مساجد اندثرت وأخرى لا تزال تقاوم

مدينة الصلاة صنعاء القديمة بعشرات المآذن تصدح: الله أكبر

 

بعض المساجد ارتبط وجودها بحكايات ذات أثر أقواها الطفلان الشهيدان

إذا كان الجامع الكبير في صنعاء يمثل تحفة المعالم الاسلامية، فان هناك أيضا في مدينة الصلاة (صنعاء القديمة) عشرات المساجد شاهدة على التحولات، توثق ذكر أحداث شهدتها مراحل الاسلام في اطواره المختلفة على مدى عقوده المتتابعة يتوارثها الناس جيلا بعد جيل.
تذكر المصادر أنه كان في المدينة أكثر من مائة مسجد إلا أن المتواجد منها حاليا 37 مسجدا إضافة الى سبعة مساجد لم يبق منها إلا معالم وشاهد دالة عليها تُسمى “المساجد المنسية”
كل مسجد هناك له حكاية.. الباحث عدنان البليلي وأثناء تجوالنا في صنعاء القديمة نقلنا برصده الى بعض حكايات ومناسبات ارتبطت بعدد من تلك المساجد.

جامع الأربعين حلقة
بعد الجامع الكبير هناك جامع الفليحي ويعتبر من أقدم المساجد، في 400 ونيف للهجرة بناه احمد عبدالله الفليحي في قصة مشهورة له، حيث كان فقيرا جدا فكان يأتيه هاتفاً في المنام أن أذهب الى القاهرة وادخل مسجد الحسين وانظر في الخزانة التي بجوار المحراب ستجد كنزرا خذه وابن به مسجدا وكان هذا الحلم يراوده دائما حتى نصحه أحد العلماء بالذهاب الى القاهرة، وبالفعل ذهب الفليحي الى القاهرة بعد أن باع ممتلكاته واستبقى البيت الذي يحل فيها وحين دخل مسجد الحسين شاهد هذه الخزانة كما كان يخيل اليه في المنام، صلى العشاء في المسجد ولم يبارح، فأتى إليه المكلف فحكى له الحكاية ففاجأه المكلّف بمسجد الحسين رضوان الله عليه بالقول “وانا كذلك يأتيني في المنام حلم بأن اذهب الى اليمن فان فيها بيت شخص اسمه احمد عبدالله الفليحي وابحث في الدرجة الخامسة من الباب وستجد كنزا هناك لكني لم اصدقه، فأخذها احمد الفليحي وأسرها في نفسه وعاد قافلا الى بلاده وبالفعل بحث في بيته ووجد كنزا، فابتنى به الجامع الذي حمل اسمه، ويُذكر أنه اشترى في البداية الأرض التي سيقام عليها المسجد ولعدة مرات حتى يصح البيع وعند آخر شراء قال العبارة الشهيرة (كُمُل الفليحي) أي استكمل شراء الأرض كي يصح ويكون مباركا خالصا لله شأنه في ذلك شأن قبة المهدي المطلة على السايلة، ولذلك تجد في جامع الفليححي روحانية عجيبة جدا فريدة من نوعها، وفي صنعاء القديمة، يقولون “كُمُل الفليحي”، بمعنى تم واكتمل بناؤه، وهو أحد الأمثال المتداولة باللهجة الشعبية في العاصمة اليمنية، ويضرب المثل للإشارة إلى اكتمال الشيء وانتهائه.
واشتهر الجامع في فترة من الفترات بجامع “الأربعين حلقة”، حيث كانت تقام في الجامع عشرات الحلقات وصل عددها لأربعين حلقة، تُدَرس فيها معظم علوم الدين والعقيدة واللغة، ويقوم عليها علماء أجلاء في صنعاء، ويحضرها مئات الطلاب.
ويتكون الجامع من 3 أقسام رئيسية، ساحة الصلاة، وهي الجزء الرئيسي في الجامع، والقبة البيضاء، وهي عبارة عن مصلى صغير، ثم المدرسة، والتي كانت تسمى قديماً “المعلامة”، وكانت تقوم قديماً مقام المدارس الحكومية اليوم، ومنها تخرج عدد كبير من العلماء وطلاب العلم، وتحولت الآن لمدرسة حكومية لتعليم البنات من طلاب المرحلة الابتدائية.
وبحسب القاضي العلامة محمد بن أحمد الحجري، في كتابه “مساجد صنعاء.. عامرها وموفيها”، فقد شهد الجامع توسعات عدة، أهمها ما قام به الإمام المتوكل على الله شرف الدين بن يحيى (912 – 965 هـ / 1507 – 1558)، في الجهة الغربية والقبلية للجامع، في النصف الأول من القرن العاشر الهجري، وهو الذي بنى الحمامات وحفر البئر التابعة للجامع.
ثم شهد الجامع توسعتين يسيرتين، مطلع القرن الثاني عشر الهجري، ثم سنة 1170هجرية، قبل أن تأتي توسعة السيد محسن بن محمد فايع، في العام 1194هـ، وتاريخ التوسعة مكتوب بالجص في مقدمة الجامع.
وبجوار القبة، يقع ضريح الحاج الفليحي باني الجامع، إضافة لضريح الإمام محمد بن علي الشوكاني (1759 – 1834)، و3 آخرين.
ويقول عبد الخالق عكارس، موظف متقاعد وأحد سكان الحارة، إن “الجامع كان منارة للعلم إلى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، حيث تدخلت السياسة والأحزاب وقضت على دور الجوامع التعليمي”.
ويضيف عكارس: إن “أبرز العلماء الذين كانوا يدرسون في الجامع مفتي الجمهورية اليمنية أحمد زبارة (1325هـ – 1421هـ)، أول مفتي بعد الثورة (1962م)، والقاضي عبد الله السرحي (ت 1989م)، بالإضافة للقاضي محمد بن إسماعيل العمراني، مفتي الجمهورية، والذي كان يتجاوز الجوامع القريبة منه ويأتي لـ”الفليحي” ليدرس لطلابه فيه لما للجامع من مكانة خاصة في نفوس طلاب العلم”.

