طه إسكندر: اكتشفت زيف شعارات “الإصلاح” الذي كنت انتمي إليه.. وما قيل عن أنصار الله “كذب”
انتمائي لـ”الاصلاح” لم يشفع لي فاعتقلوني لأكثر من عام
قطعوا عني الماء وصارعت الموت بسبب أشكال التعذيب
“أكثر من 1200 مختطف في مدينة مارب، أكثرهم طلاب ومرضى وتجار نهبت كل ممتلكاتهم”
لم يعد طه إسكندر (33 سنة) يتذكر التاريخ الذي اعتقل فيه غير أنه في العام 2018، نتيجة التعذيب المبرح الذي تعرض له في سجن الأمن السياسي بمحافظة مارب الخاضعة لسيطرة مليشيات حزب الإصلاح التابعة للعدوان السعودي الإماراتي الأمريكي على اليمن. يتحدث ببطء قائلاً: “نسّاني السجن الكثير”.
الثورة / عبدالقادر عثمان
يقول طه إنه كان في طريقه إلى مارب بعد يوم كامل من التهريب مشياً على الأقدام، مر خلاله بالسدة والنادرة في إب وقعطبة في الضالع، أملاً منه بالحصول على مكان بعيد أن أنصار الله، ويضيف في حديث إلى “الثورة”: “كنت خائفاً من أن يلقي أنصار الله القبض عليّ كوني من قيادات حزب الإصلاح في حزم العدين بإب وعائد من السعودية، فلجأت إلى مارب لأن فيها أصحابنا وهناك مكان ظننته مناسباً عن صنعاء التي سمعت أنه لا مكان فيها إلا للموالين للمسيرة القرآنية”.
هجوم على الفندق
بعد يومين من وصول إسكندر مدينة مارب، هجم طقم عسكري على الفنادق الذي يقيم فيه، “أخذوني على متن الطقم إلى إدارة الأمن عنوة وإلى جانبي شخص آخر، وهناك قال الضابط المستلم: “هذان ليسا مطلوبين، فرد عليه ضابط الطقم: “بما أنهما وصلا لا ينفع إعادتهما”” كما يقول طه ويضيف: “أمر الضابط المستلم بإعادتنا إلى الفندق، فأخذنا ضابط الطقم في جولة قصيرة وسط المدينة وأعادنا إلى إدارة الأمن مرة أخرى، وقال للمستلم: “تواصلت بالمدير وأمر باستلامهما”.
وفي مارب، “تنفّذ مجاميع عسكرية حملات مداهمات يومية على الفنادق والاستراحات والأماكن العامة، تعتقل خلالها مجموعات عشوائية من المتواجدين للتحقيق معهم، وكثير منهم يأخذونهم إلى إدارة الأمن أو محكمة مارب للتحقيق أو للسجن” بحسب أحد الشباب الذين بقوا في المدينة لأكثر من شهر في انتظار الحصول على جواز سفر. يضيف المصدر: “كنت وخمسة أصدقاء في أحد الفنادق حين فتح ضابط علينا الباب وبقي يحقق معنا حتى الفجر دون أن نعرف سبب ذلك”.
من هو إسكندر
بقي إسكندر ورفيق سجنه في إدارة الأمن 14 يوماً، قبل أن ينقل إلى سجن الأمن السياسي لتبدأ رحلة التحقيق معه وما تلاها من تعذيب. يقول لـ “الثورة”: “سألوني عن الانتماء فأخبرتهم أنني مسؤول حلقة التنظيم في حزب التجمع اليمني للإصلاح في مديرية الحزم (حزم العدين) بإب، وفي اليوم التالي بدأ الاستفزاز في التحقيق من خلال سؤالي عن بيع الحشيش وعلاقتي بالكرار الخيواني وآخر مرة التقيت به وعن اجتماعات وزارة الداخلية في صنعاء”.
يردف إسكندر أنه لم يكن قد سلّم حتى مجرد السلام على أي شخص ينتمي إلى أنصار الله، “أخبرتهم أني لا أعرف حتى من هو الكرار، كانوا ينهالون عليّ بالضرب والكهرباء ويكررون عليّ الأسئلة ذاتها”.
لعلهم يكذبون!
بقي طه في سجن الأمن السياسي 14 شهراً، يقول لـ “الثورة”: “للوهلة الأولى اعتقدت أنهم سيطلقون سراحي في اليوم التالي؛ فليس عليّ أي تهمة وكوني أحد أعضاء حزب الإصلاح، وظننت أنهم سيعاملونني معاملة خاصة، لكنها كانت خاصة بالشكل السلبي، فقد لاقيت من التعذيب ما لم ينله إلا القليل من المعتقلين الموصّى بمضاعفة العذاب لهم”، ويضيف “كان المعتقلون يخبرونني أنهم مظلومين وأنهم اعتقلوا من الطريق وليسوا مدانين. يحكون لي قصصهم المؤلمة من قلوب مجروحة، وأنا أنظر لهم على أنهم يكذبون”.
تناقض وسقوط
أسهب طه في سرد مأساة الذين خُطفوا بصوت مخنوق، ولسان حاله يقول: “وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام”، وأضاف: “لم أكن أتوقع أن أصحاب نظرية العدالة الاجتماعية والحقوق يمكن أن يفعلوا جزءً يسيراً مما ترتكبه أدواتهم في مارب بحق الأبرياء من أبناء وطنهم”.
وعزا سبب ذلك إلى أنهم ربما ينفذون أجندات فرضت عليهم من قبل العدوان، أو أنهم باعوا كرامتهم وتخلوا عن إنسانيتهم ودينهم وقيمهم في سبيل الحصول على المال أو السلطة، إذ “لم تكن معاملة السجّان في مارب للمعتقلين تمت إلى الإنسانية بصلة، حتى على مستوى المأكل والمشرب، كان الأكل سيئاً للغاية ولا يجبرنا على تناوله غير الجوع، وكان الماء من دورة المياه بشكل مستمر وبمعدل لترين في اليوم لكل معتقل للشراب والوضوء”، حد قوله.
حفلة تعذيب
من جانبه يقول إبراهيم سلبة، معتقل آخر رافق إسكندر في سجن الأمن المركزي، إنه ورفاقه انفجروا بالبكاء ذات يوم حينما شاهدوا “طه إسكندر والدم يغطي رأسه ووجهه وملابسه رغم أنه من المقربين وكان يقول لنا إنهم لن يلمسوا شعرة من جسده. ضربوه حتى فقدنا الأمل في تشافيه، كان ذلك بعد ثلاثة أشهر من اعتقاله.
عن ذلك يحكي طه “طلبت من المعتقلين في زنزانتي الإضراب عن الأكل السيئ احتجاجاً على قطع الماء لثلاثة أيام متواصلة، فعلم الضباط بذلك”. يبتلع ريقه بصعوبة ويضيف لـ “الثورة”: “سحبوني من ساقي وأخرجوني من الزنزانة إلى ساحة السجن الخارجية. لم أستوعب ذلك الموقف، كانوا أكثر من خمسة وبيد كل منهم قطعة معدنية أو خشبية أو بلاستيكية ينزل بها على جسدي دون رحمة، وهو يردد أهازيج الزراع (حجر وسيري). حتى فقدت الوعي”.
جراح كثيرة
بجسده النحيل يكشف طه رأسه ليرينا آثار الجراح الذي تركها التعذيب عليه. يشير إلى آثار جرح بحجم عود الثقاب، وبقايا جراح كثيرة، ويقول: “وصلت إلى مرحلة لم أعد قادرا فيها على تحريك أي طرف من أطرافي. لساني فقط كان يتحرك ببطء”، وقت ذاك تذكّر طه مظلومية رفقائه الذين كذّبهم في البداية حتى أصابه من جرعات الويل ما أصابهم.
يقول لـ “الثورة”: “استمر تعذيبي بعد ذلك بشكل يومي، كان أحدهم وهو رجل ضخم وملثّم، يصعد على صدري بينما أنا أصارع الموت. شاهدت الجانب المظلم من سيرة وأعمال الجماعة التي أنتمي لها وبدأت أعرف زيف الشعارات التي ترفعها وتحاول استثمارها سياسياً، كما تحاول لصق التهم بخصومها بينما هي أولى بها”.
بلا رحمة
إلى جانب طه، “ركل الجلاد معتقلاً آخر مؤيدًا لهم في عنقه حتى قتلوه”، كما يقول أحد الأسرى. وكانت “الثورة” نشرت في نوفمبر الماضي تحقيقاً عن التعذيب في سجون مارب أشارت فيه إلى تعرّض الملازم ضيف الله السوادي، التابع لقوات المرتزقة، للتعذيب في المعتقلات السرية بمحافظة مارب، حتى توفي”، وأشارت في التحقيق إلى أن السوادي أحيل من قبل قيادة الشرطة العسكرية التابعة لمرتزقة العدوان إلى الاستخبارات ومن ثم تم إخفاؤه حتى الوفاة.
