعباده الصائمين، إلى استعداد للهو واللعب والمعاصي في رمضان أكثر من غيره من الشهور.
ومما يدعو للعجب هو انحصار مفهوم العبادة في رمضان بالصوم والقيام والتلاوة للقرآن، والصدقة، وأن هذه هي الأعمال التي يجب أداؤها في رمضان، وما سواها من الأعمال والطاعات والأوامر فهي – في منظور الغالب – تكون في غير رمضان، أو أنها لا ترقى في فضلها إلى مستوى الصوم، وهذا المفهوم في اعتقادي ناتج عن قصور في الفهم لخطاب الله لعباده في القرآن الكريم؛ لأن المعلوم أن الله لما أنزل القرآن الكريم أنزله مبينا ومفصلا، فجاءت التشريعات في القرن مبينة ومفصلة متكاملة؛ بحيث لا تتم فريضة إلا بتمام الفرائض الأخرى؛ إذ لا يجوز تأجيل فرض أو تأخيره حتى يتم الفرض الآخر إلا في حدود ما بينه الشرع، فقد يجتمع أداء عبادتين معا دون مفاصلة أو مفارقة، بل مع اعتبار المفاضلة، وقد يجب تقديم أداء فريضة ما على أخرى حتى لو أدى ذلك إلى ترك أداء إحدى الفريضتين، فمثلا يقدم فرض الجهاد هذه الأيام على أداء فريضة الحج، كون الجهاد سببا في بقاء الدين ، والدين منظومة من الأحكام ومن تلك الأحكام الحج، كما أن من شرط الحج الاستطاعة وهي القدرة المالية والجسدية وأمن الطريق، والمعلوم أن العدوان قد قطع الطريق إلا طريقا واحدا يذوق فيه المسافر من العناء والهوان ما لا يتسع المقام لذكره، ثم إن أداء الفرائض في الدين مرتبط بقيام الدولة وبسط سلطتها وهذا مفهوم من قول الله: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) فالأذان هو الإعلام ولا يكون إلا في أماكن انتشار الدين وسلطته الحقة المحتكمة إلى كتاب الله.
ومثل ذلك أيضا اجتماع الصوم والجهاد في سبيل الله ، وهو أمر طبيعي، عند المؤمنين؛ كون الصيام فرضا لتحقيق التقوى، والجهاد من أرقى مراتب التقوى، كما أن النتيجة المرجوة من تحقق التقوى هي الفلاح. فلاحظ وتأمل الارتباط العجيب بين قول الحق سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وقوله سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فالصوم وسيلة هامة جدا من وسائل تحقيق التقوى، لكنه على ما له من أهمية ومكانة عند الله، لا يمثل المسلك الوحيد للفلاح، بل إن التقوى التي هي الغاية من الصيام صارت وسيلة من وسائل تحقيق الفلاح، ولكن إلى جانب وسائل أخرى بينتها الآية الكريمة، وهي الصبر والمصابرة والمرابطة، وهذه المعاني تدل على أن الجهاد مرتبة أعلى من الصيام عند الله؛ لأنه فرض يستدعي الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى لكي يتحقق الفلاح. ولا شك أن الفلاح لا يتحقق إلا بتزكية النفس وتزكية النفس هو صفاؤها وانقطاعها لخالقها وبارئها، والانقطاع للخالق هو خلو الذهن عما سوى الله، فلا يخطر بباله إلا الله فغاية همه كيف يرضي الله، فيتحرك وهمه أولا وأخيرا تنفيذ أوامر الله وتحكيم شرعه، وفي سبيل تحقيق ذلك يقدم أغلى وأنفس ما لديه وهو ماله ونفسه. ومن كان على هذه الشاكلة لا يمنعه من تحقيق مراده مانع ولا عائق، وعلى هذا كان رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم، فقد خرج مجاهدا في أول غزوة له وهي بدر في رمضان وفتح مكة في رمضان، وكثير من المعارك الكبيرة والفاصلة في تاريخنا الإسلامي كانت في رمضان، فلم يحل الصوم المؤمنين الصادقين دون القيام بفريضة الجهاد والقتال في سبيل الله، بل انطلقوا جامعين بين فضيلة الصيام والصبر على الجوع والعطش، وبين القتال في سبيل الله وتحمل عناء السفر والشدائد التي تواجه المجاهدين في سبيل الله، طلبا منهم لرضوان الله ومغفرته، وبيعا لأنفسهم وأموالهم من الله، فصدقوا الله في إيمانهم وفي أقوالهم وفي أفعالهم وفي عهدهم، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).
وفي هذه الأيام اقبل علينا شهر رمضان وأمتنا العربية والإسلامية في بلاد الشام سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة وفي البحرين وشعبنا اليمني الحبيب يخوضون معركتهم المقدسة ضد اليهود والنصارى من أمريكا وإسرائيل وأذنابهم من إخوانهم المنافقين، ولقد قال النبي صلوات الله عليه وعلى آله عن رمضان: ( إنه شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته)، فما أجلّها من نعمة وأعظمها من كرامة، عندما تستجيب لله وتلبي داعي الله، وتجمع بين فضيلتي الصيام والجهاد في سبيل الله، فذكرك غير ذكر الذاكرين ودعاؤك غير دعائهم واستجابتك غير استجابتهم، وكيف لا وأنت تعاني الجوع والعطش، وأنت في الخطوط الأمامية، تجاهد في سبيل الله أعداء دينه وتدافع عن الأرض والعرض والكرامة والعزة. لا شك أن الفرق بين المجاهد والقاعد كبير: (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما).