عبدالوهاب سنين
في شتاء 21 كانون الثاني 2020م كان الصباح قارس البرودة، وكنت أنا وقلمي على لقاءٍ بأوراقي المبعثرة لتدوين بنيات أفكاري، وحين وضعت سن قلمي لأنثر ما يعتلج في صدري من ذكريات، وجدت أوراقي متجعدة، وكأنها شيخاً بلغ من العمر عتيا، متغضن الوجه كالحاً تعلو مُحياه الأحزان الكئيبة، فهالني ذلك المنظر فصاحت تلك الأوراق قائلةً سيدي اليوم هو الثلاثاء ألا يُذكرك بالزمن الغابر حين كنت نسبح وتجوب تلك العصور البالية، أما تذكر صالون يوم الثلاثاء، أما تذكر الشاعر اسماعيل صبري حين نادى قائلاً :
روحي على دور بعض الحيِّ حائمةٌ
كظامئ الطــيرِ تواقاً إلى الـــماءِ
إن لم أُمــتع بميٍّ ناظرَيَّ غــداً
أنكرتُ صُبحكَ يا يومَ الثلاثاءِ
وبعد لأيٍّ تذكرت ريحانة الأدب ميّ، وكنتُ يومها بصحبة الأستاذ أحمد حسن الزيات في ضيافتها سنة 1927م، وعدت برواقي إلى اليمن، وبعد عقدين من الزمان ذهبا خلف الحجب الظامئة، وجدت نفسي تواقةً إلى المضي بصحبة أوراقي في رحلةٍ إلى الآسرة مي، وأعددت رواقي، واصطحبت قلمي أمين سري، وجلبت أوراقي الحزينة لأنفض عنها غبار السنين المتقادمة، وتوجهت برواقي السابح في الخيال إلى القاهرة للقاء تلك الأديبة الكاملة.
وكان ذلك في عام 1941م ، وعند وصولي إلى القاهرة, اتجهت إلى صالون مي، ولكن وجدت ذلك الصالون أصبح أطلالاً باهتة ، قد جثم عليه الحزن، وهناك سألت أحد المجاورين للصالون، على الأديبة الكبيرة مي زيادة، أما زال صالونها الأدبي المبهج على عهده؟ ولكن للأسف لم يعد هناك صالون بل مأساة حلت بميّ, وفي شهر تشرين الأول من هذا العام, كانت مي قد نقلت إلى مستشفى المعادي وهناك وسط ذهول الأطباء لفظ ذلك الجسد الرقيق زفرة الموت, وفي ذلك اليوم الأسيف دُفِن جثمان أديبة طالما أتحفت القراء بسعة اطلاعِها وجمال عباراتِها التي تستكن ضارعة في النفوس . ذهبت مي, وبرحيلها تحول صالونها إلى أطلال يبكي رحيل تلك الأديبة الرقيقة, وكان ذلك الصالون يعتبر واحداً من أشهر الصروح الأدبية والعلمية, وكان يضارع مجلس ولادة أديبة الأندلس ذلك الفردوس المفقود, وحبيبة شاعر الأندلس الآسر أبو الوليد بن زيدون، كل ذلك انتهى برحيلها ذلك الرحيل المؤلم ، وذهلت من أولئك الذين تقاعسوا وهم من كانوا حولها وهي في قمة مجدها في ما مضى من حياتها, من الحضور لوداع هذا الجثمان الرقيق, وأداء واجب العزاء, وهناك اختفت كلماتي عباراتي تاهت مني، أسمع هديرها يسري في سراديب أعماق حروفي تبعثرت حيرتي دوما تخالجني، أحلامي محجوبة في كهف حجري، دفتري منبر خطاباتي حبري النازف أصله دمي!
حتى أنهم تخلوا عنها في محنتها العصيبة في حياتها حين تملك منها الاكتئاب , واتهمها من لم يرحمها بالجنون, فقرت أقلامهم ولفظتها أناملهم, وتخاذلت في الدفاع عن هذه الأديبة القومية, بل جعلوا منها أقلاماً صماء لا حياة فيها, بل تركوها حتى يأس منها حبرها التي تشرب سواده وتلفظ نوره, خلا الأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات الذي أدلى بدلوه وسال قلمه يئن ويذكر محنة مي , وقد رأيت له في مجلة الرسالة مقالة بعنون ( محنة الآنسة مي), وفيها دافع عن مي الأديبة الكاملة قائلاً: (( وما كان في حسبان أحد ممن ساعد على هذا السفر- أي إلى لبنان بصحبة جلادها جوزيف- أن مي معبودة القلوب, وريحانة المجالس, وفخر النهضة تقع في حبالة الطمع الدنيء والهوى المريض والذمة الغادرة, فيعتقلونها في مستشفى الجنون اعتقال الشريدة, ثم يغشُّونها بالحجب, ويحيطونها بالأسرار, ويئدونها بالترك, حتى تجهلها الحياة وينساها الناس وتخلص لهم الغنيمة, إن الآنسة مي التي غذت نهضة الفكر العربي مدى ربع قرن, فكان لها في كل موضوع رأي, وفي كل قلب ذِكرى, وفي كل مكتبة أثر, لا يمكن أن تضيع هذه الضيعة الذليلة بين مصر ولبنان.
وسينظر الناس ماذا يصنع جمهور الأدبين وحكومة البلدين بعد ما برح الخفاء, وانكشفت النية وانهتك ستار المأساة))(1)
ومن بعد الزيات أتى بعد عشرات السنين من ينصف مي، وجعل منها كتاباً يُقرأ, ولساناً يخاطب الوجدان, إنه الروائي العالمي المعاصر واسيني الأعرج , بروايته عن مي الموسومة بـ(إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في سجن العصفورية) , والذي نفسي بيده حين قرأت تلك الرواية ظلت دموعي تنهمر من كلمات مي وهي تقص محنتها في العصفورية, شكراً أستاذنا الزيات رحمك الله وبل ثراك دفاعك عن مي في عصرها التي ظُلمت فيه, شكراً دكتور واسيني الأعرج إنصافك النابع من حب لهذه الأديبة العظيمة مي بعد سنوات غابرة ضمدت جرحها المسفوك كمداً وألماً، والغريب أين ذهب الكثيرة الكاثرة من أدباء عصرها الذين لقبوها بألقاب عديدة, لذلك قالت مي: (( لماذا لم ينفعني أيُّ لقبٍ من هذه الألقاب؟ لماذا تخلى عني جميع الذين منحوني إياها باستثناء الأموات بهذه السرعة الغريبة, وكأني لم أكن))(2)
واستطاع ابن عمها جوزيف استدراجها بالعودة إلى لبنان , بالرغم أنها عملت له توكيل في كل ممتلكاتها, لكنه كان قاسياً معها واتهمها بالجنون وأنها تعاني من الشيزوفرانيا, وقام بإدخالها إلى جحيم العصفورية, وهو مصح يسكنه من حل به الجنون, وهناك ذرفت ميّ دموع القهر والآلام, وهي ليست كما يزعمون وما بها من جنون سوى أنها أصيبت باكتئاب جثم عليها بعد موت والدها عام 1930م, ثم تبعه جبران خليل جبران عام 1931م, ثم كان وفاة أمها الحانية العطوفة, وبموتها تبعثرت ميّ وذبُلتْ كما تَذّبل أوراق الشجر, كل ذلك كان ذريعة وحجة لجوزيف على أنها مجنونة!.
أما يوم جنازتها المهيب لا أحد من محبيها سوى ثلاثة من الأحياء، وهم : أحمد لطفي السيد, و أنطون الجميل, وخليل مطران, والعذر لمن غادروا الحياة, وفي ذلك اليوم العصيب رأيت ظلاً يجري من بعيد حتى وصل إلى مكان دفن الجثمان, وإذا بي أرى شاعر فرنسا لا مرتين شاعر الحب والجمال أتى مطالباً بميراثه منها فأعطوه من كانت لهم علاقة بميّ كتاب( أزاهير حُلم) وهو عبارة عن مجموعة خواطر دونها يراع ميّ وأهدتها لروحه, واحتضن لا مرتين ميراثه, وارتسم على مُحياه الفرح والحزن معاً, أما الفرح فكانت تلك الخواطر المهداة منها إليه, وأما الحزن فكان على دفن ذلك الجسد الرقيق, وانطفأ شمعة أحرقت نفسها لترسل الضوء إلى محبيها.
وفي طريق العودة وبعد انتهاء الرحلة المؤلمة, التقيت بصديقٍ قديم مكثت عنده حتى الفجر, وبعد أداء الفريضة, ظهر الضوء الآسر من خلال النوافذ. ولكن رغم جمال الصباح كانت أزهار الربيع حزينة, وشق ذلك الضوء حجب السماء, وأرسل نوره يغازلُ أشجارَ البن, وتَلَبَدتْ السماء بالغيوم وأرسلت مُزنها العذب يعانق الأغصان الذابلة, وأنا أنظر من أعلى شرفة في الدار رأيتُ شجرة النخيل المتقادمة, ماتزال على عهدها سامقة, قد تجاوزت أعمار الأجداد, كل يوم, وكل عام يمضي نشيخُ فيه, ولا تزال شجرة النخيل شابة سامقة تتجاوز أعمارنا المنسية كالأرض اليباب . ومع ذلك يوماً ما سيغادر الحزن، ويرفع ظله الثقيل وتعود البسمة التي لا وجود لها سوى في جدار الذكريات.
وهناك اقتربت من شجرة النخيل المجاورة لمنزلي، وقرأت عليها ذكرى ميّ، وفجأة سمعت نحيبها يشكو من الضيم الذي حل بميّ، وانحنت تلك النخلة السامقة تربت على كتفيَّ، وتقول لي بني سمعتك تنشد أبياتاً ترثي بها ريحانة الأدب ميّ هلاّ أسمعتني
– ولكن لست بشاعر، ثم هل ستشعرين بتلك الأبيات
– ولما لا أشعر أتراني جماداً؟
– كما تشائين أيتها النخلة السامقة، من يدري ربما لكِ إحساس يفوق إحساس البشر، فانتي تحملين أطيب الثمار، وكأنك أمٌ ولود تطعم أولادها بخير طعام، قلت في رثاء مية :
رَحَلْتي عن الدُّنيا بلا خَلْفٍ
وَلمْ تَبْقَ سِوى الذِكْرَى تُعَزِّينَا
بَكَى اليراعُ والأوُراقُ قَدْ بُلْيَتْ
واللِّيلُ يَبْكِّي مِنْ مَوَاضِيْنَا
لِميَّةَ آثارٌ تُحْيِّي مَجَالِسَنَا
فأضْحَتْ لنَا وِِرداً دوماً يُوَاسِّينَا
آيَا زَهْرَةً في السِّجْنِ قَدْ ذَبُلَتْ
لاسَكَنَ اللهُ قَلْبَاً يُعَادِينَا
آيَا رُوْضَةً مِن التَّحْنَانِ تُحْيِّينَا
كُنْتِ ولاَ زِلْتِ وَرداً وَنِسْرِينَا
(1) (مجلة الرسالة) عدد 243, 28 فبراير 1938م, السنة السادسة(1/321)
(2) ((ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية)), رواية, لواسيني الأعرج ص146