عبد الرحمن مراد
تقع قلعة قاهرة حجة على ربوة مرتفعة مطلة على مدينة حجة “ومدينة حجة عاصمة محافظة حجة وتقع في الشمال الغربي من العاصمة صنعاء على بعد 127كم , وترتفع عن مستوى سطح البحر بمقدار 1900م”.. وبمحاذاة حصن آخر يسمى حصن نعمان وتشكل معه ومع مجموعة من الحصون والقلاع الأخرى حزاماً أمنياً يطوق مدينة حجة التي تربض عند أقدام ” القاهرة ” في هدوء وسكينة .
– وصف القلعة وتاريخها :
قلعة القاهرة حصن منيع يمتاز بقدرته الدفاعية ومنعته على المناوئين , وتشكل هذه القلعة بالإضافة إلى حصن نعمان وحصن الجاهلي وحصن الظفير حزاماً أمنياً محكماً ويعود تاريخ بنائها إلى القرن الحادي عشر الميلادي في أثناء فترة حكم الدولة الصليحية وتم تجديد البناء في القرن السادس عشر الميلادي خلال الحكم الأول للدولة العثمانية لليمن , وتم تجديد البناء والإضافة إليه سنة 1341هـ أثناء حكم بيت حميد الدين لليمن .
وتتكون القلعة من سور ضخم دائري الشكل يأخذ بعض الاستطالة من بعض جوانبه وتبلغ مساحته 700م2 تقريباً , تسنده بعض الأبراج الدفاعية الدائرية الشكل بارزة إلى الخارج وتتخلل جدار السور والأبراج فتحات صغيرة للمراقبة والرماية .. والبوابة الرئيسية للقلعة تقع في الجهة الغربية والتي كان يتم إغلاقها بواسطة باب خشبي سميك شديد الصلابة ومنه يتم الصعود بواسطة سلالم حجرية مرصوفة بعناية وعلى جانبيه حجرات السجن المظلمة وفي أعلاه صهاريج المياه ويتكون المبنى الرئيسي من ثلاثة طوابق ويشكل القسم الداخلي للقلعة , كل طابق مكون من غرفتين وحمام وصالة .. ويتم الوصول إلى سطح المبنى بواسطة درج ” مصعد ” حيث تقع تحصينات الدفاعات الخارجية المطلة على واجهة مدينة حجة وأجزائها الشرقية والغربية شبه المخفية .
هيكلية المبنى متأثرة بشكل أو بآخر بأسلوب هندسة العمارة التركية مع وجود بعض اللمسات الفنية لطابع العمارة اليمنية .
– الصهاريج :
في ساحة القلعة ثمة صهاريج وتسمى ” برك” بكسر الباء وفتح الراء وهي عبارة عن حفر في بطن الأرض , مبنية بالحجارة ومطلية بمادة تسمى ” الجص ” تشبه مادة الأسمنت وربما كانت أقوى منها في التصميد وظيفة هذه ” البرك” حفظ مياه الأمطار المستخدمة في الري والتنظيف وربما للوضوء وغالباً ما تكون “البرك ” مفتوحة السقف أما التي تكون مسقوفة فتسمى ” سقاية ” ومصدرها في الغالب الأماكن النظيفة مثل ” سطوح ” المساجد كون مياهها تستخدم للشرب وماءها يسمى ” بالكرع ” أي الماء المنهمر من السماء .
وفي قلعة القاهرة بحجة ثلاث برك وسقاية واحدة وظيفة تلك البرك والسقاية توفير المياه بغرض الاكتفاء منها أثناء الحروب أو في حال الحصار الذي تفرضه العوامل السياسية حسب معطيات الظرف التاريخي الكائن حينها.
– المدافن :
المدافن عبارة عن أماكن في بطن الأرض مبنية بعناية ومصبوبة بالجص ولها فتحة تغلق وتفتح ، تسمح بدخول شخص واحد إلى المكان , وتستخدم لخزن الحبوب .
وفي قاهرة حجة ثمة مدافن وظيفتها استقبال الزكاة العينية وتخزينها واستخدامها وقت الحاجة إذا ما أسنت الناس وقلة الأمطار وكثيراً ما كان يحدث ذلك , ومازال الناس _ أقصد المعمرين _ يتذكرون سنوات المجاعة ولهم فيها تسميات متعددة ” كسنة ساحبة ” وسميت كذلك لأن الناس كانوا لا يستطيعون الوقوف وغالباً ما تكون حركتهم سحباً على البطون من شدة الجوع , وكان الناس يتخذون من الأحداث العظيمة في حياتهم تواريخ يؤرخون بها لما يحدث فيها أو قبلها أو بعدها كقولهم حدث كذا في ” سنة ساحبة” أو حدث كذا قبل أو بعد سنة ساحبة .
والمدافن تكون حرارتها شديدة وإذا أرادوا استخدام مخزونها فلا بد من فتحها للتبريد لمدة زمنية قد تزيد على شهر كامل وميزتها أنها تستطيع الاحتفاظ بالقيمة الغذائية للحبوب وتحفظها من التلف حتى ولو طالت بها السنون في أماكنها، ومازال الناس في هذا الزمان يحنون إلى حبوب ” المدافن ” لعلهم في فعلهم ذاك يسترجعون ماضيهم ويحنون إليه .
– الشون :
الشون بتشديد الشين المعجمة وفتح الواو عبارة عن أماكن وظيفتها استقبال العلف من الحشائش والسنابل وغير ذلك مما يصلح كطعام للحيوانات تجبى من أفراد الشعب كزكاة وتصرف لحيوانات بيت المال من خيول ورواحل وغير ذلك والقائم عليها يسمى ” شونة” وفي قاهرة حجة الكثير من المخازن المبنية بطريقة غاية في الإبداع، حيث يكون سقفها عبارة عن أقواس يربط بين جداري المكان , والقوس عبارة عن حجار متراصة وبمقاسات غاية في الدقة والعناية .
والغريب أن تلك الأماكن اعترتها عوامل الزمن ولم تجد عناية كافية في تجديدها والاحتفاظ بها كمعالم شاهدة على إبداع الإنسان في مراحل التاريخ المختلف.
– بيت البقرة :
بيت البقرة عبارة عن مكان طوله 4 أمتار كان مقراً لبقرة يملكها الإمام كما يقال وقد نزله المشير/ عبد الله السلال سجينا وقبله القاضي الإرياني وكلاهما أصبح رئيساً لليمن بعد ثورة 26 سبتمبر وقد سماه السلال ” حر البقرة ” والمكان الآن يسمى ” غرفة السلال ” نسبة إلى المشير عبد الله السلال أول رئيس جمهوري لليمن (1962م-1967م) وهو آيل للسقوط ينتظر لفتة كريمة من الجهات المعنية .
– مخازن الذخيرة :
في الجهة الجنوبية للقلعة أماكن متعددة وظيفتها كما علمنا تخزين الأسلحة وقد تهدم معظمها ومازالت جنباتها تحتضن بعض الأسلحة والذخائر التي غفل عنها الزمان وأنسى الناس الأمن والاستقرار من الالتفات إليها .
لكن هناك ثمة شيء يدعوك أن تتذكر وتتأمل ماضي الناس وحياتهم وصراعهم . وفي الجهة الشرقية للقلعة وفي أعلا البوابة الرئيسية وعند يمينها ويسارها ثمة أماكن كانت عبارة عن مأوى لحراس القلعة من الجيش النظامي في فترة حكم بيت حميد الدين وما زال يقطنها بعض حراس القلعة في الوقت الحالي كون المؤسسة العسكرية في اليمن ترفض تسليم القلعة لوزارة الثقافة أو للهيئة العامة للآثار .
شهدت ساحة القلعة مصرع بعض رموز الثورة ومازال هناك من يرشدك إلى مكان مصرع زيد الموشكي وهو شاعر وأديب وأحد مناضلي الثورة اليمنية ومن الرجال الذين تميزوا برباطة الجأش وقوة الشكيمة ومن الرجال الذين كانت كلماتهم عند مستوى أفعالهم وكذلك مصرع وزير الاقتصاد في انتفاضة الإمام عبد الله الوزير عام 48م ورجل الأعمال اليمني في الأربعينيات وممول الثوار الخادم غالب الوجيه ويقال وهو أمر غير مؤكد أنها شهدت مصرع الشيخ حميد حسين الاحمر أحد مشائخ حاشد وقد غضب عليه الإمام بعد عودته من روما وتتداول الذاكرة الشعبية زاملاً – والزامل لون من ألوان الأدب الشعبي في اليمن يعبر فيه عن الحال ويحدد في مضمونه موقفاً وينشد بشكل جماعي – يدعو إلى نكران بيعة الإمام ويصرح بإمامة حميد الأحمر بعد الإمام المنصور يحيى حميد الدين والد الإمام أحمد يقول الزامل :
إمامنا المنصور ومن بعده حميد *** سبحان ذي رد العوايد لأهلها
والشيخ حميد حسين الأحمر هو شقيق الشيخ عبد الله حسين الأحمر ، وهو شيخ قبيلة حاشد التي لعبت أدواراً كبيرة وصنعت أحداثاً تاريخية وصلت إلى حد العزل والتنصيب وقد ألمح الأستاذ / عبد الله البردوني عن ذلك في كتابة ” الثقافة الشعبية في اليمن ” .
– النفق :
في الجهة الشمالية الشرقية وعلى مقربة من المبنى الشامخ كما يصفه أحمد الشامي نفق أرضي سري يمتد إلى خارج أسوار القلعة من الجهة الشمالية ومخرجه عبارة عن نوبات دائرية الشكل تطل على شاهق من جهة الشرق يتعذر على الإنسان المرور بها كونها مسطحة ومتدحرجة يقال أن الإمام أحمد يحيى حميد الدين استحدثه ليعزز أسطورته بين عامة الناس والتي كانت قائمة على الخرافة واختراق العادات ويقال أنه كان يتواجد في القلعة دون أن يدري به أحد مما يسبب فزعاً وهلعاً في أوساط المتواجدين في القلعة من عسكر نظاميين وعامة .
وتتداول الذاكرة الشعبية في حجة أن الإمام أحمد يحيى حميد الدين كان يملك القدرة في السيطرة على الجن ويقال أن الجن كانوا ينقلون إليه كل ما يحدث بين عامة الناس وهم قادرون على نقله إلى أي مكان يريد، لذا أطلق عليه العامة مسمى ” أحمد يا جناه ” وربما كان لهذا النفق دور محمود في تعزيز تلك الأسطورة بين عامة الناس بحكم قدرته على التواجد في قلعة القاهرة بطريقة سرية وعبر النفق .
ومن ضمن الحكايات التي تحتفظ بها الذاكرة الشعبية في حجة عن الإمام احمد حميد الدين أنه طوق شجرة بالأغلال والأصفاد في منطقة بني قيس بحُجة أن تلك الشجرة كانت سبباً في سلب أحد تجار حجة أمواله إثر مبيته ليلة عند جذعها ويقال أن الجن أخبرته بالذي قام بالسلب إلا أن مشائخ المنطقة رفضوا تسليمه إلى العدالة وعلى إثر ذلك أرسل مجموعة من الجنود وأرسل إلى مشائخ المنطقة بأمر يقضى بتوفير متطلبات الجند المطوقين للشجرة حتى تتمكن الجن من القبض على الجاني وتقول الذاكرة أن مشائخ المنطقة آثروا تسليم الجاني خوفاً من بطش الإمام الذي هددهم وتوعدهم .
– مبنى القلعة :
يقع في وسط القلعة مبنى مكون من ثلاثة طوابق الراجح أن بناءه كان عام 1341هـ حسب إيحاء النحت الموجود على بابه الخشبي وقد أحتضن هذا المبنى كبار الشخصيات التي نزلت القاهرة كسجناء أمثال القاضي عبد الرحمن الإرياني ومحمد علي الأكوع والقاضي الأغبري ، وعبد الله عبد الوهاب الشماحي وأحمد الشامي وغيرهم كثر وقد نأتي على ذكرهم في سياق الموضوع مما يغني عن التكرار .
وربما كان الإمام ينوي من ذلك المبنى الإستئثار به لنفسه إذا ما ساءت الأحوال ولم يكن في العيش مندوحة من الأمل .
ظلت قلعة القاهرة تقوم بدور رئيسي في حركات التململ والانتفاضات الشعبية وتشكل واجهة دفاعية مهمة ورمزاً للقوة والنفوذ والتمكن وكانت ملاذاً آمناً للكثير من الثورات السياسية القائمة على التعصب المذهبي الذي ساد اليمن خلال عصور الانهيار والاجترار والثورات المتوالية والتطلعات المشرئبة إلى التسلط أو السلطة وقد لعبت أدواراً مهمه في تاريخ اليمن وإن كان دورها ظهر بشكل فاعل وقوي في فترة حكم بيت حميد الدين لليمن ( 1918- 1962 ) حيث أضحت منارة علمية وأدبية وثقافية لاحتضانها قادة الرأي والفكر والأدب وعلماء الدين وخاصة بعد انقلاب (فبراير 1948) الذي أودى بحياة حاكم اليمن حينها الإمام المتوكل على الله يحيى محمد حميد الدين وأفرزت تلك الانتفاضة صراعات دامية على إثر تمكن الناصر لدين الله احمد يحيى حميد الدين من استعادة عرش المملكة المتوكلية اليمنية وإراقة دماء قادة الانقلاب والزج بقادة الرأي من مثقفين وأدباء وعلماء دين أتون السجون وقد اتخذ من مدينة حجة مرجعية مكانية كونها شكلت نقطة الارتكاز التي انطلق منها كي يتمكن من استعادة عرش والده بعد أن أوهم الرأي العام أنه متجه صوب المملكة العربية السعودية طالباً حق اللجوء السياسي من جلالة الملك عبد العزيز ملك المملكة السعودية .
بعد انتفاضة 48 م والتي يحلو للبعض تسميتها بثورة 48 م احتضنت حجة مجموعة كبيرة من رجالات اليمن ومشائخها ومثقفيها وأدبائها ” وقد توزعوا على ثلاثة أماكن الأول حصن قاهرة حجة ” والثاني سجن نافع ” والثالث سجن المنصورة . ” والبعض منهم لقي حتفه ضرباً بالسيف بناءً على توجيهات الإمام والبعض الآخر ظل يرفس في قيوده وأغلاله ينتظر برقية الإمام التي تقضي بالإعدام ، وعاشت تلك الطليعة حياة بائسة خاصة أولئك الذين كان من نصيبهم سجن نافع الرهيب .
وحين تصدعت جدران سجن نافع بفعل إنهمار الأمطار الغزيرة على المدينة في بداية الخمسينيات وبالتحديد بعد عامين ونصف من نزول طلائع العمل الثوري ذلك السجن قضت توجيهات الإمام الناصر بنقل نزلائه إلى قاهرة حجة، يقول أحمد محمد الشامي “وبعد عامين ونصف عام نقلونا من سجن نافع الرهيب إلى معتقل القاهرة الذي يحتل أعلى قمة من قمم حجة وهناك التقينا بزملائنا , عبد الرحمن الإرياني , علي ناصر العنسي , أحمد المعلمي , إبراهيم بن علي الوزير , وإخوانه عباس وزيد وقاسم , ومحمد أحمد الوزير وابنه إبراهيم ومحمد بن عبد الله الوزير وأحمد بن محمد وإخوانه عبد الصمد وعباس وحسن الحوثي وعبد الملك المطاع ومن طلع معنا من نافع من القادة والأدباء واشتركنا في إقامة ندوات وحلقات ودراسات علمية وأدبية”.
تلك الكوكبة التي ذكرها أحمد محمد الشامي شكلت نواة التثاقف وعلى يديها تحولت قاهرة حجة من مكان يقوم بدور المدافع عن السيادة والسلطة والنفوذ إلى مكان يبث أشعة المعرفة , لتنبثق منه طلائع العمل التحرري فيما بعد حاملة في يديها مشاعل الانتصار للوطن يقول أحمد الشامي واصفاً المكان “وهي قلعة حصينة فيها مخازن للأسلحة والذخائر والحبوب وإلى جانب الدار وتوابعها أماكن الحراس , يوجد بها عدة برك ” صهاريج ” لحفظ مياه الأمطار ومسجد صغير .. وقد أودعوا في هذه القلعة الإمام عبد الله بن أحمد الوزير قائد انتفاضة مارس 48م وابن عمه الأمير علي بن عبد الله الوزير وسائر آل الوزير …. ) ويقول في مكان آخر ( …. تحسنت أحوال المعتقلين صحياً واجتماعياً ونفسياً عندما انتقلوا من نافع إلى قلعة ” قاهرة حجة ” وهي حصن يطل على سفوح حجة وفيه دار شامخة بجوار مسجد تحيط به عدة برك لخزن مياه الأمطار الموسمية وفيها مخازن ومستودعات للأسلحة والذخائر ,وثلة من الجند النظامي …) .
وعن نفس المكان تحدث المشير عبدالله السلال وهو أول رئيس جمهوري لليمن (1962-1967م ) في كتاب مركز الدراسات والبحوث اليمني المرسوم ” وثائق أولى على الثورة اليمنية قائلاً ” وبعد مضي مدة حسبناها من قسوتها وشدتها ربع قرن من الزمان مع أنها كانت عامين ونصف تقرر نقلنا إلى سجن ” قاهرة حجة ” الحصين في قصة غريبة وكانت هذه بالنسبة لنا الخطوة الأولى التي استعدنا فيها الشعور بالحياة حيث مر عامان علينا ونحن نتوقع الموت في كل يوم لأن سيف الطاغية – يقصد الإمام أحمد يحيى حميد الدين – كان مسلطاً على رقابنا ولأن من أعدم من زملائنا الأحرار كان على طبيعة ومزاج ورغبة الطاغية ، حيث لا يوجد حكم أو محاكمة ولم يسمح لأحد بالدفاع عن نفسه أو معرفة سبب إعدامه .
إلى جنة الدنيا … وذلك رغم أن الطاغية أمر بوضعنا في بادئ الأمر في حر البقرة وعزلنا عن إخواننا الذي سبقونا ومنهم القاضي عبد الرحمن الإرياني – هو الرئيس الجمهوري الثاني (1967-1974م) والقاضي محمد علي الأكوع – محقق كتاب الإكليل للهمداني – والأستاذ علي ناصر العنسي وفضيلة الأخ الشيخ الصفي محبوب والقاضي عبدالله الشماحي – مؤلف كتاب اليمن الإنسان والحضارة – ومن بقي من إخوان أولاد الشهداء آل الوزير حيث عشت ومعي بعض الأخوة الزملاء خمس سنوات في معتقل قاهرة حجة وقبلها سنتين ونصف في سجن نافع ).
أما القاضي عبدالرحمن الإرياني الرئيس الثاني للنظام الجمهوري في اليمن (1967 -1974) فقد تحدث عن المكان قائلاً ” وفي رمضان 1368هـ ، وبعد مرور سنة كاملة وأيام من انتقالنا إلى نافع ، مرضت مرضاً شديداً أشرف بي على الموت مما دفع بمدير السجن والزملاء المعتقلين إلى عرض حالتي على الإمام الذي أمر بنقلي إلى سجن القاهرة مع آخرين منهم الأخ المعلمي والأخ محمد علي الأكوع والقاضي عبدالله عبدالإله الأغبري والأستاذ علي العنسي … وهو كما تقدم أفضل كثيراً من سجن نافع الرهيب ” إلى أن يقول ” كان مناخ السجن بما فيه من انصراف إجباري عن هموم الحياة وشجونها فرصة طيبة لنمو حركة الثقافة بالإطلاع المستمر على كل جديد وبالإعمال الثقافية التي لم ير بعضها النور حتى اليوم .
وفي السجن فكرت والأخ القاضي عبدالله عبدالإله الأغبري رحمه الله في إخراج ديوان الآنسي ، وقد لفت نظرنا إلى هذا الديوان أنه يمثل النموذج الجيد في الشعر ” الحميني ” ..
يتضح مما سبق أن قاهرة حجة اكتسبت أهميتها كمعلم تاريخي من خلال ارتباطها بقادة العمل الثوري الذين أصبحوا فيما بعد قوة فاعلة في صنع الفعل الثوري وصنع الحدث وساهموا بحكم مواقعهم الريادية في قيادة اليمن سواء من أصبح منهم رئيساً للنظام الجديد القائم على أنقاض النظام القديم مثل المشير عبدالله السلال والقاضي عبدالرحمن الإرياني أو من تولى مناصب ثانوية في النظام الجمهوري وهم كثر أمثال عبد الله الشماحي وأحمد محمد الشامي والقاضي محمد علي الأكوع وغيرهم ولعل أهميتها تبرز بشكل أجلى وأوضح في الجانب الثقافي والأدبي .
مما حدا بالشاعر الكبير عبدالله البردوني ، إلى أن يطلق عليها مدرسة حجة الشعرية في كتابه ” رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه ” .
– النشاط الأدبي والثقافي في قلعة قاهرة حجة :
بعد أن سكنت النفوس واطمأنت والتقى المتباعدون سنحت بوارق الأمل لأولئك البائسين من السجناء أن يتنفسوا الصعداء وينتجوا المعارف بقدر ما تسنح به ظروف الاعتقال وتحولت قاهرة حجة إلى مدرسة علمية وثقافية وأدبية .
يقول الشاعر أحمد محمد الشامي ، ” كونا مجموعة فريدة فيهم العالم والمؤرخ والفقيه والشاعر والضابط والمقرئ والفنان والمهرج والظريف … ” إلى أن يقول ” وتحول السجن إلى مدرسة واشتغلت تلميذاً ومدرساً في وقت معاً فأمليت مع القاضي الشماحي الروض النضير شرح مجموعة الإمام زيد بن علي عليه السلام على العلامة حسن الحوثي وقرأت تفسير الإمام ” المنار ” على القاضي عبد الرحمن الإرياني وأملينا عشرات الكتب كالهدي النبوي لابن القيم وسيرة ابن هشام وبعض الأمهات وجزءاً من الكشاف وأمليت مغني اللبيب لابن هشام على القاضي العلامة محمد الأكوع وقرأت مع السيد محمد الغفاري ” نظام الغريب ” للإمام الرابعي نقابله على النسخة الأصلية ملك السيد حسن الحوثي ثم ضبطته وحققته وترجمت لبعض رجاله وكنت أدرس النحو الواضح والبلاغة الواضحة وتاريخ الأدب العربي للزيات والنثر الفني لمجموعة من الزملاء والتلاميذ ” إلى أن يقول ” وقرأنا بعض كتب التاريخ اليمني لعمارة والهمداني والدبيع والخزرجي وزبارة والجرافي ، وضجت القاهرة بالنقاش والجدل والحوار ، ولما وصلت إلينا كتب الأستاذ خالد محمد خالد ” من هنا نبدأ ” و” ومواطنون لا رعايا ” اشتد الجدل بين المختلفين رأياً وثقافة في حوار أدبي رائع وكونا ” الندوة الأدبية ” ومجلة ” السلوة ” .
– مدرسة حجة الشعرية :
من الثابت تاريخياً أن وجود الطليعة المثقفة داخل قلعة القاهرة بحجة لا سيما بعد انتفاضه 48م قد فجر الكوامن الشعرية عند معظم الأسماء الشعرية التي ارتبطت شعرياً بحركة التحرر يقول البردوني ” وقد تلاقى كل الشعراء إلى سجن حجة ، فتوحدوا توحد الزنود في القيد ، ثم توحد العصافير في الخميلة وإذا بسجن حجة يتحول إلى مدرسة شعرية تمد عهدها الأول وتستجد عهداً جديداً أو قريباً إلى الجديد ” وقد استضاف السجن معظم الأعلام الأدبية المعروفة وبعض تلك الأعلام الأدبية تعاملت مع القصيدة لأول مرة داخل جدران السجن الذي تحوَّل كما أسلفنا إلى مدرسة فكرية وأدبية، يقول البردوني ” فقد تحوَّل سجن حجة إلى مدرسة شعر ، تبارت فيها القرائح والنزاعات الأدبية حتى أدت إلى اختلاف الرأي في السياسية وذهاب المودة أحياناً مع ان اختلاف الرأي لا يذهب للود قضية إلا أن هذا الاختلاف والتكاره لم يمنع من الاستمرار في الشعر كل على طريقته ” ومهما اختلف مؤرخو الأدب حول مصطلح التسمية وجدلهم حول هذا التصنيف مع الأستاذ البردوني إلا أن الأمر يظل يحمل تلك الخصوصية المرجعية والمكانية ” .
يقول أحمد الشامي ” وفرض أدب حجة سلطانه حتى على عقول المبعدين الشاردين من أبناء اليمن فإذا بالشاعر محمد محمود الزبيري يدبج الرسائل البديعة مستعطفاً الإمام مستشفعاً إليه في ” نعمان ” وصحبه ….
ولعل المكان كان له دور محمود في بلورة نتاج ثقافي فرض وجوده في تاريخ الحركة الأدبية بقوة وجدارة وقد دلَّ على ذلك قول أحمد الشامي في مذكراته حيث يقول ” “هناك في قمة ذلك الجبل – يقصد القاهرة – وفي الجو المفعم بالنقاوة الصحية والحرية السماوية والإنطلاق الشعري وتهاويل المناظر الطبيعية .. وخاصة وقت الغروب … هناك نظم الشعراء أجمل قصائدهم وأروع ألحانهم .. وأغزروا ثقافتهم ووسعوا معلوماتهم بالقراءة والدرس والحوار …”
– ثمار النشاط الثقافي في قلعة القاهرة بحجة :
أثمر النشاط الثقافي والأدبي بقاهرة حجة في الفترة الممتدة بين (1948-1955م) مجموعة كبيرة من أنماط المعرفة المختلفة يمكن إيجازها كالتالي :
– إصدار مجلة الندوة الخطية .
– إصدار مجلة السلوة الخطية .
– تشكيل الندوة الأدبية برئاسة أحمد محمد الشامي .
– تأليف كتاب ” الإمام أحمد حميد الدين ” للشاعر أحمد محمد الشامي .
– تحقيق وضبط ديوان القاضي عبدالرحمن الآنسي الموسوم – ترجيع الأطيار بمراقص الأشعار – قام بتحقيقه وضبطه القاضي / عبدالرحمن الإرياني والقاضي عبدالإله الأغبري وطبع في أيام الإمام أحمد على نفقته – أي الإمام .
– ضبط و تحقيق ديوان الشاعر عمارة اليمني ، وقام بذلك القاضي محمد علي الأكوع والقاضي عبدالرحمن الإرياني .
– تحقيق وضبط بعض أجزاء كتاب الإكليل للهمداني وقام بتحقيقه القاضي محمد علي الأكوع .
أما في المجال الأدبي فقد كان نتاج تلك المرحلة كالتالي :
1- قصائد الاستعطافات للإمام لنزلاء سجن قلعة القاهرة نشر أحمد محمد الشامي ما نظمه هو وضمنها ديوانه الموسوم “ديوان الشامي ” .
2- قصائد الرثاء – وهي مجموعة من القصائد التي ترثي زملاء القيد الذين جزَّ رقابهم سيف الإمام وقد تميز الشاعر إبراهيم الحضراني بذلك أكثر من زملائه وله في ذلك غرر من مثل قوله في رثاء عبدالله الوزير :
عليك وإلا فالبكاء حرام *** وفيك وإلا فالرثاء آثام
3- مجموعة من القصائد عن ثورة يوليو بمصر ، صدرت في كتاب بعناية الشاعر أحمد عبدالرحمن المعلمي بعنوان ” ثورة مصر في الشعر اليمني ” .
4- مسابقات شعرية وفي مناسبات مختلفة تحدث عن بعضها الشاعر والكاتب أحمد محمد الشامي في كتابه ” مع الشعر اليمني المعاصر ” .
5- ملحمة من ألف بيت للقاضي عبدالرحمن الإرياني صدر بعضها في كتاب بعنوان ” ملحمة من سجون حجة ” بعناية أحمد عبدالرحمن المعلمي .
وغير ذلك مما هو طي النسيان أو الإهمال أو مما لم ير النور حتى الآن أو غاب عنا .
– انطباعات :
مساحة القلعة كما أسلفنا تصل إلى 700م2 وهي عبارة عن قمة تشرف على مدينة حجة عاصمة محافظة حجة ، هيأتها الظروف الطبيعية كي تكون مكاناً استراتيجياً وقد فطن العقل السياسي إلى أهمية الموقع لمدة السيطرة على الأجزاء المتأخمة والبعيدة ، فكانت أهميتها الاستراتيجية .
هذه القلعة حملتها أجنحة الظروف كي تكون معلماً ثقافياً متجاوزة وظيفتها الحربية إلى وظيفة أخرى كانت مصدر خلودها في ذاكرة الأجيال المتعاقبة كون البعد الثقافي والأدبي يشكل ذاكرة متسعة باعتبار المكان إحدى ركائز النص الإبداعي .
الزائر لقلعة القاهرة بحجة تدهشه روعة الطبيعة والجمال الخلاب ، الذي يبعث في النفس رفيفاً من السكينة والخلود ، وتدعو الفكر إلى التجوال في فضاء لا محدود من الإبداع الرباني الذي تدل بصماته المبثوثة على صدر الطبيعة الممتدة ، أن قدرة خفية وراء إبداع هذه اللوحة البديعة .
المصادر :
1- مجلة الفيصل السعودية الثفافية الشهرية عدد رقم ( 314) شعبان 1423هـ أكتوبر / نوفمبر 2002م للكاتب نفسه .
2- أحمد محمد الشامي ، رياح التغيير في اليمن ، الطبعة الأولى 1984م.
3- وثائق أولى عن الثورة اليمنية ، مركز الدراسات والبحوث – صنعاء ، الطبعة الأولى 1985م
4- عبدالله البردوني ، رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه ، الطبعة الأولى 1971م .