ويتحدث عضو اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى والمعتقلين، أحمد أبو حمراء، عن أن هناك أكثر من 1200 مختطف في مدينة مارب، أكثرهم من الطلاب والمرضى والتجار الذين نهبت كل ممتلكاتهم”، مشيراً إلى أن اللجنة تبذل الكثير من الجهود لتحرير المختطفين، الذين تتخذ قوى المرتزقة من اعتقالهم وسيلة لإجراء عملية تبادل بالأسرى.
اعتذار وتهديد
بعد مرور سنة وما يزيد عن الشهر، استدعى المحققون طه إلى إدارة السجن واعتذروا له عن سجنه، يقول: “أخبروني أن ظروف الحرب رمت بي إلى ذلك وأن الحرب لم تترك بيتا إلا وتأذت ودعو أن يكون نصيب بيتي من الأذى ما لقيته فقط. وحين استفسرت عن سبب سجني قالوا: لعلك لا ترغب بالخروج. ففضلت الخروج صامتاً مظلوماً وبصدري غصة لا يعلمها أحد”.
عن ذكريات السجن المؤلمة يقول إسكندر إن مشاهد تعذيب الأطفال كانت الأكثر تأثيراً على نفسه، “لم يرفقوا بطفل قط رغم أن سجن الأمن السياسي ليس للأسرى بل للمعتقلين الأبرياء. كانوا يطفئون أعقاب السيجارة في أعناقهم”، ويضيف “بعض الأطفال كان لا زال يلعب بأغطية الماء، لكنهم لا يعرفون صغيراً كما لا يعرفون مسناً”. وبحسب المصدر فإن عدد الأطفال في العنبر الواحد يزيد عن الستة.
كما كان لتعذيب كبار السن تأثير على نفسية طه إسكندر، حيث شاهد معاناة المرضى المصابين بالربو والأمراض الصدرية مع ارتفاع درجة الحرارة في الزنزانة المزدحمة بالمعتقلين الذين مر على غسل ملابس بعضهم عدة أشهر.
رسالة
ويرى إسكندر أن على المجلس السياسي الأعلى تكثيف الجهود وتقديم التنازلات من أجل تحرير المعتقلين من سجون مارب، حتى إن تعنّت الطرف الآخر لأن ما يلقونه من تعذيب لا يمكن تصوره، وهم بحاجة إلى الحرية التي نشعر بها اليوم.
كما يرى أن من الواجب على أعضاء حزب الإصلاح أن يعطوا ولو ساعة من وقتهم لقراءة ما يقوله أنصار الله، مضيفاً: “لطالما سمعنا أن الملازم تشوّه الدين وتحرّف آيات القرآن الكريم، لكننا لم نقرأ أي منها، وبالتالي أقولها عن تجربة شخصية: اقرؤوا ما جاء فيها بعقولكم وستعرفون من أنصار الله.
ويزيد قائلاً: “الكلام الذي كنا نسمعه عنهم لا أساس له من الصحة، فما وجدت منهم إلا كل طيب في المعاملة، رغم أنني لم أنتم بعد لهم، بل ما زلت مواطناً أنتمي للشعب اليمني، إلا أنني لم أجد منهم التعامل على أساس لوني أو سلالي أو طائفي أو مذهبي كما كنت أسمع، ولو كان هناك تصرف ندمت عليه فهو أنني لم أحاول معرفتهم قبل هذا كله، ولو كنت عرفتهم أو قرأت لهم أو حاولت مجرد المحاولة لمعرفتهم لما اضطررت إلى الذهاب نحو مارب ولما اعتقلت وعذبت بأيدي الجماعة التي أنتمي لها”.
نقطة تحوّل
كان السجن بالنسبة لطه نقطة تحوّل في مسار حياته، أعاد فيها ترتيب حساباته الفكرية، حيث يقول لـ “الثورة”: “عرفت خلالها أين أقف وأين يجب أن أكون، واتضحت لي الرؤية أكثر فأكثر، وعلى الرغم من أنها تركت فيني أثراً نفسياً جراء التعذيب إلا أنها لم تضعفن، بل مدّتني بالقوة والشجاعة وكانت ثمنا للحرية التي لم أكن أشعر بها”.