مسجد (الامام علي عليه السلام)
مسجد (الامام علي) عليه السلام الذي بني سنة 8 للهجرة عندما أتى أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكان يصلي في الجامع الكبير ويذهب الى سمسرة أم سعيد البزرجية وهناك كان ينام فاستحبت هذه الامرأة بعد أن غادر الإمام علي اليمن أن تحوله الى مسجد وستلاحظون الزخرفات على اركانه بالخط الكوفي، ويلفت الباحث الى أن “مدينة الكوفة أنشأت في سنة 38 للهجرة في حين أن الخط الكوفي الذي سمي بها إنما خط يمني حميري أصيل تم تطويره الى الخط العربي، إذ ظهر قبل بناء مدينة الكوفة بأكثر من 300 عام أو قبل ظهور الإسلام بشكل عام.”

مسجد (باب المصراع)
مسجد (باب المصراع) بني سنة 20 للهجرة وكان يعتبر كجبانة لمصلى العيدين ومناسبات أخرى استمر الى 1040 للهجرة حتى تم بناء مسجد الشهيدين، طبعا حدث في مسجد باب المصرع حادثة أليمة إذ تم قتل طفلين ظلما وعدواناهما قثم وعبدالرحمن أبناء عبيدالله بن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على يد بسر بن ارطأة والي معاوية في صنعاء، كان هذا الوالي شديد القسوة قتل الكثير في المدينة، وكان منهم الطفلان والمصحف بين ايديهما طبعا هذا المصحف مشهور ولا زالت دمائهما ماثلة عليه.

جامع (الشهيدين)
جامع (الشهيدين) والمقصود بهما الطفلان اللذان قتلهما بسر بن ارطأة، وقد بُني بدلا عن مسجد (باب المصراع ) سنة 1042 للهجرة بناه المؤيد بالله محمد بن القاسم المنصور بالله قام ببناءه وتعاقبت عليه التجديدات منها عام 1321 للهجرة قام بها سعد الربيدي وهو من كبار التجار في صنعاء، قام ببناء المطاهر الداخلية للجامع والقبة والقبة الخارجية للباب الرئيسي للجامع والزخرفات الموجودة حتى الآن، أما التجديدات الأخيرة تمثلت ببناء ملحق وتوسعة صرح الجامع وزيادة عدد المطاهير.

مسجد (المدرسة)
مسجد (المدرسة) يقال إن الذي بناه هو سعد بن ابي وقاص، ومسجد عقيل مرتبط بشخصية عرافة المسلمين وهو عقيل بن ابي طالب، مسجد الابهر مرتبط بالأئمة الزيدية وكان من المساجد ذات الحضوة في التاريح الاسلامي.

دين وسياسة
وعن الدور التنويري الذي كانت تلعبه هذه المساجد يقول الباحث البليل: كانت تقام فيها حلقات تعليمية لعلم التجويد في فن الترتيل، وهو ما كان يقوم به الاستاذ المرحوم علي الزبيدي في جامع الزمر مثلا، وفي جامع الشهيدين كان المقرئ المرحوم الصفي محبوب يقوم بتدريس القراءات السبع، وفي جامع الفليحي كان شيخ الاسلام حسين الغيثي يقوم بتدريس كافة العلوم من نهج البلاغة من الأشعار من القراءات السبع للقرآن حتى الحساب علوم الرياضيات، علم المقصات أو المعادلات الرياضية، واذكر أيضا من المعلمين الاستاذ المرحوم محمد المحاقري، والاستاذ الفقيه العالم سعود العشملي، والاستاذ الحورش، والاستاذ عبدالله تلها،، كذلك كان هناك في كل مسجد ملحق سكني لطالب العلم الذين يأتون من الأرياف من جميع أرجاء اليمن فيتم إسكانهم في هذه الملحقات، لم تكن المساجد دوراً للعبادة فقط وإنما للتوعية والتدريس، أما في الجامع الكبير فبعد كل دعامة هناك حلقة تعليم، كان يدرس فيها متن الازهار في فقه الأئمة الأطهار، شرح بن عقيل، جميع العلوم الفقهية والسيرة النبوية وعلم اللغة العربية، علم الكلام، علم البلاغة، كل شيء كان يُعلم في الجامع الكبير.
الباحث البليلي قال: إن هذه الحلقات العلم والذكر كانت قد توقفت رغم أنه ظل هناك تمسك باقامتها في الجامع الكبير وبعض الجوامع في صنعاء وتجددت خلال هذه الفترة.
ويرجئ الباحث توقف أو تراجع هذا النشاط الى “ظهور المعاهد العلمية” وقال “حين تدخل اساطين الدين زائدا بعض التوجهات السياسية من قبل السعودية اتجه كثير من الناس بأولادهم الى المعاهد العلمية بالتالي قل الاقبال على طلب العلم في المساجد .

منارات للدارسين
يتذكر الكاتب الصحفي أحمد الشاوش شيء من تلك ذلكم الأجواء فيقول: كانت المساجد فكانت منارات علمية للدارسين كالجامع الكبير وطلحة وقبة المهدي والمتوكل والنهرين وغيرها، وعشرات المساجد، فمن بعد صلاة العصر يتدارس الكثير من الناس العلوم الشرعية لدى العلماء ويقرأون القرآن، والفرائض والفقه واللغة وغير ذلك، حتى اقتراب وقت صلاة المغرب، وما بين صلاة المغرب والعشاء يتم قراءة القرآن وأحكام التجويد في شكل حلقة دائرية ثم يذهب كل إلى بيته بعد صلاة العشاء، يتكرر الأمر بعد صلاة الفجر، حيث يتدارس المصلون القرآن وأحكام التجويد وبعض المسائل الفقهية في شكل حلقة حتى شروق الشمس ثم يعود الناس إلى منازلهم لتناول فطور الصباح.

قد يعجبك ايضا